رحيم زاير الغانم - تشابه العلامة النصية ومرجعها في مجموعة الغياب العالي للشاعر علي سعدون.. مقاربة سيميائية

يرى بيرس أنَّ (الأيقونة علامة تحيل إلى الشيء الذي تشير إليه بفضل سمات تمتلكها, وخاصة بها هي وحدها....قد يكون أي شيء أيقونة لأي شيء آخر, سواء كان الشيء صفة أو كائنا فردا أو قانونا بمجرد ان تشبه الأيقونة هذا الشيء وتستخدم علامة له)*, من هذا التصور تظهر لنا علامات تحمل معنى سيميائيا سيتم معاينتها في مجموعة (الغياب العالي)* للشاعر (علي سعدون) حيث بدا واضحا من خلال تشكل الأيقونة النصية من تشابه بينها وبين المرجع, فالمرجع هنا يأتي أما تقريري/مباشر, أو إيحائي/غير مباشر, مع مراعاة التنبه للنسق العلاماتي المتنامي, الذي من شأنه إعادة لإنتاج المعنى, فالأيقونة في النص على رأي الدكتور جميل حمداوي :( تمثيل محسوس لشيء قصد تبيان خصائصه وسماته, مثل: صورة شخص أو خريطة بلد), ومن خلال هذه المعطيات المتصاعدة ستُفتح لنا فضاءات متنوعة لمادة البحث النقدي السيميائي في المجموعة آنفة الذكر.
وقف الكابتن الطفل
أزاء طائرته الورقية
ليله لم يعد أسود
وقميصه الندي جافا كخشبهص6
تُشكل (الطائرة الورقية) بوصفها أيقونة علاماتية تتشابه مع مرجعها ( الطفل ,البياض/ لم يعد أسود،), بدلالة جملته الشعرية (ليله لم يعد اسود) وما يحمله (قميصه الندي) من دلالة النقاء وطراوة الجو البيئي الآمن, مشكلة علامة للبراءة تتناسب مع أجواء الحرية والانطلاق نحو الحياة, فـ (الكابتن الطفل), هنا يعد المحرك الفاعل في تصاعد النص علاماتيا لما له من قدرة التحكم في اجواءه الداخلية البسيطة, ليعيد إنتاج معنى يتشكل من خلال خلق علامات واقعية متتابعة .
لست مجرى النهر
لتدفعني الذنوب إلى اخر المياه ...,
ولست طائرا كبيرا
لتتملق الأشجار
جناحي الكاذبين
الحياة نتنة
ولم أكن شيئا على الإطلاق.ص7
يعتبر (النهر) أيقونة تتشابه علاماتيا مع مرجعها (المياه, الطائر,الأشجار), شكلت نسقا علامتيا أكتنه الشكل التعبيريللنص, فالتشبَّة بالطائر هذه المرة متماهيا مع الأشجار وما تحمله من علاقة وشجية بينهما, بما تحتوي في ظاهرها من علامة للسكن والاستقرار, والمياه/ الامتلاء, واهبة الحياة والنماء, مع الأخذ بنظر الاهتمام غياب لفظي لكلمة (الأرض), وحضور معنوي لها, فهي الحاضن لكل الموجودات, وبهذا العمق الدلالي/ المحايث للنص الشعري شكّل تواصلا نسقيا بين الأيقونة ومرجعها على الرغم مما تحمله من تشابه.
ويمكن لنا من إعادة إنتاج أيقونة علاماتية متداخلة من النص ذاته (الطائر/ الإنسان) أيقونة علاماتية تتشابه مع مرجعها(الأشجار, الجناح) فالأشجار والجناح في تعالق يومي ومشاكسة دائمة فـ(الجناح) علامة دالة لوجود الأشجار والعكس صحيح, لكن هذا لم يكن شيئا ذا قيمة لصغر حجمه (ولست طائرا كبيرا ) الذي دعاه ليكُذِّب حقيقة خلقه بجناحين, وبالذهاب بعيدا من ظاهر المعنى لبواطنه وصولا إلى رمزية فقدان الجناحين لتمثل علامة دالة للموقف المأزوم الذي يعيشه (الطائر) حتى ليبدو الاشمئزاز من الحياة واضحا, فهو يلحق بالحياة أقبح الصفات ( الحياة نتنة) وتستمر دينامية الدلالة العلاماتية في إيحاء واضح للكمد و العنت اللذين تلاقهما عبر تجربته الحياتية المرة.
كي تكون عزلته مضيئة
صار يحدث الظلام كأعمى
ويستدرج النفايات إلى نوره
ويوم لا يشير أحد إلى شتائمه
سيمدح الليل
ويسب الحياة التي تلمع كسكين ...ص9
(النفايات) في المقطع السابق كأيقونة تتعالق مع مرجعها( الظلام, العمى, العزلة,الليل) في تراتبيه علاماتية مُكتنزة بالعزل والظلمة التي من شأنها غلق الأفق من خلال استثمار النص علامتها المباشرة/ التقريرية, فهي تخلف أكواما من شأنها دفن لمعالم المدينة والتحضر, أو أنها تصرفنا للمرجع غير المباشر/ الإيحائي, وما تكتنهه من ضيق للأفق والابتعاد عن الأريحية الفاعلة في خلق جو مناسب لديمومة الحياة, وبحسب المعطيات آنفة الذكر, تبرز هذه النسقية العلاماتية في فرز لهذه التوأمة بين (العزلة و الظلمة)
على الرغم من علامة التهكم بوصف (عزلته مضيئة), وما يؤكد ما ذهبنا إليه هنا تحديدا, هذا التناغم بين الضوء المنبعث من العزلة وبين رفضه للحياة التي تلمع كسكين هذا القاتل اللامع والبراق في ظاهرة, المعتم في باطنه, ويمضي النص لأبعد من ذلك في نص آخر.
في محنة القاذورات هذه
وفي يوم الشجن ...,
يوم كتابة القصيدة
غالبا ما كنت أجد في يدي أسماكا ميتة
لذلك صارت الكلمات
مقبرة مياه ص7
النسق العلاماتي للنص في تصاعد, فالقرب من المحنة/ الحقيقة, بدأ بالاقتراب شيئا فشيئا وصولا للموت لكنه هذه المرة يمرُّ ببرزخ من عذابات الحياة,ففي أيقونة (القاذورات) التي تتشابه مع مرجعها (اسماك ميتة, مقبرة مياه) يشكل المرجع هنا علامة فارقة لبقائنا على قيدها أحياء, على الرغم من تنامي كلّ هذه القاذورات في يوم كتابة النص/الحياة, الذي لم يكتب إلا بطريقة ملائمة للفناء , أننا نكتب الحياة ولا نعيشها, فلا عجب لو تكاثرت من حولنا المقابر(لذلك صارت الكلمات / مقبرة مياه), في تنامي نسقي علاماتي واضح.
لأننا عرابو وهم وضغينة
ومحرفو تاريخ فراشات
كنا نغزل أيامنا
لتبدو رفيعة
خشية أن تصطدم بالشجن ص15
تُعدُّ (فراشات) كـ (أيقونة) ليس لها تاريخ, لذا تشابهت مع مرجعها, (الوهم, الضغينة, التحريف) علامات دالة على زيف وحقد ومحق للحقيقة,وما جاء في المرجع / من تشاكل واضح فبعد صفات القبح هذه نجد تبريرا في نسق النص (الحياكة / الشجن ), كل هذا كان هروبا من واقع مؤلم دعا لممارسة القبح هروبا من الشجن بدلا من مواجهته, وأن لا نعده تبريرا منطقيا لممارسة هكذا فعال, وما صرح به المقطع التالي من النص نفسه إلا دليلا على ما ذهبنا إليه.
وبمرور الأيام والضغائن
صرنا خيوطا رفيعة جدا
لا تصلح حتى لطائرات ورقية
بعد هذا
ما الذي سنفعله بأيامنا القادمة !!
العلامات النسقية للنص تتصاعد في فلك من نكوص القبح الذي يمارس أحيانا لأجل الاستحواذ على فرصة تستدر الوهم والضغينة والتحريف لتحقيق رغبة زائلة, الأيام القادمة عقيم لا تأتي بجديد ما دمنا (صرنا خيوطا رفيعة جدا/ لا تصلح حتى لطائرات من ورق)
على حائط الربيع الأخير
سيطمئن الميت لشموسه النائية
ومن غير أن يكترث للظلام
سيفضح الأمل !!
ربيعه الأخير. ص23
نجد أنَّ أيقونة (حائط) تتشابه مع المرجع (شموس نائية, ظلام, ربيع أخير) الذي شكل نسقا علاماتيا متماهيا في المعنى الدلالي العميق للنص/ المحايث, فالحائط يحمل رمزية القطع والفصل, لذا الشمس نائية/ الميت في نأي دائم, في تراتيبة للسكون والفصل التام, وهذا ما أدركه الشاعر جليا, حيث بشَّرَ بفضيحة الأمل لكنّه مشوبا بالحذر هذه المرة لقول الشاعر من النص نفسه.
يتسلق خاصرة الغرف
حيث البكاء والشظايا
وحروب الأهل
هذه الوحشة التي لا تناسب فضاء الميت
لما لا تفسَّرها شواهد القبور؟
نلمس من ذلك ثراء علاماتيا في تمامه, فالنص مشحون بالضيق الذي تمثله الغرف حيث البكاء والشظايا, التي ما تنفك تفتك بالأجساد الواهنة, وهنا نجد النص يتجه إلى أشد معاني الألم قسوة مشكلا لنا مفارقة علامتية تحمل في طياتها التفرد بالوجع مع تصديره للمتلقي (هذه الوحشة التي لا تناسب فضاء الميت), الميت الذي لم يُعطَ فرصة لاستنشاق عبق الحرية في حياته ,أي فضاء يُمنح كي يناسب وحشته؟ وهل شواهد القبور فسّرت من قبل اطمئنان الميت لشموسه النائية؟ لتفسرَ وحشة المقابر, مبقية على التشابه والتماثل بين الأيقونة ومرجعها في نسق علاماتي يعيد إنتاج معناه .
_____________________
سيزا قاسم, ونصر أبو زيد, مدخل إلى السيميوطيقا, مقالات مترجمة ودراسات, دار الياس العصرية,المغرب,ط1، 1986ص252.
علي سعدون, الغياب العالي, دار الشؤون الثقافية العامة, ط1-بغداد 2000
ملفات | الأنطولوجيا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى