إمام عبد الفتاح إمام - أفكار‏..‏ ومواقف‏..‏

العدالـة‏..‏ امرأة‏..!‏ سألني باحث شاب يعد رسالة لنيل درجة الماجستير عن العدالة‏:‏ أيمكن أن نجد مفهوما للعدالة في الفكر القديم‏,‏ بل الموغل في القدم؟

وأجبته بالإيجاب وأن كان هناك شيئان يلفتان النظر:
الأول:- أن العدالة تظهر في ثنايا الأساطير إذ لم يكن الفكر الفلسفي قد ظهر بعد.
والثاني:- أن العدالة تظهر باستمرار في ثوب إلهة أنثي دون أن تكون رجلا أبدا.
وعلي سبيل المثال كان للإلهة ماعتMaat إلهة الحق والعدل في مصر القديمة مكانة عالية في بانثيون الآلهةPantheon( مجمع يضم جميع الآلهة بلا استثناء) فهي ابنة إله الشمس رع ويرمز إلي إسمها بريشة النعامة ويشير كتاب الموتي إلي حضورها بوزن القلوب حيث توجد ريشة الحقيقة عادة في إحدي كفتي الميزان, كما تظهر علي أنها يمكن أن تشغل ميزان القلب الموزون. وكثيرا ما كان القضاة المصريون يظهرون في العصر البطلمي أو الروماني وهم يضعون تميمة أو حجاب ماعت برباط حول العنق كشعار علي وظيفتهم. ويقول نص من النصوص المصرية القديمة عظيمة هي ماعت, قوية ولا يمكن أن تتبدل أو تتغير..! وتصورها الآثار القديمة وهي تضع علي رأسها ريشة النعام- وعلي القارئ أن يلاحظ التعبير العامي المنتشر بين المصريين حتي يومنا الراهن عندما يتعجبون من شخص يظهر بمظهر العظمة فيتساءلون: ماذا دهاه: وهل علي رأسه ريشة؟! أي هل هو الإلهة ماعت إلهة الحق والعدل وصاحبة العظمة الألهية؟!.
وتصور موسوعة لاروسLarousse للأساطير يوم الحساب عند المصريين القدماء بعد أن يجتاز الميت الطريق المرعب الممتد بين مملكة الأحياء ومملكة الموتي يقوده حاجب المحكمة إلي أن يصبح أمام القاضي صاحب السيادة فيقبل أعتاب قاعة العدالة التي يجلس أوزريس في نهايتها, وفي الوسط يوضع ميزانا هائلا تجلس بجواره الإلهة ماعتMaat إلهة الحق والعدل جاهزة لوزن قلب الميت.. وتستمر كما تروي الموسوعة إجراءات كثيرة تتوقف علي أمرين الأول ما يسمي بالإعتراف السلبي: وهو إعتراف يوجهه الميت إلي قضاته باسم كل قاض علي حدة لكي يبرهن علي أنه يعرفهم واحدا واحدا وليس لديه ما يخشاه مؤكدا أنه لم يرتكب إثما ولا خطئية وأنه طاهر تماما.
والأمر الثاني: القرار الذي تصدره الإلهة العظيمة ماعتMaat بعد وزن الروح أو القلب وبعد أن تضع الإلهة رمزها( وهو ريشة النعامة) وهو أيضا رمز الحقيقة في كفة وقلب الميت في الكفة الأخري!
وفي النهاية فإن موسوعة زسMaat:
القدماء يصورونها في صورة امرأة تقف أو تجلس علي كعبيها, وتضع علي رأسها ريشة نعامة رمزا لإسمها: الحق أو العدل فهي إلهة القانون, والحقيقة, والعدالة. وتصورها النصوص القديمة بأنها الإبنة العزيزة عند الأله رعRa ومحل ثقته. وهي أيضا زوجة ثوتThoth قاضي الآلهة أو إله الحكمة والمعرفة, وهو مخترع الكتابة, وواضع النظام الاجتماعي, ومبدع اللغات ومستشار الآلهة, وهو سيد الزمان والمسئول عن التقويم والأعمار.. إلخ.
أطلنا قليلا مع الآلهة ماعت إلهة العدالة عند الفراعنة لأنها تهمنا أكثر من غيرها فمازالت آثارها باقية في حياتنا اليومية حتي يومنا الراهن. أما الأخريات من إلهات العدالة فهن أقل شأنا- بالنسبة لنا علي أقل تقدير وهناك بصفة عامة الإلهة ديكيDike إلهة العدالة عند اليونانيين وأيرينIrene ألهة السلام, ويونوميا إلهة النظام والقانون وهن بنات كبير الآلهة زيوسZeus في الأساطير اليونانية من تيمسThemis وقد كن في البداية إلهات للفصول. والملاحظ في هذا الحديث أيضا أن العدالة.. امرأة! في جميع الأساطير والسؤال الذي يطرح نفسه في جميع الأحوال لماذا جعل القدماء علي اختلافهم العدالة إلاهات من النساء؟! هل لأن المرأة أرجح عقلا أو أشد ثباتا من الرجل؟ هل لأنها ليست طائشة تميل مع الهوي وهي تستطيع أن تزن الأمور علي نحو دقيق؟!
ألسنا نجد هنا نفس الخصائص التي نسبها القرآن الكريم للمرأة عندما تحدث عن بلقيس القديمة ملكة سبأ بعد أن وصلها خطاب سليمان فجمعت عليه القوم من الرجال تأخذ رأيهم فيما تفعل فاندفعوا في رعونة وطيش يلوحون بالحرب ويذكرونها بماهم عليه من بأس وقوة, أما هي فكانت أرجح عقلا وأشد اتنزانا من الرجال الأشاوس فذكرتهم بما يفعله الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وصدق القرآن علي ما تقول بقوله: وكذلك يفعلون34- النمل. وأقترحت علي قومها بأرسال هدية لتري أن كان من أهل الدنيا ممن يهتمون بمتع الحياة أم أنه من أنبياء الله الصالحين حقا.. أني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون..35- النمل. وهنا يكشف القرآن الكريم رجاحة عقل المرأة وسداد رأيها ورعونة الرجال وإندفاعهم إلي التلويح بالقتال دون أن يتبينوا أبعاد الموقف أكانت بلقيس من سلالة الإلهة ماعتMaat الأبنة العزيزة للإله رع تجري في عروقها دماء المرأة القوية بما تحمله من رجاحة العقل والأتزان والحكم السديد علي الأمور..؟!.
كنت ألقي محاضرة عامة عن المرأة وذكرت القصة القرآنية عن بلقيس ورجاحة عقلها عندما جاءني بعد المحاضرة شاب من الأجسام الضخمة التي لا تحمل عقلا سألني: ولماذا يا دكتور لا نقول أن القرآن في روايته للملكة بلقيس كان يسخر من المرأة ومن تصرفاتها ولا يشيد برجاحة عقلها؟ وأندهشت فسألته وكيف يكون ذلك والإشادة واضحة بسلامة الرأي وسداده, ومقارنته بموقف الرجال الأحمق المندفع؟ فصمت قليلا ثم قال: يعني! وهو طبعا لا يعني شيئا أنه يريد فقط أن ينفي سلامة رأي المرأة ورجاحة عقلها: هؤلاء هم الدجماطيقيون الأقفال الذين لا يعرفون شيئا ولا يفهمون شيئا سوي ما يسري بين العوام ويسألهم القرآن الكريم لماذا لا يتدبرون القرآن ويفهمونه جيدا أم علي قلوب أقفالها (24- محمد).
وأخيرا: من مصر ظهرت العدالة.. امرأة- ومنها انتشرت في كل محاكم الدنيا المرأة رمز العدالة معصوبة العينين وهي تحمل ميزان أوزوريس وتقول لرجالات مصر الأوفياء: أما تستحون..؟!.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى