بكسيما مجوزي - ثمانية وأربعون درجة.. قصة قصيرة - ترجمة جودت جالي

أعود الى البيت ولا يبدر مني إعتراف بأني متأخرة. أعود الى البيت ومثل أي أم صالحة أعد العشاء، وأرتب المائدة، وأطعمهم، وأغسل الصحون، وأضع الأطفال في فراشهم، وأجلس على الأريكة مع الرجل الذي هو شريكي في البيت. أنظر اليه. إنه والد أطفالي، بشعر ملحي فلفلي اللون ووجه مرهق. لم أتوصل الى معرفته أبدا، ولم أتبين من هو. أنظر الى يديه المتعبتين مغطاتين بالجروح، والى شفتيه اللتين تحول لونهما الى السواد من كثرة التدخين، والى عينيه المتعبتين اللتين تظلان مثبتتين الى شاشة التلفزيون.
أريد أن أنسى ما جرى اليوم، أنسى كل لحظة منه. أغمض عيني. أسند رأسي الى الجدار. أعرف أنه لا ينظر الي. أعرف أنه لا يهتم بما يمكن أن أفكر فيه. كلانا يعرف هذه اللامبالاة جيدا. ليس لدي ما أقوله له. أحاديثنا أُختزلت الى مرحبا والى اللقاء، ما عدا في بعض الليالي عندما أسمع همسه قرب أذني، وحتى هذا الهمس يبدو لي غريبا. أمر من أمامه دون كلمة، وأذهب الى غرفة النوم. أتمدد على السرير. أغمض عيني. أريد أن أنسى ما جرى اليوم. لكني لا أستطيع. لا أستطيع أن أنسى لحظة واحدة مما جرى....
يسقط ثلج ناعم والجو ضبابي. مثل أي يوم في الأسبوع. أتيت الى المكتب، ولكن ليس لدي الطاقة لأعمل. يداي تؤلمانني. أحتاج الى الراحة. لا أمتلك الصبر اللازم للجلوس الى هذه المنضدة والتواجد في مكان العمل هذا. أجد عذرا لآخذ اليوم إجازة وأعود الى البيت. لكن بدلا من البيت أصل الى مقهى بعيد، مقهى لا أعرف حتى إسمه، قديم وفارغ، لا أحد هنا غير العجوز التي تقدم القهوة. جلست الى إحدى المناضد جوار النافذة. أنا بردانة، أرتجف. أعصر يدي وأطلب قهوة وأنتظر الى أن تجهز. أفكر كيف أن أطفالي كبروا. رائحة القهوة تنسّم علي عبر المقهى. أدلك يدي اللتين انتفخت مفاصلهما! لم أعد أستطيع خلع خاتم زواجي. أنا أشيخ، لست كما كنت. أسمع صوت طقطقة كوب القهوة على الماعون. أنظر الى الخارج. ندف الثلج تنقذف الى الأرض بخفة أكبر كالفرحانة لأن الأرض تكتسي بالبياض. لكني بردانة إذ أني لا أرتدي ملابس دافئة. أنا أرتدي سترة من الصوف المحبوك عتيقة مهترئة تتبلل سريعا بهذا الثلج. العجوز القصيرة البدينة تأتي نحوي. لا إبتسامة على شفتيها وشعرها الفضي يظهر خارج وشاحها القرنفلي. تضع الكوب أمامي وتعود الى مكانها خلف النُضد. البخار المتصاعد من الكوب يدفئني. إنه لشعور سار أن.....
ينفتح باب المقهى. يدخل رجل. تقول العجوز، من خلف النُضد، بابتسامة أليفة، مرحبا بالأرمينية.... "باريف". يرد الرجل بإيماءة من رأسه. لا أستطيع رؤية وجهه على الضوء الخابي. مر بقربي وتوقف بعد بضعة مناضد. نزع معطفه ونفض عنه الثلج ووضعه على الكرسي المجاور له. جلس، ودون أن يطلب شيئا تنهمك العجوز بصب القهوة له. رائحة القهوة تنسّم علي عبر المقهى. يداي تؤلمانني. أدلكهما. يشعل الرجل سيجارة. تبدو لي رائحتها مألوفة جدا. أرتشف رشفة من القهوة. تتحول نظرتي الى الشارع ومن ثم الى الرجل الذي تلاشى في دخان السيجارة. أريح رأسي بوضع جبيني على المنضدة. أريد أن أنهي كل شيء... الوجع في يدي، الإعياء، الوحدة. لكن لا توجد نهاية لأي منها. أرفع رأسي. ينهى الرجل قهوته. ينظر الي. لا أرى وجهه. لا أرى سوى الإلتماع في عينيه. يضع نقودا على المنضدة ثمنا للقهوة. يتناول معطفه من الكرسي المجاور له ويرتديه. يسير بتمهل مارا بقربي. يفتح باب المقهى ويسير على الأرض المغطاة بالثلج. يتوقف. يستدير وينظر نحوي. هل كان علي أن أنهض؟ أنهض. أضع على المنضدة نقودا ثمنا للقهوة. لا أهتم بنظرات العجوز الفضولية. أفتح باب المقهى. أخرج الى الشارع المغطى بالثلج وأتجه نحو الرجل. يبدأ السير، أمامي ببضع خطوات. أتبعه. إنه شارع فارغ بأربعة أزقة. يدلف الى الزقاق الثاني، زقاق ضيق مظلم. يتوجه نحو البناية في أقصى الزقاق. يخرج مفتاحا من جيبه. يطلق الباب العتيق صريرا وهو ينفتح. يتنحى الرجل جانبا فأدخل أولا. يقول:
- الطابق الأعلى.
يا له من صوت غريب. أو ربما يا له من صوت مألوف. إرتقيت ثمانية وأربعين درجة فأصبحت أمام باب بطلاء حائل كان يوما أزرق. والآن.... يفتح الباب. يعكس لهب المدفأة الأزرق الضوء الوحيد في الغرفة. يشعل مصباحا. الكتب هي أول ما يلفت نظري. على الأرضية، وعلى المنضدة، وحتى على الكراسي المطلية بلون الخشب توجد أكوام من الكتب. توجد هناك منفضة مليئة بأعقاب السجائر، وعلى الأرضية تنتثر بعض الأوراق الملطخة ببقع الحبر.
أنظر اليه. لا يقول شيئا. تومض عيناه كقطعتي رخام أسود. يتوجه الى غرفة أخرى لا يوجد غيرها في بيته. أتبعه. باستثناء سرير ومصباح أرضي قرنفلي فإن الغرفة مزدحمة بالكتب والورق والصور الفوتوغرافية والمجلات. أخلع سترتي الصوفية الحائلة. ينظر الي. أنظر اليه. ألم أره من قبل أبدا؟ كلا... هو ليس غريبا. يبدو أنه رجلي الذي جاء من سنوات بعيدة. شعره أسود ووجهه شاب نضر، ويداه نحيفتان وملؤهما النشاط، وشفتاه حمراوان ترتجفان، وعيناه صافيتان آسرتان تحدقان في وجهي. لا بد أني شابة، يتحرك فيّ هوى شديد، وطاقة لاهبة. أريد أن يذوب كل الثلج الذي بداخلي. أريده أن يأخذني بين ذراعيه. إنه يأخذني، فيشيع الدفء في جسدي ولا أعود أرتجف....
كانت الساعة هي العاشرة حين غادرت تلك الشقة ونزلت تلك الدرجات الثماني وأربعين. قادتني ظلمة الليل من ذلك الزقاق الضيق المهجور الى البيت.
أعود الى البيت ولا يبدر مني أي إعتراف بأني متأخرة في العودة. أغمض عيني وأحاول أن.... أحاول أن أنسى ما جرى اليوم.
****
المصدر Words Without Borders July 2013 issue

Forty-Eight Steps
ولدت الكاتبة الإيرانية بكسيما مجوزي في العام 1978. بدأت عملها كصحفية في العام 1995 وكانت تكتب غالبا في الأدب وعلم الإجتماع، صدر أول كتبها (الوجه الآخر لعُمْلة صادق هدايت) 2000 عن موضوعة الحب في أدب صادق هدايت، وقد طبعت منه عدة طبعات ولقي إقبالا شديدا من القراء الإيرانيين. صدرت في نفس العام مجموعتها القصصية الأولى (تصميم هلوسة) وفي العام 2004 صدرت (سأصبح السماء) التي ترجمت منها هذه القصة. هي الآن رئيسة تحرير مجلة (بترليوم فاميلي) ومحاضرة في جامعة العلوم التطبيقية والتكنولوجيا.

عن مختارات (التودد الى الزوجة) 2018 ترجمة جودت جالي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى