زهور بن السيد - المسرح بين النص والعرض في النقد المسرحي المغربي

إن طرح قضية المسرح بين النص والعرض يرجع أساسا إلى طبيعة العمل المسرحي, إذ يتشكل من نص يحمل خصائص أدبية, وعرض تؤسسه مجموعة من التخصصات والمهارات الفنية والتقنية. فيصعب الحسم حول ما إذا كانت الصفات الأدبية هي التي تحدده, أم الخصائص الفنية هي التي تعكس خصوصيته.
ولفهم هذه القضية سأعمل أولا على تتبعها في المسرح الغربي, ثم رصد مظاهرها في المسرح العربي بصفة عامة والمسرح المغربي بصفة خاصة.

1 ـ ثنائية النص والعرض في المسرح الغربي:
إن استقراء الدراسات والأبحاث التي تطرقت لثنائية النص/ العرض في الغرب, يجلي موقفين متباينين إزاءها:
ü موقف يؤكد على أن المسرح نوع من الأنواع الأدبية, يقوم على نص مكتوب يحمل خصائص أدبية, ويشكل المنطلق الأساسي لعملية إنتاج العروض, كما يمكن الاكتفاء بقراءته وتحصيل المتعة منه, تماما كما تحصل عند قراءة نص روائي أو شعري...
ü وموقف يرى بأن المسرح ممارسة وتجسيد فوق الخشبة بالدرجة الأولى, وأن النص مجرد عنصر من عناصر العرض. وقد دافع أصحاب هذا الرأي عن مركزية العرض في المسرح, ودعوا إلى التخفيف من سلطة النص أو إلغائه بصفة نهائية.

حظي النص المسرحي منذ أسخيلوس حتى القرن التاسع عشر بعناية كبيرة, حيث اعتبر من طرف مجموعة من الدارسين والمؤلفين, جوهر العملية الإبداعية المسرحية, هو منطلق العرض ونواته, وهو الذي يمنح المسرح قيمته الأساسية.
ويقصد بالنص المسرحي, العمل الذي ينتجه المؤلف, ويقوم أساسا على اللغة, ويتوجه به صاحبه إلى القارئ سواء إلى القارئ العادي أو إلى القارئ المخرج.
وأذكر من الدارسين الذين دافعوا بشدة عن مركزية النص في العمل المسرحي: (ألكسندر دوما) (الإبن) Alexandre dumas (1895 ـ 182) والكاتب الفرنسي (هنري بيك) Henry Beque (1837 ـ 1899) و(جورج كورتلين)George Courteline (1858 ـ 1929) وغيرهم.
ويرى هؤلاء أن النصوص الجيدة تحقق فائدة ومتعة تفوق فائدة ومتعة المشاهدة, ويختزلون دور العرض في كونه مجرد ترجمة للنص أو قراءة تفسيرية له, تقوم على تشخيص الأحداث الواردة في النص المسرحي, فيصبح العرض في هذا المنظور "قراءة ثانية جماعية بالنسبة للذين لا يريدون أو لا يعرفون القراءة"[1]
ويحرص أنصار النص على جودة النصوص المسرحية من الناحية الأسلوبية والبلاغية والخطابية, لأن "الامتحان الحقيقي للعمل الدرامي ليس هو العرض, فالعمل الجيد يجب أن يصمد أمام الامتحان الآخر الذي هو غياب العرض, على كل حال العمل الجيد ليس بحاجة على الإطلاق إلى العرض."[2]
يتضح مما سبق أن النص يحتل مكانة مركزية في العملية المسرحية, ويظل وثيقة خالدة تحافظ على الحدث المسرحي, أما العرض فيأتي في المرتبة الثانية, تقتصر وظيفته على تجسيد النص وتفسيره, كما أنه ينتهي ويتلاشى بانتهاء مدة التشخيص.
المخرجون أيضا كرسوا هذا الفهم لأنهم ظلوا, ولفترة طويلة, يسخرون كل إمكاناتهم الإبداعية لتجسيد النص, وترجمته إلى مجموعة من الممارسات الحية على خشبة المسرح[3], وكان الإخراج بذلك "عملية ثانية لاحقة للنص المسرحي تعنى بتحويله إلى عرض."[4] الممثل بدوره كان منخرطا في خدمة النص, إذ كانت الشروط الواجب توفرها فيه هي الإلقاء والأداء الجيدين لإظهار مقومات النص الأدبية والجمالية.
لقد ظل النص في المسرح العالمي سيد العملية الإبداعية المسرحية, إلى أن استجدت مجموعة من العوامل التي أدت إلى تجاوز التصورات التقليدية التي تؤكد على أولوية النص, ومنها ظهور مفهوم الإخراج في نهاية القرن التاسع عشر وتطوره, ووسائل الاتصال المسموعة ـ المرئية مثل السينما والتلفزيون التي أدت كما يقول (جوليان هيلتون) إلى "تغيير القاعدة التي ترتكز عليها الثقافة, من قاعدة نصية (أي الكلمة والنصوص المكتوبة) إلى قاعدة مسموعة مرئية (أي تعتمد على الصوت والصورة)"[5]
وأدرك المسرحيون أن اللغة الأدبية ليست هي لغة المسرح, وإنما عناصر التشخيص على الخشبة هي ما يمنحه الخصوصية. وبدأت هذه الأفكار تتبلور منذ مطلع القرن العشرين في شكل تجارب طليعية تدعو إلى تقليص دور الكاتب والنص في المسرح, قادها في الاتحاد السوفيتي كل من (ستانسلافسكي) و(مايرهولد), وفي أوروبا كل من (رينهارت) و(كريج) و(أبيا),ومثلها في أمريكا: (آرثر ميللر) و(إدوارد ألبي) وغيرهم.
ومن بين الطروحات الرائدة في هذا الصدد نجد:
ــ تقنية الحذف والإلغاء التي أحدثها (جروتوفسكي), أي حذف وإلغاء كل ما لا يحتاج المسرح إليه وبتعبير آخر "تخليص المسرح من أثقاله الدخيلة عليه."[6] والإشارة هنا إلى النص. أما العناصر الأساسية التي لا يمكن للمسرح أن يقوم بدونها, فهي الممثل والجمهور والعلاقة الحية التي تجمع بينهما.
ــ أما (مايرهولد) فقد دعا إلى إلغاء حصانة المؤلف, أي الحد من هيمنة النص في العملية المسرحية, فقد "تنبأ بنهاية الآداب المسرحية"[7]
ــ ويعرف المخرج (بتربروك), المسرح على أنه "خشبة مسرح: مساحة فارغة" وهو المكان الذي يقف عليه الممثل أمام جمهور ليؤدي عرضا يتمحور حول فكرة ما.[8] وهذا يفضي إلى القول إن عناصر العرض بدأت تحتل مكانا محوريا في تعريف المسرح.
ــ (كوردن كريج), وهو أحد أبرز الذين يرون أن العودة بالمسرح إلى أصوله وينابيعه الأولى, المتمثلة في الحركة والرقص والإيماءات, هي التي تمنحه خصوصيته وتعبر عن حقيقته, لذلك دعا إلى المسرحية الصامتة الشاعرية, وفي ذلك إقصاء واضح للكلمة التي لم يعد دورها رئيسا في العمل المسرحي.
ــ أما (أدولف أبيا), فقد اعتبر "المؤلفين كتاب كلمات لا يهتمون برسم الحركة المسرحية أو أنهم يقيدون العاملين في المسرح بنصوصهم وكأنها هدف لذاته."[9]
ــ وتعد نظرية (أنتونان أرتو) من أهم النظريات التجديدية في المسرح الغربي, ومن أقوى المواقف ضد النص والأدبية في المسرح, لأن (أرتو) لم يكتف باعتبار النص مجرد عنصر من عناصر العرض, ولكنه رفض سلطة اللغة التي يفرضها الكاتب, ودعا إلى العودة إلى أصول المسرح وهي التي تتصل بالإخراج[10], وإبعاد الكاتب في العمل المسرحي, وتعويضه بالمخرج من أجل خلق لغة مختلفة ومتميزة عن لغة الكاتب المسرحي الذي يهتم بإنتاج المفاهيم, لذلك فهو يدعو إلى "ترك تمثيل المسرحيات المكتوبة, وإلى محاولة القيام بتجربة الإخراج المباشر للموضوعات والوقائع والمؤلفات المعروفة, ذلك أن طبيعة القاعة ووضعها يتطلبان العرض, وليس هناك موضوع, مهما اتسع يمكن أن نمنع من إخراجه"[11].
وانطلاقا من النصف الثاني من القرن العشرين, اعتبر العرض من طرف المخرجين أمثال (فسيفولد مييرهولد) (1874 ـ 1940) و(ألكسندر تايروف) (1885 ـ 1950), عملا إبداعيا مستقلا عن عمل الكاتب, وظهرت اتجاهات ومدارس إخراج عديدة, وأصبح المخرج يتبوأ مكانة تضاهي أو تفوق مكانة المؤلف المسرحي, إذ لم يعد يقدس النص بل أصبح ينطلق ليبني قراءته الخاصة, ويتصرف فيه أحيانا لإنتاج نص جديد وبرؤية جديدة.
وتجدر الإشارة أيضا إلى أن تطور مفهوم الإخراج أدى إلى تطور مجموعة من المفاهيم وعلى رأسها: الممثل وأداؤه, إذ تحول التركيز في دور الممثل من حسن الإلقاء إلى الاهتمام بالأداء الجسدي والحركي. ويعتبر (ستانسلافسكي) "أول مخرج اهتم بإعداد الممثل واعتبره عملية بحث متكاملة حول الدور, وليس تدريبا على الإلقاء."[12] وقد ظهرت تجارب أخرى تهتم بإعداد الممثل نذكر منها, تجربة البولوني (جيرزي جروتوفسي) وأسلوب الألماني (برتولد بريشت) (1956 – 1898) في إشراك الممثل في القراءة الدراماتورجية للنص المسرحي.[13]
كما أحدثت تخصصات جديدة في إطار هذا التحول, كمهندسي الديكور والإنارة والملابس... وتطورت مفاهيم أخرى, تبعا لتطور مفهوم الإخراج, كالمكان المسرحي والكتابة المسرحية والدراماتورجية.
إن الثورة على النص المسرحي هي أبرز مظاهر التجديد التي عرفها المسرح في القرن العشرين, والتي قادها بالإضافة إلى الأسماء المذكورة, باحثون ومبدعون ومخرجون ونقاد عديدون[14], قاسمهم المشترك هو التركيز على ما يخصص المسرح من عناصر لها صلة وثيقة بالعرض.

2 ـ ثنائية النص والعرض في المسرح المغربي:
لقد تأخرت مناقشة مجموعة من القضايا المسرحية في الوطن العربي, مثلما تأخر فيه ميلاد المسرح بمعناه الأوربي. ففي الوقت الذي طرحت قضية المسرح بين النص والعرض في الغرب, وأفضت المناقشات إلى بروز اتجاهات عديدة تقر في النهاية بأن الجمال الحقيقي للمسرح هو الفن وليس الأدب, ما يزال العرب كتابا ومخرجين وممثلين يقدسون النص المسرحي, غير مهتمين بباقي عناصر العرض (الإخراج والتمثيل والديكور...), ووسائل التعبير الأخرى التي تدخل في بناء العرض, كالرقص والموسيقى والإيماءات والتشكيل..., بالرغم من قدرتها الكبيرة في التعبير والتأثير في المتلقي.
أما العوامل التي تجعل من النص المسرحي محور العملية المسرحية في العالم العربي فأجملها في النقاط التالية:
ــ إعطاء أهمية كبرى للتأليف على حساب العناصر الأخرى, إذ كانت تنظم مباريات وتخصص جوائز للتأليف المسرحي, في حين لم يحظ الإخراج ولا باقي العناصر الأخرى كالتمثيل, والديكور وغيرها بمثل هذا الاهتمام.
ــ المضامين التاريخية والبطولية والقضايا المرتبطة بالسياسية والأوضاع الاجتماعية المترتبة عن الاستعمار, تستدعي خطبا سياسية واجتماعية وأخلاقية, أي كلاما منمقا يؤجج المشاعر ويلهبها ولا يتطلب أثناء العرض أكثر من ممثل يجيد الإلقاء.
ــ احتكار الأدوار والاختصاصات, إذ غالبا ما يقوم كتاب المسرحيات بباقي الاختصاصات, الإخراج والتمثيل في آن واحد, وبذلك يسيطر فكر الكاتب وإبداعه الأدبي وتصوره على باقي عناصر العرض, ويغيب إبداع وفكر وتصور كل من المخرج والممثل.
ــ المخرج والممثل في خدمة النص المسرحي: ظل المخرج يراهن على توظيف إمكانات وطاقات الممثل الفكرية والجسمانية والإلقائية لتبليغ مضامين النص المسرحي ومواقف الكاتب إلى المتلقي.
ــ الجمهور أيضا كرس هذا الوضع ـ هيمنة النص ـ لأنه ظل يستحسن الأساليب والخطب التاريخية والسياسية والأخلاقية, ولم يفرض نوعا مغايرا من الفرجة المسرحية التي تتغلب فيها الحركة على الكلمة.
ــ تكتفي برامج التعليم في المعاهد المسرحية وفي الجامعات بدراسة النصوص المسرحية مثلما تدرس نصوص الشعر والرواية والقصة, ونادرا ما تتجاوزها إلى دراسة العروض. هذا إضافة إلى غياب تخصصات بهذه المؤسسات كتخصص النقد المسرحي والإخراج...
يضاف إلى هذا كله ضعف الإطار الثقافي والنقدي, أي غياب ثقافة مسرحية تعرف بتقنيات الخشبة, كما أن وظائف المسرح في الثقافة العربية محدودة جدا خاصة في المراحل الأولى من نشأته.
إلا أن هذا الوضع لم يدم طويلا إذ بدأ النقاد والمسرحيون العرب يناقشون قضايا مسرحية كبرى, ومن ضمنها ثنائية النص والعرض, التي فرضت نفسها أمام التحديات والإنجازات التجريبية الغربية بهدف تجديد هياكل وأساليب المسرح التقليدية.
وتجدر الإشارة إلى أن المهتمين المسرحيين العرب, رغم اطلاعهم على التوجهات الغربية الرافضة لسلطة الأدبية في المسرح وتأثرهم بها, لم يذهبوا أبعد من القول بالتكامل. فقد اعتبروا النص والعرض عنصرين مهمين في العمل المسرحي, يكمل أحدهما الآخر.
إلا أن الشيء الإيجابي الذي نسجله, هو أن العديد من الباحثين العرب أصبحوا مقتنعين بأن المسرح ليس جنسا أدبيا, وأن الفعل والحركة ومكونات العرض الأخرى هي ما يمنح المسرح خصوصيته, ودعوا إلى عدم التركز على الخاصية الأدبية في تعريفنا للمسرح و"أن نكف عن تبجيل الأدب في العرض المسرحي."[15].
وإذا كانت هذه رؤية عامة حول قضية النص والعرض في النقد المسرحي العربي, فإن النقاد والمسرحيين المغاربة لم يكونوا بمنأى عن مناقشة القضايا والإشكالات المسرحية, فما مواقف هؤلاء من ثنائية النص والعرض؟
لقد كان المسرح في منظور المبدعين والنقاد المسرحيين المغاربة يرتكز بشكل أساسي على النص المكتوب وعلى ما يتضمنه من أفكار ومواقف, الشيء الذي يجعل من العرض منبرا خطابيا ويجعل من الممثل قناة لتمرير أفكار وتصورات الكاتب.
لكن هذا الوضع لم يكن سوى حالة غير مستقرة, بسبب حداثة المسرح في المغرب, وضعف الإطار المعرفي والثقافي الذي نشأ فيه, وانشغال المثقفين بالسياسة والنضال الوطني, إذ سرعان ما بدأ هذا الوضع يتغير بفعل الانفتاح على الثقافة الغربية, فأصبح المسرح والدراسة المسرحية يتمان وفق نماذج وتصورات المسرح والنقد الغربيين, فقد تمت استعارة مجموعة من الفرضيات وإثارة جملة من الإشكالات وعلى رأسها إشكالية النص والعرض.
ومن هذا المنطلق بدأت تتحول هذه الصورة التي تجعل من النص عنصرا أساسيا في العمل المسرحي, إلى صورة مغايرة تنظر إلى النص على أنه مجرد مكون من مكونات العرض, وتعتبر العرض أهم عنصر يميز المسرح عن الأجناس الإبداعية الأخرى.
وفي هذا الصدد يرى (رشيد بناني) أن النص "ليس العنصر الأساسي الذي تكون كافة العناصر المسرحية الأخرى ملحقة به, وإنما هو عنصر أدبي لغوي يدخل في نسق مركب مع العناصر الأخرى التي يتكون منها العرض."[16]
ويرى (الدكتور يونس لوليدي) أن النص, رغم كونه مهما وضروريا لأنه مركز الفكرة المسرحية, إلا أنه يظل عنصرا "غير كاف لأنه ليس إلا دعوة إلى الوجود, أما الوجود بالفعل فلا يتحقق إلا من خلال العرض وما يزخر به من حياة وصراع وإيقاع وأصوات وحركات وألوان."[17]
واعتبر العرض من طرف المبدعين المسرحيين المغاربة عنصرا فعالا يخرج النص من السكون إلى مجال الحياة. يرى (محمد مسكين) أن النص لا يجب أن يبقى في حدود الكتابة وأما العرض فهو البديل الذي يتحقق فيه انتقال اللغة من المجال المكتوب إلى المجال المنطوق والذي يحدده ب: "مجال الأنفاس والألسنة والهواء"[18]
أما المسرحي المبدع (عبد الكريم برشيد), فيقول أن اختياره للمسرح كمجال لإبداعاته هو"اختيار الإبداع الحي, أي لتلك الثقافة التي تمشي وتنطق وتحاور الناس ـ في المكان والزمان الذي يتجمع فيه الناس ـ فالمسرح ليس كلاما, ليس كتابة وإنما هو فعل حيوية نعيشه ونحياه."[19]
لقد انخرط المسرح المغربي في تيار التجريب منذ السبعينيات من القرن الماضي, نتج عن ذلك ظهور تجارب واتجاهات وتنظيرات مسرحية ممثلة في مساهمات الهواة, قيمتها أن عملت على بلورة فهم جديد للفن المسرحي ولوظائفه ولعنصريه الرئيسيين: النص والعرض. هذا الفهم يقوم في أساسه على تجاوز الوضع السائد الذي يجعل من المسرح قناة لتمرير الخطابات السياسية, إلى خلق أساليب جديدة تعبر عن مختلف المواضيع الاجتماعية والإنسانية, في ضوء تصورات جديدة للأشكال والصيغ المسرحية التي اتجهت نحو استثمار مخزون الذاكرة الجمعية وتوظيف الدراما الغربية.
يتضح من المواقف السابقة أن العرض هو الذي يحدد وجود المسرح وليس النص. فالعرض إذن عمل يظل متفردا في الممارسة المسرحية ويعمل بإمكانات غير إمكانات الأدب وبوسائل فنية وتقنية عديدة, فإلى جانب الكلمة هناك الحركة والصوت والديكور والإنارة ووسائل أخرى غيرها تنتج ما لا نهاية له من العلامات والدلالات.
وبالرغم من هذا كله, فإن منظور المسرحيين المغاربة يظل متمسكا ببقاء النص كعنصر من عناصر المسرح التي لا يمكن أن يقوم بدونها, إذ ما يزال النص يحتفظ بحضوره القوي في تشكيل الرؤية الفنية للعرض. وهذا ما يجعل من قضية النص والعرض في المسرح قضية معقدة وشائكة , لم يتوصل المهتمون المسرحيون في المغرب إلى وضع حدود حاسمة لها. ويظل أبرز موقف من هذه القضية هو القول بالتكامل بين هذين العنصرين (النص/ العرض).
وفي هذا الصدد نجد الباحث المغربي (الدكتور يونس لوليدي) يدعو إلى ترك التعصب لأحد الجانبين, الأدبي أو الفني ويرى أن "العلاقة القائمة بين هذين الجانبين هي علاقة تكامل. فقد تخلق الكلمات جوا تراجيديا, أو كوميديا, أو شاعريا لكن هذا الجو لا يكتمل ولا يأخذ صورته النهائية إلا إذا تضافرت الكلمات في العرض مع الديكور والإنارة والموسيقى, والمواقف."[20]
ونفس الطرح ـ القول بالتكامل ـ يذهب إليه (الدكتور محمد الكغاط) حيث يقول: "عندما نتحدث عن النص المسرحي, ونفكر بوعي أو بدون وعي في الجانب الأدبي من المسرح, وكأننا بعملنا هذا نصنف المؤلف في خانة الكلمة, في حين نصنف المخرج في خانة الحركة, فيبدو الأمر كما لو كان هناك مبدعان لكل منهما اختصاصه غير أن كلا منهما يكمل الآخر."[21]
ويقول (عبد الكريم برشيد) أنك: "عندما تختار التعبير بالمسرح فإن ذلك معناه أنك تستعير كل الأدوات التعبيرية المختلفة, إن المسرح هو الكل في واحد إنه التعبير المركب الذي يخاطب في الإنسان وعيه, وذلك عن طريق ما يسمع ويبصر ويلمس من الحركات والإشارات والأصوات والأشياء."[22]
أما الممارسة النقدية في قراءتها للأعمال المسرحية فقد ظلت ولفترة طويلة من الزمن تقتصر على النص ونادرا ما كانت تلتفت إلى عناصر العرض, حيث ينصب اهتمام الناقد على المضامين والأفكار التي يتمحور حولها النص, وينطلق منها لتحليل العناصر الأخرى كاللغة والحدث والشخصيات وأداء الممثلين (كيفية الإلقاء) ومدى استجابة الجمهور واستحسانه للعرض.
لكن هذا الوضع بدأ يتغير منذ مطلع السبعينات وذلك في إطار التحول الذي عرفه المشهد النقدي في المغرب, إذ بدأ المهتمون يعبرون عن انشغالهم بالوضع الإشكالي للنقد المسرحي, ويتساءلون حول فعالية تشغيلهم المستمر لبعض الثوابت النقدية المعتمدة في التحليل الأدبي. وهكذا اتجه النقاد نحو تجريب مختلف الطرائق والمناهج وتمثل المفاهيم النقدية الحديثة لمقاربة الإبداع المسرحي نصا وعرضا.
ومن مظاهر هذا الانشغال أن تنبه النقاد إلى أنهم أولوا النص المسرحي الأهمية القصوى, يقول (الدكتور محمد الكغاط): "ومع إقرارنا بتعدد العناصر المكونة للمسرح وأهمية كل منها فقد اندفعنا بوعي أو بدون وعي إلى الاهتمام بالنص المسرحي وخصائصه أكثر من اهتمامنا بباقي العناصر التي تكون "المسرح""
وانطلاقا من هذا الوعي تشكلت مواقف تدعو إلى قراءة العمل المسرحي في كافة عناصره: النص والعرض, يرى الباحث (سعيد يقطين) أن العمل المسرحي هو "خطاب مزدوج"[23] وهو عبارة عن خطاب جماعي "وهذا الواقع يجعلنا حينما نبغي معاينة الخطابات المنجزة, نتبين أننا أمام ثلاث خطابات تتداخل في النهاية لتجدنا أمام خطاب واحد هو الخطاب المسرحي بمعناه العام."[24]
ويقول (محمد الكغاط) "وإذا كان الناقد المسرحي نفسه ينطلق من النص أحيانا فإن عليه أن يربطه بالعرض مادام مطالبا بمقاربة كل عناصره, ومتابعة ما حققه المخرج من انسجام بين سائر مكونات المسرح وهو ينقل كلام النص إلى حركة الخشبة."[25]
لكن رغم ذلك, فإن النقاد غالبا ما يتعاملون مع النص المسرحي كواقعة أدبية منفصلة عن العرض, ولا يترددون في قراءة النص المسرحي بآليات النقد الأدبي, ولا يكلف الناقد نفسه عناء التساؤل حول آليات تحليل العمل المسرحي, ويحسم المسألة بتعامله مع المسرح كجنس أدبي. محمد أنقار في كتابه "بلاغة النص يرى " أن دعوة كل من (بريخت) و(بيتر بروك) و(أنطونان أرطو) التي تكاد ترفض النص المكتوب رفضا قاطعا, "لا تلغي حقيقة أخرى ترى النص في انفصاله عن العرض يشكل واقعة إبداعية لها كيانها اللفظي المستقل الذي يحتاج إلى دراسة نقدية شأن باقي الوقائع الأدبية المكتوبة أو المسجلة."[26]
غير أن محمد الكغاط يرى أن النص الدرامي "حتى عندما يعامل كأدب, يفرض شروطه الخاصة, سواء وعى ذلك أو لم يعيه, وذلك لأنه نص غير منته, ولأنه نص يدعو نصا آخر... نص يسعى إلى الاكتمال بالنص الثاني ليجد طريقه إلى المسرح. إلى أذن المشاهد وعينه في نفس الآن."[27]
أخلص إلى أن هذه الآراء لاتصنع موقفا موحدا تجاه قضية النص والعرض في النقد المسرحي المغربي, كما أن حصيلة الدراسات التي طرحت هذه القضية, لا ترقى إلى مستوى الكم الذي نستخلص منه مواقف واضحة أو نتبين فيه اتجاهات محددة, فمثل هذه المشاريع تكاد تكون منعدمة, سوى ما نجده من مقالات أو إشارات أو مباحث صغرى ترد ضمن دراسات نقدية أو أثناء مناقشة قضايا المسرح بصفة عامة, ولا تتعدى في مضامينها استعراض التجارب الغربية, وذكر الأسماء الرائدة, أما آراء الباحثين المغاربة حولها, فبدت خجولة لا تمس عمق المشكلة ولا تصل إلى حد الإقرار برفض النص والحد من سلطة الأدبية في العمل المسرحي, أو وضع ضوابط محددة للمقاربة النقدية تأخذ بعين الاعتبار طبيعة المسرح المركبة, وتظل في مجملها مجرد آراء تؤمن بأهمية العرض وتستمر في تمجيد ما هو أدبي على حساب ما هو فني.

الهوامش:

  1. ألكسندر دوما نقلا عن د. يونس لوليدي: المسرح بين أدبية النص وفنية العرض (من الفضاء النصي إلى الفضاء الركحي) ـ مجلة: البيان ع: 332 ـ مارس 1998 ـ ص: 10
  2. Henry Couhier: l’essence du theatre – p: 102.
  3. د. محمد الكغاط : المسرح وفضاءاته ـ ص: 87.
  4. د. ماري إلياس ود. حنان قصاب حسن: المعجم المسرحي ـ ص: 7.
  5. جوليان هيلتون: نظرية العرض المسرحي ـ ترجمة: نهاد صليحة ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ ص: 18.
  6. صافي ناز كاظم: مسرح المسرحيين ـ ص: 99
  7. محمد الكغاط: المسرح وفضاءاته ـ ص: 88.
  8. المرجع السابق ـ ص: 88.

9. صافي ناز كاظم: مسرح المسرحيين ـ ص: 99.
10. محمد الكغاط: النص والعرض في عروض مهرجان المسرح العربي المتنقل ـ مجلة: الأساس ـ ع:16 ـ فبراير 1985 ـ ص: 8.
11. محمد الكغاط: المسرح وفضاءاته ـ ص: 99.
12. المرجع السابق ـ 90 ـ 91.
13. د: ماري إلياس ودة. حنان قصاب حسن: المعجم المسرحي ـ ص: 10
14. للتوسع انظر د. يونس لوليدي: المسرح بين أدبية النص وفنية العرض ـ مرجع مذكور, و د محمد الكغاط: المسرح وفضاءاته الصفحات: 86 ـ 87 ـ 88.....
15. د: ماري إلياس ود. حنان قصاب حسن: المعجم المسرحي ـ ص: 10
16. رشيد بناني: نحو بناء منهجية لقراءة العرض المسرحي ـ مجلة آفاق ـ ع:3 ـ1989 ـ ص: 64
17. د. يونس لوليدي: المسرح بين أدبية النص وفنية العرض ـ مرجع مذكور ـ ص: 9
18. د. حسن المنيعي: قراءة في المشروع المسرحي لمحمد مسكين ـ مقدمة المجموعة المسرحية: "امرأة.. قميص.. زغاريد" لمحمد مسكين ـ ص: 6
19. عبد الكريم برشيد: أوراق من تجربتي المسرحية ـ جريدة العلم الثقافي ـ ماي 1982 ـ ص: 2.
20. د. يونس لوليدي: المسرح بين أدبية النص وفنية العرض ـ ص: 11.
21. د. محمد الكغاط: المسرح وفضاءاته ـ ص: 87.
22. عبد الكريم برشيد: أوراق من تجربتي المسرحية ـ ص: 2.
23 ـ 24. د. سعيد يقطين: مدخل إلى تحليل الخطاب المسرحي ـ م: آفاق ـ ع: 3 ـ 1989 ـ ص: 56.
25. د. محمد الكغاط: المسرح وفضاءاته ـ ص: 182 .
26. محمد أنقار: بلاغة النص ـ مطبعة الحداد يوسف إخوان ـ تطوان ط:1 ـ ص: 19
27. د. محمد الكغاط: التجريب ونصوص المسرح ـ مجلة آفاق ـ ع:3 ـ 1989ـ ص: 19


د. زهور بن السيد




* المسرح بين النص والعرض في المسرح المغربي/ د. زهور بن السيد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى