عبد الرحيم التدلاوي - قراءة في ديوان "ما لا تقدر عليه الريح" للمبدعة التونسية؛ فاطمة بن محمود

صدر ديوان "ما لا تقدر عليه الريح" للمبدعة فاطمة بن محمود عن دار ميارة للنشر والتوزيع، تونس، في طبعته الأولى سنة 2019. في 108 صفحة، ويضم بين طياته سبعا وتسعين قصيدة.

العنوان:
يؤدي العنوان وظائف عديدة منها الوصفية والتعيينية والإيحائية، وهي وظائف تسبق العمل وتحمل تعليقات من الكاتب على النص، ولعله يحيطنا بخطوطه الكبرى. وعنوان مجموعتنا لا يشذ عن هذا المسار. فقد اختارت الكاتبة أن تشاكسنا بتركيب مثير لشهية التحليل "ما لم تقدر عليه الريح". فالريح ترمز في الغالب للشر، ولكل ما هو مدمر، بخلاف الرياح المعبرة عن الخصب والخير والجمال. وفي ابتداء الجملة ب"ما" الموصولة والمتبوعة ب"لا" النافية ما يوحي بأن ما سيأتي، أو المسكوت عنه، والمحفز على البحث عنه، يتحدى الريح، فلا تقدر على مواجهته، وبالتالي محوه. إن القدرة المنفية تستدعي تنقلب إلى عجز، وتصير منزوعة السلطان؛ هكذا تصبح الريح عاجزة بعد قوة بفعل حضور قوة أكبر منها وأنجح سبيلا. نفترض أن تكون الكتابة، هذا الفعل السحري الذي يحضن العالم في كلمات تبقى مستمرة الحضور ما استمر الإنسان على هذا الكوكب العجيب. ثم إن الجملة اسمية توحي بالثبات والصمود وبالتالي القدرة على المواجهة.
العنوان هنا فيه من الدلالات والإيحاء ما يجعل المتلقي يتساءل عمّا أرادت الشاعرة أن تقوله، وتدعو القارئ إلى القبض عليه، من خلاله.
منذ عتبتي الإهداء والاستهلال نجد حضور المثير والمدهش في آن؛ فالشاعرة تهدي عملها إلى كل أحد وإلى لا أحد، مستثمرة النفي الحاضر في العنوان في الإهداء، خالقة تضادا سلبيا يزرع التوتر في ذهن القارئ، يجعله في قلب الزوبعة المقصودة المبنية بعنصري الإثبات والنفي؛ عنصران يلحق الواحد منهما بالآخر فينفيه، بل يمحوه.
أما الاتسهلال فيعبر عن الحرقة التي تستشعرها الشاعرة جراء تحول الوطن سجنا كبيرا يعتقل الحرية، ويكسر روح الجمال. استهلال يؤكد انشغال الشاعرة بقضايا الحرية والجمال والمساواة...
استـهــلال

لأول مرة أرى سجنًا
يسعُ الفراشات
والأطفال
والأشجار
و المُدنْ،
أرى سِجنًا فَسِيـــــحًا
بحجم الوَطَن !
تبحث الشاعرة، بعد أن ضاق بها الوطن، عن وجود بديل لعالم مليء بالتناقضات ومظاهر الاستبداد والقتل والقمع.
تشعر الشاعرة، منذ عتبة الإهداء، بالاختناق نتيجة التضييق على الإنسان، وكسر توقه إلى معانقة الحرية بمعناها الأسمى، حيث يمكن أن ترفل في نعيم الجمال، محلقة كالفراشات. نصوصها مشحونة بالعاطفة والمشاعر القويّة والوجدانية النقيّة .
إنّ الذات الشاعرة هنا استطاعت أن تحلّق في مديات بعيدة وأن تتحرر من قيود الزمان والمكان في هذا بوح أقصى تجّلت فيه مقدرتها على صياغة لغة خاصة بها , وأن تعبّر عن ذاتيتها أصدق تعبير كون لغتها هذه هي الملاذ الذي تلوذ به من واقع تحاول الخروج من دائرته والانفلات بعيدا .

"ما لا تقدر عليه الريح"ديوان شعري، ممتع، ومؤثر.. يستثمر ممكنات السرد في النصوص الشعرية ليشكِّل لوحات بالغة الرهافة والعمق والجمال عن وضع الذات وصراعها في مواجهة قضايا الوجود، كالحرية والحب والصداقة والخوف ... وهي لوحات انتقتها الشاعرة من مخزون ذاكرتها وما رصدته عيناها في واقعها متعد ومتنوع الأشكال والألوان.
نصوص منتزعة من واقعها المادي والثقافي، ولكنها معطرة بسحر الخيال، معتمدة حرية التصرف في تشكيل عوالمها الخاصة والعامة في آن . وفق إيقاعات نبضها ومشاعرها وأحاسيسها، ونظرها إلى الذات والعالم. هذا التشكيل الحر والمقصود يمنح النصوص توهجا شعريا يعبر عن مشاعر شفيفة لروح طاهرة تتوق للانعتاق والتحرر؛ تتوق لوهج الحياة، والتحليق في رحابها.

بخفة الفراشات ورشاقة الغزلان تأتي إلينا القصائد فواحة تتضوع جمالا، لتفتح في وجوهنا أفق المستحيل داعية إيانا إلى ولوج المتعة عبر مدارج الدهشة؛ تقدم لنا النصوص كؤوسا من خمر اللغة المقترة والمقطرة للتعبير عما يخالج النفس ويعتمل في الروح.
من ذلك هذه النماذج المعبرة عن الرشاقة والجمال، والمحققة للمتعة والدهشة:
الحديقة المنسية

الوردة الّتي،
تتكئ على سور الحديقة
بخمول،
تضجّ بالبهجة
ما إنْ تدسّها يد عاشقة
بين طيّات كتاب.!
كلما دخل العاشق
الحديقة
تتمايل الورود...
غنجا.
تغريــــــه.!
الوردة
في يد عاشقة
تزهو
على بقية ورود الحديقة. ص68 و69.
هي ترنيمات عشق تؤكد انتصار الشاعرة للحب، وتظهر أن الفراشات لا تعيش إلا في أحداق الحدائق حيث نعيم الورد وشذى العطر والجمال.
والمثير للانتباه أن الشاعرة كثيرا ما اعتمدت ثيمة واحدة وقدمتها بأشكال وألوان مختلفة وكأن النصوص فراشات تحوم حول الشمعة المضيئة بما أنها هي محورها الجاذب والجذاب. ص70 و71 و72 و73...
إن من سمات النصوص الشعرية اعتمادها على التكثيف الشديد؛ فالشاعرة تدري دراية تامة أن التوهج في عالم الكتابة يمر عبر اقتصاد اللغة: الاقتضاب كنز لا تفنى دلالاته، وأيضا كثافته تفتن بما هي فتنة معاصرة تتحاشى التطويل أو الإطناب.

كما في قصيدتها متعددة الوجوه:
لقـطـات سينـمائـيـة

1

يدنو الممثل الشهير
تميل عليه الممثلة المثيرة
- متى تشتعل القُبلة بينهما ؟
يطول انتظاري،
من مطبخي رائحة الطعام المحترق
تتسرّب ببطء. !
لو كنتُ مكان الممثلة
لعوضت كل الكلام المهدور
بالقبلات..
وأفسدت السيناريو !
أحب أن أقول للمخرج : إنّه غبي. ص76. !
فالنصان مليئان بالجمل الفعلية، الباعثة على الحركة وتنوع الأحداث، لكن ذلك لم يخرج النص من جنة الشعر بل قدم له شحنة حركة وزوده بطاقة تعبيرية قوية. إن النصين مكتنزي الحدث لدرجة رغبة الشاعرة في إحداث تعديلات على المشهدين بما يحقق رغباتها الدفينة ويفطفئ نار انتظارها وتعطشها لماء القبل.؛ فحرارة القبل ستكون أقوى في شد الجمهور بدل الثرثرة المفرطة المعبرة عن ذبول العلاقة أو برودتها

يؤكد على الخيار الأوّلي أي البحث عن زمن الطفولة المفقود، أي تلك الثيمة المتكررة كواحدة من البنى الدلالية الكبرى في الشعر العالمي.

إنّ تغييب القبل الدالة على حرارة التواصل الإنساني وانصهار الذوات يعد محددا نوعيا قد يضر بالصورة بحيث يجعلها لا تستعيد خصوبتها في تفاعلها الأزلي ضمن بنيتها أولاً، وفي ما يفيض عن ارتوائها، ويسيل باتجاه القارئ ثانياً، والحديث عن هذا في الإطار الشعري الذي قدمته الشاعرة ليس معزولاً بالتأكيد عن ظرفها الخارجي تعيشه والذي أثّر في بنية صورتها الشعرية وجعلها أكثر من مجرد صورة تستند عليها القصيدة لتولد الدهشة، وللمكان دروه الرمزي المعبر عن الرغبة في الاحتضان نتيجة شعور الذات بالخواء؛ خواء المشاعر كونها امرأة مطبخ لإعداد الطعام؛ لا امرأة بمشاعر ومتطلبات حسية وروحية، فيدفعها هذا الخواء للبحث عن التعويض من خلال متابعة المشاهد السينمائية برغبة شحنها بما تريد وما يعبر عن حرمانها..

القصيدة تظهر لنا الشاعرة كامرأة وحيدة، نقية السريرة والرغبات وعلى تواصل كثيف بأناها المتفردة. تلك الكثافة إلتي حملتها إلى مطارح وجودية عصية على الاختراق والكشف، مانحة إياها، هي الأنثى الشاعرة والمرهفة، قدرة لافتة على ولوجها والاشتباك بثيماتها المثيرة والمربكة: متعطشة للحب.. نص كثيف يعبر عن عزلة الكائن، وتوقه لبلوغ الحرية البعيدة. شاعرة خجولة كانت ، وشاعرة بأدوات حاذقة. وكانت مكتفية بتلك الكثافة الروحية العالية وما تخطه من وحيها.
وفي السياق نفسه؛ سياق الحرمان، نجد النص الموالي معبرا عن رغبة دفينة في ذات الشاعرة تشحنها باقة سحرية في تغيير مسار الأحداث ومصيرها:
مخـاتـلــــة

من شُرفَة البيت..
أكتب:
أَرَى في الحَدِيقة طفلاً
يعدو،
ويَرتَمِي
في حُضن أمه.
لم يرقني المشهد،
أعود قليلا إلى الخلف :
أرى في الحديقة طِفلا
يَعدُو..
يتعثّر بظلّه ربما
يَرتَطِمُ بوجه الأرض
صَرخَتُه تجرح الفَضَاء،
الآن يبدو المشهد أفضل.
أنهي القصيدة
أرفع الطفل من سقطته
و أضمّه.. لي. !
لقد جاء التصرف في الأحداث ليوافق الرغبة؛ رغبة احتضان طفل. إشباعا لنداء الأمومة المؤجل بفعل الحرمان.
ويأتي نص "إحباط" كتكثيف لكل ما سبق؛ إنه أنشودة حزن ووجع نتيجة ثقل الانفصال:
إحـــبــاط

في هذا الحرّ الشديد،
عندما تسرّبت البُرودة
إلى قلبينا
أدركت أنه:
اللقاء الأخير.!
نجد أن رماد الحزن المنثور على النفس المصدومة كان نتيجة انكسار القلب بفعل الانفصال. وبرودة القلب ما هو إلا مؤشر فراق.
هذا القلب الذي ترك للأوغاد كي ينهشوه:
حقيقة

مثل كَلبٍ عَجُوز،
لم يَعُد يَقوى على النُبَاح
في وجه الغرباء،
أنزَوِي تحت جدار قديم
وأترُكَ الأَوغَادَ..
يَنهشُون قلبي.!
نشيد القلب المجروح.

وإذا كان الحرمان سيد النصوص السالفة؛ فإن الصداقة الزائفة تطل برأسها في نصي "نوافذ لا تفتح" معبرة عن مرارة الخداع والانفصال؛ هي الشاعرة التي تنشد حرارة الاتصال الانساني:

ابتسامة وداع

مثل عُلب السَردِين
و مكعّبات الجبن
الصداقات أيضا
لها تاريخ انتهاء الصلاحية.!

عين ثالثة

الكلمات الّتي وجدتها
في رسائِلِ الأصدقاء،
قشّرتها بشهيّة
مثل فاكهة أحبها.
أطلّت دودة..
من بين ألياف الكلمات. ص11.!
بيد أن بعض الأفعال السيئة قد تقود إلى الفرح بدل توليد الحزن والمرارة؛ أي تقود إلى عكسها:
نـهــــاية

عندما أفلتَ صديقي الحبل
الذي يشدّني،
أصبحت وحيدة وسط الأمواج
أذكرُ جَيدا أني لم أصمد
طويلا
بدأت أتهاوى ببطء
نحو قاع البحر
بَقِيَتْ صرختي جافة في حلقي
لم يخطر ببالي أنّها نهايتي،
مررتُ بقروش كبيرة
تحوم حولي
لم أشعر بالخوف
كنتُ منشغلة كليا
بالأسماك الصغيرة والملونة
حتّى أن عينيّ ظلتا مفتوحتين
من شدة الانبهار !
تحول المشهد من بعده المأساوي جراء فعل الصديق وما أحاط الذات من موت إلى مشهد يبعث على الفرحة نتيجة حضور أسماك صغيرة بألوان تبعث على البهجة، مع حضور المفارقة بين ما يشعر بالموت، القروش، وما يشعر بالحياة، الأسماك الملونة الصغيرة. وانفتاح العينين من شدة الانبهار قد يرتبط بالمشاهد المفرحة وقد يرتبط بفعل الصديق الخائن، أو قد يرتبط بفشل المخطط الرامي إلى قتل الساردة.
من هنا تتولد الرغبة لدى الشاعرة في أن تكون مثل المتشرد الذي غبطه على حريته:
حــظ سـعــيـد

ليس له رب عمل
ليس له إله يطلّ بين السحب
ليس له بيت و لا عائلة،
للمتشرّد الحرية التامة
ليضطجع على الرصيف ( مثلا )
و يحدّق في السماء. ص19.!
تأتي بعض النصوص كمشاهد التقطتها عين كاميرا حاذقة، تعرف مكمن الجمال، فتنقله إلى القارئ ليشعر بذبذبات التفاصيل:
شـجـن الرصــيـف

الرصيف الذي
يتحمّل يوميا كل هذه
الخطى،
يتبوّل عليه الأطفال والسكارى
تُلقى فيه أكياس القمامة
ويُرمى بالشتائم والبصاق
و الكلمات الممزقة،
هذا الرصيف المهمل تماما
تطلّ عليه زهرة من شقوق الجدار..
تـواســــيــــــــــــــه. ص24.!
الشاعرة تمنحنا مشهدا يحمل درسا في لا مبالاة الناس بالأشياء المحيطة بهم، ولا يقدمون المواساة الإنسانية المطلوبة، لتتكفل الزهرة بذلك.
وللخروج من دائة اللامبالاة والجفاء وبرودة العلاقات وخيبات القلب، تحتمي الشاعرة بالطفولة؛ ذلك النبع الأولي المتميز بصفائه ونقائه وطهارته، حتى تحقق لنفسها التوازن المطلوب معضدا بقدراتها على رسم ما تريد، وتعديل ما تريد، طبعا، وفق رغبات الذات في بناء عالم جميل يطفح بالمحبة:
طـفـلة كبيـــرة

أذهب للحب امرأة
وأعود منه طفلة،
تجرّ خلفها ألعابها
وقططها وفراشاتها..
أجرّ كذبة الحب الصادقة
ولا عزاء لامرأة ناضجة
تحمل شغب الطفولة
ورصانة واهمة. !

اللغة الشعرية لغة رمزية، أسطورية، سحرية. لغة تميل إلى الإيحاءات والمماثلة والاستعارة. لغة الشعر تستهدف التعبير عن حقيقة الذات، وحقيقة الوجود والعلاقة بينهما.
من هنا، فإن الشعر ما هو إلا محاول الإمساك بالعالم، وإنجاز مهمة الشعر الروحية هي التعبير عن لغز الوجود. لذا، نجد أن الشاعرة لا تستعرض ذاتها، بل إنها تتوارى تاركة الأنا الشاعرة تعبر عن القلق المستمر الذي يسكنها.
تمارس التنقيب عن الكلمات والتعابير والدلالات ، وعندما تجد ضالتها تنكب على نقشها ونحتها بدقة العارف والماهر. إن قصائدها القصيرة، المعبرة عن الحب والصادقة ، ومواضيع أخرى شتى، هي ومضات هاربة. إنها أنهار متدفقة من الشعر تخفي ما يعتمل داخلها من اهتزازات واضطرابات كأنها أمواج عاتية.
كل قصيدة من قصائدها هي برق لكنه ليس عابرا وسريع الزوال. كما أن لغتها العميقة النابعة من أعماق الذات ، لا تكف عن التصريح بانتمائها الفني وتشبثها بالأرض
. لم تركز الشاعرة على ثيمة واحدة في ديوانها، وإنما تغنت بحب الحياة، واحتفت بالصداقة الصادقة، واهتمت بقلق الموت، والعاطفة والعلاقة بذاتها وبالآخرين، كما اهتمت بالتفكير في اللغة والكتابة وتعريف الشعر، إلى غير ذلك.
تنقل للقارئ القلق الناجم عن العجز عن قول ما هو جوهري، وعن عدم القدرة عن الإمساك بواقع منفلت باستمرار. إلا أنها تعتبر مع ذلك، أن اللغة الشعرية تبقى الوسيلة الأفضل للتعبير الجمالي عن تجربة العالم وتقاسمها، موقنة أن الكتابة الشعرية والعلاقت الإنسانية المطبوعة بالصدق والمحبة هي ما سينقد العالم.
قصائدها تنديد بالزيف والخداع والعنف الذي يعج بها العالم؛
إنها صاحبة صوت شعري فريد، يتميز بالاقتضاب وببساطة التعبير ووضوحه وبالخيال الجامح.

**
ملحوظة: بعض الفقراءت الواردة في القراءة هي من قراءت أضعت مظانها. لذا، وجب النبيه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى