ميس داغر - هكذا تكلّم القارىء..

يختلف القراء في تفسير أسباب انجذابهم إلى كتب (أدبية وغيرها) بعينها دون غيرها. بالنسبة لي، أرى أنّ هنالك ما يمكن أن نطلق عليه "العنصر النادر"، والذي وجوده في الكتاب أو عدمه، يكون عاملاً حاسماً لي في تصنيف هذا الكتاب ضمن العاديّ أو المبدع.
الكتاب ذو العنصر النادر، هو ذلك المؤلَّف الإبداعي الحيّ الذي تميزه عن أي مؤلَّف آخر مكتمل العناصر، بسماعك لصوت مؤلفه منذ الصفحة الأولى. هو نفسه الكتاب الذي ما إن تحمله بين كفّيك، أو تبدأ بتصفحه إلكترونياً فإنك لا تقرأه كما اعتدت مع ما سواه من كتب، بل تنساب في قراءته انسياب الماء في جدوله، فتنهيه في أيام قليلة أو حتى في ساعات. وهو نفسه الكتاب الذي لا يتركك قبل أن يدفعك إلى غوغل في محاولةَ التعرف إلى مؤلف/ته.
بالنسبة لي، أمنحُ أي كتاب فرصة أن يستهويني خلال قراءة الربع الأول من حجمه، فإن لم أجد فيه تشويقاً ركنتهُ إلى الرفّ، مع شعور شديد بالذنب تجاه ما قد يُخلّفه ذلك الربع من أثرٍ في ذائقتي، آملةً أن يتخلص وعيي اللغوي منه في أقرب عملية تنظيف ذاتي. لا أذكر أنني تجاوزتُ هذه القاعدة إلاّ في مرّات قليلة لأعمالٍ من تلك التي يُصمّ النقاد الكلاسيكيون فيها أسماعك تطبيلاً وتزميراً كي تقرأها، فإذا ما غرقتَ بقراءتها (ويلك إن فعلتَ هذا من غير قناع أكسجين) زهقتْ روحك وأنت تنقّبُ فيها عمّا قالوه، قبل أن تندم لاحقاً على تبديد طاقتك النفسية بين صفحاتها. فلا أظنّ أنّ على القارىء واجب الالتزام كُرهاً بالقراءة طالما أنّ الكاتب نفسه لم يتكلف عناء اجتذاب هذا القارىء إلى كتابه تحديداً من بين آلاف المطبوعات.
أسرد هذه المقدمة الطويلة للتعريف بواحدٍ من الكتب المختلفة، التي تحملُ عنصرها النادر في كل صفحة من صفحاتها. إنه كتاب "هكذا تكلّم القارىء" لمحمد حسن المرزوقي. كتابٌ يُسلّم مكبّر الصوت أخيراً للهامسين من خلف الأبواب، كي ينطقوا عالياً بأزمات النقاد المكرّسين، ووقوع القرّاء في فخ مراجعاتهم النقدية المضللة. ويعود الفضل للصديق القارىء النهم عبد الرحمن عقاب في تعريفي إلى هذا الكتاب. فبالإضافة إلى تميّز الكتاب بعنصره النادر، فإنّ كاتبه، الإماراتي الشاب، محمد حسن المرزوقي، يخالف التوقعات في حداثة سنّه، كما أنه يُبدّد الستيريوتايب الباهتة التي ما يزال البعض المنعزلون يتبنونها من أنّ دول الخليج لا تُنتج في عالم الفِكر ما يُضاهي إنتاجات شمال الوطن العربي.
هذا شاب، إماراتي الأصول والنشأة، يُعرّف نفسه على أنه "قارىء"، يسوقُ الناقد والكاتب كلٌ أمام مرآته، فيكشف لهما عن سوءاتهما حتى يتقوقعا على نفسيهما خجلا.
أعلم أنني لن أعطي هذا الكتاب ذي الحجم الصغير (111 صفحة) حقه سوى بنقله حرفياً هنا، فالكتاب يُعبّر بنفسه عن نفسه، ولن أزيده ثناءً بأكثر مما يُثني هو على نفسه، برشاقته وخفة ظلّ أسلوبه، ودقّة تشخيصه لأعطاب النقاد والكُتّاب معاً.
والجميل أيضاً أنه متوفر إلكترونياً

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى