رابيندراناث طاغور - الغريبة القادمة Aparichita قصة قصيرة - ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

الغريبة القادمة

Aparichita

رابيندراناث طاغور


مقدمة: رابيندراناث طاغور (1861 – 1941م) أحد أهم الأدباء الهنود البنغال. كان متعدد المواهب، فقد كان يقرض الشعر ويكتب القصص، ويرسم اللوحات الفنية، ويؤلف القطع الموسيقية والألحان (ويغنيها). نال جائزة نوبل في الآداب عام 1913م.

ألفت هذه القصة القصيرة عام 1916م، وقامت بترجمتها للغة الإنجليزية ميناكشي ماخريجي.

**** **** **** ****

أبلغ من العمر الآن سبعة وعشرين عاما. لم تكن حياتي حتى الآن مميزة، لا في الإنجازات ولا في الطول. غير أنها، رغم ذلك، قد اكتسبت في ذاتها قيمة معينة. إنها مثل زهرة نضجت لتنتج ثمرة، تعتز في كل وقت بذكرى فرصة الاتصال صدفةً بنحلة العسل، الأمر الذي جعل الأمر ممكنا. لقد كان لقاءً قصيرا، وسأخبركم عنه بإيجاز – تقديرا للذين لا يخلطون بين الاختصار وعدم الأهمية.

لقد نجحت في كل امتحانات الجامعة. وكان يحلو لأساتذتي مقارنتي بزهرة قطن الحرير الحمراء، وثمرة الماكال الحمراء البراقة اللون ولكنها عديمة الفائدة، لا ريب في إشارة لوسامتي اللافتة. كنت أحس ببعض الاحراج من تلك المقارنات، غير أني الآن أشعر بأني لو عدت للحياة من جديد، فإني أرغب في أبدو في نفس الصورة التي أبدو بها الآن، وأتحمل برضا وسعادة تَهَكُّم وسخرية أساتذتي.

كان والدي في فترة من الفترات فقيرا. ثم حصل فيما بعد على ثروة طائلة من عمله كمحامٍ. غير أنه لم يستمتع قط بما جناه من ثروة، ولم يعرف للراحة طعما في حياته إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة. لقد كانت أمي هي من قامت على تربيتي بالفعل. كانت هي نفسها من عائلة فقيرة، وحرصت على ألا أنسى أبدا إننا الآن أغنياء. لقد كانت – هي وبقية أهلي – يفرطون في تدليلي والاهتمام بي بأكثر مما يجب لدرجة أنني ربما لم أنضج بعد كرجل. وإلى الآن أبدو كالأخ الأصغر للإله غانيش وهو يجلس في حجر أنابورنا، الإلهة الأم.

كان ولي أمري هو خالي، الذي لا يكبرني إلا بست سنوات فحسب. وكان قد امتص هموم كل أفراد العائلة مثل نهر فالقو الأسطوري الذي يجري تحتنا. يجب على المرء أن يحفر في الرمال حتى يحصل على نقطة ماء واحدة منه. لذا بسببه تم إعفائي من أي مسؤولية.

وكان آباء الفتيات في سن الزواج يجدون في شابا عزبا مرغوبا جدا، إذ لم تكن عندي عادات سيئة، ولم أقرب في حياتي كلها حتى السجائر. وكنت أجد ممارسة السلوك القويم أمرا بالغ السهولة، إذ أن ذلك لا يتطلب إلا أقل مقاومة ممكنة. فقد نشأت منذ صغري وحتى الآن ابناً مطيعا لأني كنت أفتقر القدرة على العصيان. ويجدر بكل امرأة تبحث لهل عن بعل أن تتذكر أني تربيت على يد نظام منزلي أنثوي.

وسعت كثير من العائلات الثرية لمصاهرتنا. ولكن خالي، القائم على أموري، والحفيظ على مصيري، كانت له قناعات ثابتة لا تقبل التغيير حول أمر زواجي. كان يعارض بشدة فكرة زواجي من إحدى بنات الأثرياء. بل كان يفضل أن تدخل العروسة بيتنا وهي مطأطأة الرأس من فرط التواضع والمسكنة. غير أن حبه للتكسب كان غريزيا. كان يريدني أن أتزوج من فتاة والدها ليس غنيا، ولكن يمكن رغم ذلك اجباره على دفع نقود كثيرة. وباختصار، كان يرغب في أن أصاهر رجلا يمكن الضغط عليه واِستحلاب ما عنده من مال، ولا يلزم أن يُحترم. فإن قدمنا له "الشيشة" العادية عوضا عن الشيشة الكبيرة ذات الأنابيب الطويلة (قراجا Gargara) الأكثر رسمية، التي لا تقدم إلا للأكابر من الضيوف المهمين، فلن يتضايق أو يشتكي.

عاد صديقي هاريش، الذي يعمل في كانبور، إلى داره في كلكتا في عطلته السنوية ليبذر في نفسي بذور البلبلة والتشويش، فقد قال لي: "يا صديقي، إذا كنت تتحدث عن الفتيات، فأني أعرف عن واحدة جذابة جدا".

كنت قد أكملت درجة الماجستير. وكان لدي فراع عريض ومتسع كبير من الوقت، يمتد أمام ناظري إلى سنوات المستقبل. فبيس هنالك في حياتي أي امتحان قادم، وليس لي حاجة في أن أمتهن مهنة من المهن أو أن أبحث عن عمل في وظيفة من أي نوع. ولم يكن لدي التأهيل اللازم أو حتى الرغبة في الاهتمام بشؤون العائلة، أو الاستعداد والتحضير لأي نوع من العمل. ولم يكن في بيتنا الكبير سوى أمي وخالي لأناقش معهما شؤون العالم خارج أسوار الدار.

ولاح لي من بعيد في أفق صحراء تلك الراحَة والسَكِينَة سراب الأنوثة الخالدة، كبيرا وجاذبا. وحمل السماء نظرتها والهواء نَفَسها، وهمس حَفِيفُ أوراق الشجر بأسرارها. وفي تلك الأوقات وصل صديقي هاريش ليقول لي بكلمات لا تخلو من استفزاز وإثارة: " إذا كنت تتحدث عن الفتيات ....". وبدأ جسدي وعقلي ينسجا بشدة بساطا مزخرفا بالضوء والظلال، تماما كما تفعل أوراق نبات "الست المستحية" مع هبات أنفاس الربيع. وكان هاريش خبيرا ذواقة، وبإمكانه أن يجعل من وصفه ينبض بالحياة بإضافته له من العصائر أحلاها وأشهاها، وكان عقلي، على كل حال، في غاية الظمأ.

اقترحت على هاريش فتح الموضوع مع خالي. وكان هاريش يحسن التعامل مع الجميع. بل حتى خالي كان يسعى لينعم بصحبته. وبالفعل قام هاريش بالحديث مع خالي في أمر زواجي. وكان خالي أكثر اهتماما بوالد الفتاة من الفتاة نفسها. ووجد خالي والد الفتاة مطابقا تماما للمواصفات التي يريدها. وبارك لاكشمي (إله الهندوس للثروة والرخاء) ذات مرة خزائن عائلتهم، وملأها بالمال حتى كادت تفيض. ولكنها الآن كادت أن تفرغ من المال، رغم أنه بقي فيها بعض القليل منه. ولما لم يمكن بمقدور والد الفتاة أن يحافظ على أسلوب حياة الأغنياء بعد أن أفتقر، انتقل وعائلته من دار آبائه واستقر في غرب البلاد. وعاش مع عائلته في كانبور كأي رجل عادي محدود الدخل. وبما أن الرجل لم يرزق بغير تلك الفتاة، فمن المتوقع بالطبع ألا يتردد في الانفاق على زواجها حتى آخر روبية في خزانته.

كل تلك كانت من العوامل الإيجابية. غير أن خالي وجد شيئا لينتقده، فقد أبدى عدم رضاه عن أن الفتاة كانت في الخامسة عشر من العمر ولما تتزوج بعد! أيكون هنالك شيء معيب في شجرة العائلة يا ترى؟ لا. بالقطع. ليس هنالك أدنى عيب فيها. كل ما في الأمر أن والد الفتاة لم يرض لها أي رجل من الذين تقدموا لها. فقد كانت مطالب معظمهم ممعنة في الغلو، وكان سقف توقعاته هو أيضا مرتفعا. لذا آثر الانتظار كل هذا الوقت، ولكن الزمن بالطبع لم يتوقف لفتاته حتى بلغت من العمر خمسة عشر عاما!

وبذل صديقي هاريش كل طاقاته الإبداعية في الفصاحة والبلاغة حتى بدا أن موقف خالي قد بدأ يلين. ومرت المشاورات الأولية بين خالي ووالد الفتاة بيسر وسلاسة. وكان خالي يعد أي منطقة خارج كلكتا يمكن أن تعد جزءًا من جزر اندمان. وكانت أبعد نقطة سافر إليها خالي طوال حياته تقع بالقرب من كوناقار، ولم يذهب إليها إلا لضرورات عمله. وكانت من قواعد حياته ألا يعبر جسر حورا في بانقلور. ولم أجد في نفسي من الشجاعة ما يكفي لأخبره بأني أرغب في السفر لكانبور لرؤية الفتاة.

وأرسل خالي شخصا بالإنابة عن العائلة إلى كانبور، كان هو أكبر ابناء عمي، واسمه بينو. كنت شديد الثقة في ذوقه وحكمه. وعندما عاد كانت كلمته لي هي: "ليست سيئة أبدا يا ابني. ذهب خالص بالتأكيد."

وكان بينو – دادا مشهورا بيننا بالتصريحات المكبوحة المقللة من شأن الشيء الموصوف. فما كنا نصفه بأنه "ممتاز" كان يفضل أن يسميه "مقبول أو كافٍ". لذا أدركت في حالتي أنه لا تناقض ولا نزاع بين إله الزواج ورب الرومانسية.

II​

لا حاجة لي بالقول بأن أهل العروس كان ينبغي عليهم القدوم لكلكتا لحفل العرس. لا بد أن شام بوناث بابو، والد العروس، قد وثق ضمنيا في صديقي هاريش، إذ أن عينيه لم تقعا على أول مرة إلا قبل العرس بثلاثة أيام فحسب، حين أتى ليباركني. كان رجلا وسيم المحيا بصورة لافتة، في نحو الأربعين من العمر، وكان شعر رأسه حالك السواد رغم أن بعض الشيب كان قد تسلل إلى فوديه. كان من النوع الذي يبرز بصورة خاصة إن رأيته وسط مجموعة من الرجال.

دعوت بإخلاص كي أظفر برضا الرجل، رغم أن التأكد من ذلك كان أمرا عسيرا، فالرجل قليل الكلام. وحتى عندما كان ينطق ببعض الكلمات القليلة، فقد كان يقولها بنبرة تخلو من التشديد والتوكيد. وفي الجانب الآخر كان هنالك خالي، وهو على طبيعته المعتادة، يواصل الكلام دون انقطاع، مستغلا لكل فرصة، ومحاولا أن يثبت له إننا من أغنى العائلات في المدينة. ولم يشارك بينو في تلك المناقشة، بل لم يؤمى خلالها حتى برأسه دلالة الرفض أو القبول. كان يمكن أن يحيرني ويغيظني ذلك الموقف السلبي من بينو. غير أن خالي لم يكن من النوع الذي يسهل تثبيط همته أو احباطه. بل أقنعه صمت بينو بأن الرجل فاقد للروح. وبشكل من الأشكال، كان هذا مما يسره لأنه – بصورة عامة – كان يؤثر آباء الفتيات المترددين الخجولين الذين تسهل السيطرة عليهم. ولما غادرهما بينو لم يكلف خالي نفسه بمرافقته حتى مركبته، بل اكتفى بتوديعه بكلمتين قصيرتين (مع السلامة).

وكان أمر المهر وقيمته قد تم حسمه من قبل. وكان خالي شديد الافتخار بنفسه وبحكمته، ولا يسمح بأدنى غموض في المسائل المالية. فلم يكتف بتحديد مبلغ معين يدفع نقدا، بل أوضح لهم أيضا نوعية ووزن الذهب الذي عليهم تجهيزه. وبما أني لم أكن مشتركا في تلك الصفقات، فلا علم لي بدقائق تفاصيلها. غير أني مدرك لأن مثل تلك التفاصيل الحسابية الفجة هي جزء مهم من الزواج، وإن من يقوم بالإنابة عن عائلتنا بالمفاوضات حولها لن يقبل بروبية واحدة أقل مما طلبه. بل كانت عائلتنا شديدة الفخر بحكمته وقدرته الفائقة على إنفاذ مطالبها. وكانت قدرته على انتزاع النصر في كل "معركة" يخوضها من أجل مصالح العائلة، مصدر فخز وإعزاز من جميع أفرادها. ولا يهم إن كنا لا نحتاج فعلا لذلك المال، أو أن الطرف الآخر لا يستطيع إلا بشق الأنفس أن يلبي طلبات العائلة المادية، فكرامة عائلتنا تستلزم أن نحرص على النصر بأي ثمن.

وعقد حفل الكركم (هالدي) التقليدي بأبهة وعظمة غير مسبوقة. بل لقد كان من الممكن أن نعين كاتبا متفرغا ليحصي ويدون عدد الرجال من جانبنا الذين قدموا للحفل في بيت العروس حاملين لهداياهم. وضحكت والدتي وخالي بسخرية من فكرة الصعوبة التي سيلقاها أهل العروس في منح بقشيش لكل حامل لتلك الهدايا الكثيرة.

وقدمت أنا لمكان الحفل في صحبة فرقة نحاسية، ومزامير وأبواق، إضافة إلى كل أدوات الازعاج الممكنة التي تدوس بالأقدام على اللوتس في بحيرة ساراسواتي إلهة الموسيقى، تماما مثل فيل طاش عقله، أو شيطان نشاز بربري. وبدا منظري وأنا مزين بقطعة قماش متلألئة من الذهب وواضعا خواتما وقلائد كثيرة مثل محل مجوهرات معروض للبيع في المزاد. كنت سأواجه صهري المنتظر بثمن مصاهرتي له.

غضب خالي عندما دلف لمكان حفل الزفاف. فقد عد ساحته أصغر من أن تتسع لكل أهل العريس بصورة مريحة، وتضجر أيضا من تواضع الزينة الموضوعة في أرجائه، إذ لم تكن بالفخامة التي كان يأملها. وبالإضافة لذلك فقد كان ترحيب والد العروس (شام بوناث بابو) به باردا ويخلو من المجاملة المرجوة، ولم يفتح الله عليه بكثير كلام معه. وكاد الأمر بين خالي وبينو أن يتطور لمواجهة لولا أن أحد المحامين من أصدقاء شام بوناث بابو قام بتعويض ذلك البرود بكثير من عبارات المجاملة والود والتهذيب المفرط. وقام ذلك المحامي الأسمر البدين الأصلع، وهو يربط حول وسطه شالا، ويحني رأسه ويطوي يديه ويبتسم في ملق ومداهنة، وبصوت أجش بإلقاء التحايا والعبارات المسلية على كل فرد من الحضور، ولم يستثني في طوافه على الحضور حتى عازف الصّنج الأقل قدرا في ذلك الْجَمْعُ الكبير من الناس.

وما أن أخذت مقعدي في المكان المخصص لي في الحفل حتى انتحى خالي بوالد العروس جانبا. لم أدر ما جري بينهما. غير أن والد العروس أقبل على بعد لحظات وقال: "يا بني. هل لك أن تأتي معي قليلا." عند ذلك أدركت ما كان يدور بينه وبين خالي.

لمعظم الناس في هذا العالم – إن لم نقل كلهم - غاية واضحة في الحياة. وكانت غاية خالي هي التصميم على الأ يخدعه أحد أبدا. وخشي خالي أن يقوم والد الفتاه بغشه في نوعية الذهب الذي قدمه الوالد مهرا لبته. وليس بالإمكان بعد نهاية حفل الزفاف أن يفعل شيئا إزاء أي غش أو خداع في نوعية الذهب المقدم. وكان خالي قد أقام الدليل على بخل والد العروس من نوعية المكان الذي استأجره لإقامة العرس، ومن نوع الاكراميات التي منحها لحاملي الهدايا التي قدمت له، وفي تواضع كل شيء في حفل العرس وتحضيراته.

ولم يكن خالي ليأمن ألا يخدعه والد العروس في كمية ونوعية الذهب الموعود الذي قدمه، فأحضر معه صَائِغٌا مَشْهُورٌا تتعامل معه عائلتنا منذ سنين. وعندما دخلت إلى الغرفة مع والد العروس وجدت خالي جالسا على سرير نقال بلا وسادة، والصائغ يجلس على الأرض بجانبه، ومعه الميزان ومِحَكّ الذهب ومستعدا لبدء عمله.

التفت إلى والد العروس وقال: "خالك يرغب في فحص كل الذهب الذي قدمناه قبل البدء في مراسم عقد القران. ما هو رأيك في ذلك؟" أحنيت رأسي وبقيت أنظر إلى الأرض صامتا. رد خالي متدخلا بسرعة قائلا: "وماذا يمكنه أن يقول؟ كلمتي هي الكلمة الأخيرة في الموضوع."

التفت لي والد العروس وسألني: “هل هذا صحيح؟ هل رأيه هم الرأي الوحيد الصحيح عندك؟ هل لديك رأي فيما قاله للتو؟". هززت رأسي وكأني أقول بأن الأمر خارج نطاق اختصاصي (القانوني). عندها انتفض الرجل واقفا وقال: "في هذه الحالة انتظر من فضلك حتى أجرد ابنتي من كل حليها."

قال خالي: "أنيوبام ليس له ما يفعله هنا. دعه يذهب إلى الحفل."

أصر والد العروس على بقائي بالقول: "لا. ليس لمكان الحفل. يجب أن يبقى هنا."

وسرعان ما عاد بصرة مليئة بالذهب مربوطة في قطعة منشفة كبيرة، وأفرغ محتوياتها على سرير نقال الذي كان يجلس عليه خالي. كانت كلها تصميمات جميلة لحلي من قطع الذهب الخالص التي نادرا ما ترى هذه الأيام، وليست مثل تلك القطع الصغيرة الواهية التي شاعت في زمننا هذا. أخذ الصائغ واحدة من تلك الحلي وقال: "لا داعي لاختبار مثل هذه. لا يوجد معدن آخر هنا غير الذهب. مثل هذا الذهب الخالص نادر الوجود هذه الأيام." وضغط بيديه على سوار مصنوع على هيئة فم تمساح فانحنى السوار بيسر.

وكنوع من زيادة الحرص، قام بتصنيف كل القطع الذهبية أمامه وتسجيل وزنها ونوعها في كراسته للتأكد من أن ما أعطي أخيرا للفتاة لم يكن هو نفس ما وضع أمامه للتو. وتأكد من أوزان ونوعية الذهب وأكتشف أن ما وضع أمامه يفوق ما طلبه.

وكانت هنالك في الحزمة التي جلبها والد الفتاة زوج من الأقراط الذهبية. تناولها والد الفتاة وطلب من الصائغ فحصها. قلبها الصائغ بين يديه وقال بسرعة: "يبدو أنها مستوردة. فالذهب فيها نسبته قليلة بعض الشيء."

أخد والد الفتاة زوج الأقراط الذهبية ووضعها في يد خالي وقال له: "يمكنك الاحتفاظ بهذه.". حدق خالي فيها وأدرك أنها كانت من ضمن الحلي الذهبية التي أهداها أحد أفراد عائلته للعروس. أحمر وجهه. إذ لم يكن قد حُرم فقط من متعة القبض على ذلك الرجل الفقير وهو يحاول غشه، بل كان قد أذل في تلك الصفقة فصاح بي متبرما ووجهه متجهم متكدر: "يا أنيوبام. يمكنك الذهاب لمكان الحفل الآن."

أوقفني والد العروس وقال لي: "لا. ليس بك حاجة للذهاب هناك الآن. يجب أن تأكل عشاءك أولا."

تعجب خالي وقال: "العشاء؟ هل سمعتم بعشاء قبل ساعة عقد القران؟"

ولكن أصر والد العروس على أنه يجب أولا تناول العشاء، وأن لا داع للقلق.

وعلى الرغم من مظهر الرجل الخارجي الذي يوحي بالرقة، إلا أنه كان يبدو مالكا لقوة داخلية جعلت خالي يرضخ لطلبه. وجلس أهل العروس لتناول طعام العشاء. كان الطعام بسيطا ولكنه كان شهيا، وتم تقديمه بطريقة نظيفة وأنيقة أرضت كل الحضور.

وبعد الانتهاء من العشاء طلب مني والد الفتاة أن أتعشى أيضا. وأثار ذلك عجب خالي فقال: "ولكن كيف يكون هذا! كيف يأكل العريس قبل عقد القران؟"

تجاهل والد الفتاة تساؤل خالي حول موضوع العشاء والتف إلى وسألني مباشرة: " ما قولك؟ هل هنالك أي ضرر في تناولك للعشاء الآن؟".

لم يكن بمقدوري تحدي خالي، خاصة وأوامره هي صدى لأوامر والدتي. لذا لم أوافق على تناول العشاء.

التفت والد العروس نحو خالي وقال له: " أرجو معذرتي على تسبيبي لكم بعض المصاعب. ويؤسفني أيضا إنه لم يكن بمقدوري تجهيز عرس يليق بمقامكم. لقد تأخر الوقت، ولا أريد أن أسبب لكم المزيد من المصاعب. فدعنا الآن إذن ..."

سارعت بالقول: "نعم. دعنا نذهب إلى مكان الحفل."

وتسأل والد الفتاة: "هل أُرسل أحدهم لجلب المركبات؟"

تعجب خالي من سؤال الرجل وقال: "هل هذا نوع من المزاح؟"

رد والد الفتاة بصرامة: "ربما كانت المزحة من جانبكم أنتم. وعلى كل حال لا أريد أن أطيل في أمد هذه المزحة."
حدق فيه خالي وهو في غاية العجب والتعجب.

واصل والد الفتاة كلامه فقال: "لا يمكنني أن أعطي ابنتي لعائلة تظن أنني يمكن أن أسرق ذهبها."

وهنا لم يفكر الرجل في توجيه حديثه لي، فقد كنت قد أثبت له من قبل أني لست بذلك الشخص المهم.

لا أريد أن أصف ما تلا ذلك من أحداث. فقبل مغادرة أهل العريس لمكان الحفل، قاموا بتحطيم كل ما قدروا على تحطيمه من ثريات وأثاث، وتركوا خلفهم المكان ركاما محطما.

وفي رحلة عودتنا لديارنا لم تكن هنالك موسيقى، بل صمتت الفرقة النحاسية والمزامير والشيهناي وبقية الآلات. واختفت في جُنْح اللَّيْل أنوار الزينة وثريات شركة مايكا الشهيرة، تاركةً مهمة الإضاءة للنجوم في السماء.

III​

كان كل فرد من أفراد العائلة في حالة من الحنق والغيظ مما حدث. والد فتاة يتصرف في أمر زواج ابنته بتلك الوقاحة! إلى أين يسير هذا العالم العجيب؟ "دعونا نرى كيف سيزوج بنته بعد ما حدث؟" ... كان في هذا التهديد للرجل شفاء لصدروهم من إهانته لهم. ولكن كيف تعاقب رجلا يبدو أنه لا يخشى من أن تظل ابنته بلا زوج؟

لا بد أنني صرت الآن أول رجل في سائر مناطق البنغال يطرده والد خطيبته من حفل زواجه. أي نجم شؤم حقود ذلك الذي أصاب شابا مؤهلا للزواج من كل النواحي بوصمة تبقى أبد الدهر – بعد كل تلك الأبهة والموسيقى الصاخبة والأضواء الباهرة؟ لن ينسى أو يغفر أولئك الذين رافقوني لحفل زفافي أنهم خدعوا بتناول العشاء في حفل زواج لم يتم. وندموا على أنهم لم يفرغوا ما دخل جوفهم من طعام في وسط مكان الاستقبال نفسه. وأرغى خالي وأَزْبَدَ وتوعد برفع قضية تعويض ضد والد الفتاة لنقضه العقد بينهما وإساءة السمعة. ولم يثنيه عن اللجوء للقضاء إلا نصح بعض المشفقين من الأهل بأن ذلك سيزيد من وطأة الفضيحة.

وكنت أنا أيضا أغلي من الغضب المكتوم، ومضيت أبرم شاربي وأدعوا ربي أن تجبر الظروف شام بوناث بابو على أن يعود لي وهو على ركبتيه طالبا منى المغفرة. وسرى مع هذا التيار من السم الأسود تيار آخر لم يكن أسودا على الإطلاق. ولم يكن بمقدوري أن أطلق إسار قلبي من تلك الفتاة المجهولة التي احتلته. وسكنت فيه – باهية متألقة خلف جدار لم أستطع تخطيه، ووجهها مضمخ يفوح برائحة معجون الصندل، وعلى خديها حمرة خجل العذارى، وهي مرتدية لساري عرسها الأحمر، وقلبها يدق بمشاعر وعواطف لا أعلم عنها شيئا. كانت في خيالي مثل وردة من ورود النباتات الزاحفة، على أتم الاستعداد لمنحي كل أزهارها المتفتحة في فصل الربيع. بإمكاني شم عبير أنسامها، وأسمع شقشقة أوراقها. كانت على بعد خطوة واحدة مني – وفجأة استطالت تلك الخطوة لتغدو إلى ما لانهاية.

وكنت من قبل أطوف حول بيت بينو – دادا مساء كل يوم. كانت كل كلمة مبهمة وصفها بها تستثير خيالي. كنت قد أدركت من كلامه عنها أنها فتاة ذات جمال استثنائي فاتن. غير أني، واحسرتاه، لم أكن قد قابلتها قط أو حتى رأيت صورتها. وبقيت صورتها غامضة في مخيلتي. ولم تظهر في حياتي في الواقع، ولكن للأسف لم يكن بمقدوري حتى الحفاظ على في خيالي. وظل خيالي يحوم حول سور غرفة الزفاف الذي لم أعبره، وهو مترع بالحسرات حزنا على ذلك الفقد.

كان صديقي هاريش قد أخبرني بأنها قد رأت صورتي. لا بد أنها سُرت بما رأت. وبالطبع ليس لديها من سبب لئلا تُسر. أود أن أقنع نفسي بأن صورتي تلك ما زالت مخبوءة عندها في مكان سري. أليس من المتصور أنها في عصر أحد الأيام ربما أحست بالوحدة فأخرجتها من مخبئها بعد أن غلقت الأبواب؟ أولم تتدلى شعرات نافرة من خصل شعرها الأمامي على صورتي وهي تنحني فوقها؟ وإن سمعت صوت أقدام في الخارج، ألم تكن لتسارع بإخفائها في طيات سّاريها المعطر؟

ومرت الأيام. ومضى عام كامل. وكان خالي قد توقف عن الحديث معي في أمر الزواج من فرط الاحراج. بينما ظلت أمي تؤثر التريث حتى تنجلي ذكرى الاذلال المهين قبل الدخول في مفاوضات جديدة.

ونما إلى علمي أن شابا مؤهلا قد تقدم لفتاتي تلك، ولكنها كانت قد أقسمت على ألا تتزوج أبدا. وبطريقة ما كنت جَذِلا بذلك الخبر. تخيلت أنها ستكون مُلْتَاعٌة علي. كانت قد عافت الطعام فلم تعد تأكل إلا أقل القليل، وصارت تنسى تصفيف شعرها في الأمسيات. وظل أبوها ينظر في وجهها ويتعجب متحسرا لما حاق بها من تغير. وأكاد أتخيله وهو يدخل على ابنته في غرفتها فيجدها غارقة في دموعها، فيسألها وهو منكسر الفؤاد: "أخبريني يا أمي الصغيرة، ما بالك هكذا؟ ما الذي يضايقك؟". وسرعان ما تمسح الفتاة دموعها لتؤكد له أنها بخير وما بها من سوء. كانت ابنته الوحيدة، لذا كانت أحب الناس إلى قلبه. وكان لا يطيق أن يراها تذبل أمامه كوردة في موسم الجفاف.

اِبْتَلَعَ كرامته عَلَى مَضَضٍ وأتى لعتبة بابنا. وماذا بعد؟ التف حولي السم الأسود الذي كان يسري في أوردتي مثل ثعبان كوبرا، وأسمع حفيفه في أذني يردد: "حسنا. فلتقم بإعادة إجراءات الزفاف. وتجهيز الأضواء الباهرة والموسيقى، ودعوة العالم بأسره لحفل زفافك. وفي وسط كل ذلك ترمي بغطاء رأسك (topor) وتمرغه على الأرض، وتفض جمع الضيوف وتغادر مكان الحفل." غير أن تيار مشاعر أخرى، شفافة كالدموع، تأخذ هيئة البجعة تقول لي: " دعني أطير إليها، كما طارت من قبل إلى زهرة حديقة دامنتي، الأميرة بمملكة فيداربا، حاملا إليها رسالة من حبيبها. دعني أذهب لتلك الفتاة الوحيدة لأسعدها برسالتك."

وماذا بعد؟ ستنقضي ليالي الحسرة، وستهطل أول زخات أمطار الخير على الأرض الجافة، وستظهر من جديد تلك الوردة الذابلة. وفي هذه المرة سيبقى العالم خارج السور، وسأكون أنا أول وآخر الداخلين، ولا أحد سواي. وماذا بعد؟ حسنا، عند ذلك الحد تكون القصة قد انتهت.

غير أن القصة لم تختتم على ذلك النحو. دعني أحكي لك سريعا عن النقطة التي صارت القصة بعدها تدور إلى ما لا نهاية.

كنت أصحب والدتي في رحلة زيارة معبد مقدس. كنت قد أخترت لتلك المهمة لأن خالي لم يكن قد غير رأيه بعد في عبور يعبر جسر حورا. خلدت إلى النوم في عربة القطار، وكانت حركتها الايقاعية المنتظمة قد أثارت في منامي سلسلة من الأحلام ظلت ترن في عقلي وتسعده. وفجأة صحوت من غفوتي عند توقف القطار في إحدى المحطات، والتي بدت لي أيضا كحلم. وفي مثل تلك الإضاءة الخافتة - لا شيء يبدو مألوفا سوى النجوم – كل شيء غيرها يبدو ضبابيا وغامضا. ولم تفلح أنوار المحطة الخافتة القليلة العدد إلا في أن ترينا أن بقية العالم غريب وقَصِيّ. ونامت أمي في مضجعها في العربة تحت مصباح مغطى بظُلّة خضراء اللون. وكانت حقائبنا متناثرة من حولنا وكأنها في حلم، وهي تحلق بين الحقيقة والخيال. وفجأة، في وسط هذا العالم الغريب وتلك الليلة الخارقة لقوانين الطبيعة، سمعت صوتا. كان صوت فتاة تقول: "أسرعي. يوجد مكان هنا في هذه العربة."

وقع صوتها على أذني كموسيقى بديعة. يجب على المرء أن يستمع لأصوات اللغة البنغالية من فم فتاة كي يقدر ويحب تلك اللغة. ينبغي كذلك أن يسمعها من غير توقع، مثلما ما سمعتها أنا، في مكان مجهول، وساعة غير معتادة.

غير أن صوت تلك الفتاة لم يكن صوت أي أنثى. كانت فيه روح موسيقية واضحة لم تطرق أذني من قبل مثلها قط.

لطالما كنت مسحورا بالصوت البشري. فالجمال المادي يجد القبول والاعجاب عند كل الناس. ولكن بالنسبة لي، فالصوت هو ما يحمل حقيقةً جوهر ما هو فريد ومحير عند أي شخص. أسرعت بفتح نافذة العربة، غير أني لم أر شيئا في الخارج. وعلى الرصيف المظلم وقف حارس السكة حديد حاملا فانوسا بعين واحدة. ثم تحرك القطار، إلا أنني بقيت جالسا بالقرب من النافذة. لم تكن في مخيلتي صورة واضحة محددة. غير أني وضعت صورة متخيلة لشخص بعيد، يغمرك مثل سماء تضيئه النجوم، ولكنه يظل بعيدا عن متناول يدك. وجد له ذلك الصوت الموسيقي المجهول على الفور في قلبي مكانا خاصا أحتفظ به لأكثر الأشياء حميمةً. وفي خضم ذلك الدفق المضطرب للوقت، بدا لي أن ذلك الصوت قد تفتق عن زهرة بلغت حد الكمال، لا تتأثر بتارات التغيير.

تحرك القطار على إيقاع طبل حديدي. كانت لاَزِمَةُ الأغنية تدور في عقلي هكذا: "يوجد مكان هنا في هذه العربة." وهل هنالك بالفعل مكان لآخر؟ ليس من اليسير لإفساح مكان أو معرفة شخص آخر. غير أن عدم المعرفة يشبه الضباب. وعندما يختفي الضباب، تأتي المعرفة وتبقى للأبد. يا موسيقاي التي تفوق الوصف، ألم أكن أعرفك دوما؟ يوجد مكان، توجد مساحة فارغة لي. سألتني أن أسرع، وهأنذا. لم أتلكأ للحظة واحدة.

لم أنم جيدا في تلك الليلة. ففي كل محطة كنت أخرج رأسي من النافذة خشية أن تنزل من سمعت صوتها، دون أن أراها بعد، قبل أن تنقضي تلك الليلة.

وعند طلوع الشمس كان علينا تغيير القطار في محطة تقاطع كبيرة. كنا قد اشترينا تذاكر على الدرجة الأولى، وكنت آمل أن نتفادى الزحام. غير أنه تصادف أن كان أحد جنرالات الجيش مسافرا في ذات القطار، ورأيت جنود ذلك الجنرال البريطاني يقفون على حراسة أمتعته عند الرصيف. عندها فقدت الأمل في ركوب الدرجة الأولى. وكانت عربات درجات القطارات الأخرى شديدة الازدحام بصورة مرعبة تجعل من المستحيل أن أعثر لأمي على مكان مريح. وبينما كنت أنظر، وأنا في غاية الاكتئاب، للعربات المكتظة بالركاب، واحدةً بعد أخرى، سمعت صوتا نسائيا من عربة للدرجة الثانية ينادي على أمي: "من فضلك. تعالي لعربتنا. يوجد مكان خالٍ هنا."

ذهلت وباغتتني المفاجأة حين أدركت أن ذلك الصوت النسائي هو ذات الصوت الذي زارني بالأمس وطاف بقلبي وخيالي، ودارت لاَزِمَةُ الأغنية في عقلي هكذا: "يوجد مكان هنا في هذه العربة." لم يكن هنالك وقت ليضاع في إدخال والدتي ومتاعها إلى عربة صاحبة ذلك الصوت. أقر بأني أكثر إنسان أخْرَق في هذا العالم. فاضطرت الفتاة صاحبة ذلك الصوت للقيام من مقعدها لتساعدني في حمل الحقائب والفُرُشٌ المطوية من الحمالين في الرصيف إلى داخل القطار الذي كان قد بدأ في التحرك. وفي غضون كل ذلك الانشغال نسيت آلة تصوير كنت أحملها. ولكن في تلك اللحظات لم أكن لأعير مثل تلك الخسارة أدنى اهتمام.

يصعب علي سرد الأحداث التي وقعت بعد ذلك. لا أعرف من أين أبدأ أو أنتهي من وصف لحالة النشوة الكاملة الي أحسست بها. ومن غير المفيد ربط ودَوْزَنَة الأحداث كلمة كلمة لتكون جملا في حالتي تلك.

وكانت تلك الموسيقي التي تدور في عقلي وخيالي طوال الوقت تقف أمامي بلحمها وشحمها. ورغم ذلك فقد كانت بالنسبة لي نغمة حلوة. ونظرت إلى أمي فرأيتها لا تستطيع أن تغض بصرها عن الفتاة. لا بد أنها في السادسة عشرة أو السابعة عشرة من العمر. وكان باديا أن شبابها الذي صحا حديثا لم يكن يلقي عليها ثقلا كبيرا، لا جسديا ولا عقليا. كانت كل حركاتها وإيماءاتها تتسم بالعفوية والتلقائية، وكانت براءة جمالها معدومة النظير، ولم يكن يعيبها أي كبت أو ارتباك.

راقبتها عن كثب، غير أن التفاصيل تستعصى على التذكر. بل لا أستطيع الآن أن أتذكر لون الساري الذي كانت ترتديه. ولكني أعلم أن ملابسها لم تطغ قط على شخصيتها. كانت تقف متميزة تماما عن كل من كن حولها. كان يحيط بها عدد من البنات اللواتي يصغرنها في العمر، وكن يتسامرن ويتضاحكن في روح زمالة مرحة. وكنت أتظاهر بأني أقرأ في كتاب، ولكني كنت في الواقع أرخي أذني إلى ما كن يخضن فيه من أحاديث. ولم يتعد ما سمعته ما هو معتاد من حوارات طفولية مرحة. ولكن لفت نظري إنه لم يكن لاختلاف أعمارهن أثر في علاقتهن مع بعضهن. ولاحظت أن تلك الفتاة عادت طفلة مثلهن وهي تبادلهن الحديث في سعادة وحبور. وألححن عليها أن تقرأ لهن من كتاب أطفال مصور كن يحملنه. لا بد أنهن كن قد سمعن تلك القصة عشرات المرات من قبل. ولكنني أفهم لماذا كن ما زلن مصرات على سماعها مجددا. إنه صوت الفتاة. أحال السحر في صوتها القصة إلى ذهب خالص. وكانت حركاتها وإيماءتها وهي تتلو عليهن الحكاية تشيع بينهن متعة الحياة لدرجة أني أحسست بأن البنات كن يصغين لها أكثر من سماعهن للقصة نفسها، ويدعن نافورة الحيوية في صوتها تسري في قلوبهن. أضاءت تلك الحيوية يومي، وبدا أنه حتى السماء فوقنا قد تزودت منها بشحنة ضخمة من ذلك التألق والسطوع. ونادت الفتاة في المحطة التالية بائعا متجولا كان يبيع حبوبا متبلة (شانا) واشترت منه كمية وزعتها على من كن معها من البنات، ومضين يمضغنها بصوت عالٍ، وباستمتاع وتلذذ لا يخفى.

كانت والدتي موزعة بين الاعجاب وعدم الرضا مما تفعله الفتاة. لم يمنعها وجودي في العربة – أنا الرجل في وسطهن - من أن تتصرف بحرية وتلقائية شديدة. ولم تكن أمي مرتاحة، على نحو خاص، لطريقة أكل الفتاة في حضرتي بمثل تلك الصورة. ولكن لم يبد على الفتاة أنها من النوع الوقح الذي لا يأبه بأحد. فعزت أمي تصرفها لعدم تلقيها تدريبا كافيا على حسن السلوك والتصرف. وبدا أنها تود التعرف على الفتاة وتريد أن تتحدث معها. غير أنها كانت – بمقتضى عادة قديمة –تتأبى، بل تستنكف أن تبدأ أي حديث مع الغرباء.

وفي تلك اللحظات توقف القطار في محطة تقاطع أخرى. وكان هنالك على الرصيف بعض الضباط الإنجليز (الذين ربما كانوا من ضمن مرافقي الجنرال) في انتظار ركوب قطارنا. غير أن كل العربات كانت مكتظة بالركاب. ومروا من أمام عربتا عددا من المرات، مما جعل أمي تتجمد فزعا وارتياعا. وكنت أنا، بصراحة، جزعا أيضا.

وقبيل تحرك القطار أتي أحد مسؤولي السكة حديد بالمحطة بوريقة صغيرة بها بعض الأسماء وألصقها في مقعدين في عربتنا، وقال لنا آمرا: "الأصحاب – البريطانيون - حجزوا هذه المقاعد من قبل. يجب عليكم إخلاءها، وأن تجدوا لكم مقاعد في أماكن أخرى." قمت من مقعدي على الفور، غير أن الفتاة سارعت بالقول باللغة الهندية: "لا. لن نتحرك من هنا." غير أن المسؤول أصر بالقول: "ليس لك من خيار." وعندما لم تستجب الفتاة نادى المسؤول ناظر المحطة الإنجليزي. خاطبني الرجل الإنجليزي قائلا بكل تهذيب: "أنا آسف ..." وقبل أن يكمل جملته كنت أنادي على أحد الحمالين ليحمل أمتعتنا من العربة. واشتعلت عينا الفتاة بالغضب وهي تنظر إلى وقالت: "لا. لن تتحرك من هنا. أبق حيث أنت." وخطت نحو باب العربة وخاطبت ناظر المحطة بلغته: "هذه كذبة! هذه المقاعد لم تكن محجوزة."، وجذبت الوريقة التي وضعها مسؤول المحطة ومزقتها أمامه، وقذفت بقطعها إلى الرصيف. وفي تلك اللحظات وصل الضابط البريطاني وخلفه مرافقه العسكري، وأشار للعسكري بأن يضع أمتعته في داخل العربة. ولكنه عندما سمع ما قالته الفتاة ورأى ما فعلته، رَبَتَ على كتف ناظر المحطة وانتحى به جانبا. لا علم لنا بما دار بينهما من حديث، إلا أنه تم تأخير قيام القطار حتى تضاف له عربة ركاب إضافية.

ابتاعت الفتاة بعد ذلك كمية أخرى من الحبوب المتبلة المشوية، بينما داومت على النظر من النافذة، متظاهرا بإعجابي بالمناظر الطبيعية، لأداري خجلي.

توقف القطار في محطة كانبور. وقامت الفتاة لتنزل متاعها من العربة. وجاء أحد الخدم ليساعدها في حملها. ولم تستطع أمي صبرا فسألت الفتاة: "ما اسمك يا بنتي؟"

"أنا كلياني."

ووجدت نفسي ووالدتي نسألها في صوت واحد: "ووالدك؟"

قالت لنا: "هو طبيب، اسمه شام بوناث سين."

وغادرت القطار في رفقة البنات الأخريات.

خاتمة

وتحديت أوامر خالي، وتجاهلت اعتراض أمي وسافرت إلى كانبور، حيث قابلت الفتاة ووالدها. وجلست أمامهما خاضعا ذليلا. وتأثر شام بوناث بابو باعتذاري، إلا أن كلياني قالت لي بأنها عازفة عن الارتباط بأي رجل. ولما سألتها عن السبب قالت لي: "بحسب أوامر أمي."

يا إلهي! إن كانت هنالك أم، فهل لها خال أيضا في تاريخ عائلتها؟"

ثم أدركت أنها كانت تتحدث عن "الوطن الأم". بعد خيبة مسرحية زواجي منها، قررت كلياني أن تنذر حياتها تماما لتعليم البنات.

غير أني لم أفقد الأمل. فقدت اخترقت تلك الموسيقى قلبي لتبقى فيه للأبد. تماما مثل نغمات مزمار من عالم غير عالمنا هذا، يطلب مني أن أخرج من أخدودي. وبقيت لاَزِمَةُ: "يوجد مكان هنا في هذه العربة" هي لازمتي طوال الحياة. كنت في الثالثة والعشرين حينها، وأنا الآن في السابعة والعشرين، ولم أفقد الأمل بعد، ولكني هجرت خالي. وبما أني كنت الوحيد عند أمي، فلم يكن بمقدورها هجري.

هل هنالك أدنى أمل في أن أتزوج؟ لا. ليس هنالك من أمل. لا أزال أعيش في عالم ذلك الصوت الذي هبط علي كضوء براق في ليلة حالكة السواد. هنا يوجد مكان. هنا يوجد مكان لي. لا بد أن يوجد. وإلا فأين سأذهب؟ ستأتي السنوات وتمضي، وأظل كما أنا. أقابلها واستمع لصوتها. وأحاول أن أكون مفيدا لها في كل الأوقات بقدر طاقتي، ويحدثني قلبي بأن هذا هو المكان الذي أنتمي له. لقد وجدت مكانا لنفسي.

يا امرأتي المجهولة... لم يتأتى لي أن أعرفك جيدا. ولن يحدث ذلك أبدا. ولكني أعد نفسي محظوظا، فقد وجدت مكاني.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى