عادل الأسطة - سميرة عزام.. ملف (1....2)

1- سميرة عزام.. خمسون عاما وعام

في آب من العام 1967 فارقت الكاتبة العكاوية الحياة. كان وضع الهزيمة على من عاش النكبة مرا وقاسيا. لقد كانت هزيمة 1967 استمرارا لنكبة 1948 ويبدو أن قلب الكاتبة لم يحتمل خسارتين كبيرتين كل واحدة أقسى من الثانية. لقد احتمل القلب النكبة وضعف عن احتمال الهزيمة ، فخان القلب صاحبته.
ما من عام يمر إلا تذكرت القاصة سميرة عزام، وأنا لا أنساها أصلا لأتذكرها، فنصوصها تحضر كل فصل دراسي لأدرسها نموذجا لأدب النكبة. وصارت بعض قصصها جزءا من المنهاج المدرسي الفلسطيني، بعد أن كانت جزءا من المنهاج الجامعي. أحب طلابي،ممن صاروا معلمين، نصوصها فأدرجوها في المنهاج "خبز الفداء"، فأخذت أدرس قصة "فلسطيني " ، ولا تغيب قصتها "لأنه يحبهم " عن ذهني. وفي المحاضرات أشير إلى قصتي "عام آخر " و"الثمن".
ثمة عبارات للقاصة -طبعا على لسان شخوصها- في بعض قصصها لا يغيب مضمونها عن الذاكرة. إنها عبارات دالة قوية مؤثرة، منها بعض عبارات قصة "لأنه يحبهم":
"يا إلاهي أي حجر تلقمنيه وأنت تقول بحكمتك الأجنبية: "في مثل ظروفكم يا صاحبي لا يدري المرء في أية لحظة يمكن أن يصبح لصا"و"حتى هذه تتجرأ على مال اللاجيء"-المقصود: الفئران، و "أعلمكم أن تجوعوا ليتمرد فيكم اليأس..لتكبروا تكبروا على الرغيف الذليل"، وفي قصة فلسطيني " وينك يا ولد قل" للفلسطيني " أن يضع لي في السلة زجاجة كولا " وكان الفلسطيني صار فردا في قطيع وصارت فلسطينيته عبئا عليه فقرر "أن يتلبنن ".
ومثل بعض عباراتها بعض عناوين قصصها.
في حزيران من العام 1966 نشرت القاصة ، في مجلة الآداب البيروتية، قصة عنوانها لافت "الحاج محمد باع حجته "،وكان الحاج ميسور الحال فحج سبع حجات ، وفي غمرة أحداث 1948 فقد أكثر أرضه وفقد ابنه فارس الذي تصدى لمجنزرة إسرائيلية أمطرته بعشر رصاصات، وكأن فارس مثال في لاوعي فارس عودة الذي تصدى في انتفاضة الأقصى -( اندلعت في 28 أيلول 2018)- بجسده لدبابة إسرائيلية. (هل كان فارس عودة قرأ قصة سميرة عزام المذكورة؟ ).
لم تدرج قصة "الحاج محمد .. "في أية مجموعة من مجموعات القاصة، وكان وليد أبو بكر ألحقها بكتابه "أحزان في ربيع البرتقال: دراسة في فن سميرة عزام القصصي " (1985/ 1987 ).
تلفت القصة أنظار القراء الذين يبحثون عن أثر النكبة على المجتمع الفلسطيني. وكانت القاصة رصدت هذا في بعض قصصها التي أشار إليها يوسف اليوسف في كتابه "الشخصية والقيمة والأسلوب: دراسة في أدب سميرة عزام "(د.ت)وفي القسم الثامن من دراسته توقف أمام قصة"لأنه يحبهم" وأورد عناوين القصص التي صورت القاصة فيها النكبة ولم يذكر قصة "الحاج محمد .. "ولعله لم يطلع عليها.
يذهب اليوسف إلى أن قصة "لأنه يحبهم " أفضل قصص سميرة الوطنية لأنها تنبع "من صميم الكبد أو الوجدان " وهو، من وجهة نظري، لم يجاف الصواب.
ويمكن القول إن قصص الكاتبة ذات المضمون الوطني أقرب إلى القصيدة الغنائية التي تعبر عن تجربة صادقة حارة، ولهذا تمس شغاف القلب وتعيش مع قارئها طويلا.
وأنت تقرأ "الحاج محمد .. " تتذكر قصة غسان كنفاني "أرض البرتقال الحزين".
أي ألم كابده اباؤنا و أجدادنا في أثناء تركهم وطنهم وعيشهم لاجئين؟
في "أرض البرتقال .. "التي كتبت في الكويت في 1958 سرد عن الخروج الفلسطيني من يافا فعكا، وقد رأى بعض الدارسين في القصة سردا لتجربة شخصية لغسان وأبيه. في القصة نقرأ عبارات قاسية، وكان الأب فكر في قتل نفسه وفي الانتحار، لأنه يريد أن ينتهي، وكان يطلب من أبنائه الخروج من البيت لأنه ما عاد يحتمل.
الحاج محمد باع حجته وأخذ يهرب من واقعه المرير بتخمير العنب وملء الزجاجات به ليشرب وليغيب عن الوعي، بل وأخذ يوزع الزجاجات على غيره ليسكروا ولينسوا ما هم فيه.
في الأسابيع الأخيرة ألحت القاصة على ذهني، وقد تذكرتها لأسباب؛ لأن ذكرى وفاتها اقتربت، ولأنني قرأت روايات ذكرتني بعض أسطرها ببعض قصصها، ولأنني قرات بعض قصائد قديمة لمحمود درويش تذكر ببعض قصص سميرة .
يذكر درويش في إحدى قصائده أن وكالة الغوث لا تسال عن موته، وهو لم يعش في المخيم، وخلافا له القاصة في قصتها "لأنه يحبهم "فجاسوس المخيم يبلغ الوكالة عن الموتى حتى تشطب أسماءهم من قائمة المعونات، والقاصة معلوماتها أدق .
وكنت أقرأ في رواية الكاتبة التركية (اليف شافاك )"لقيطة اسطنبول " فتذكرت "دموع للبيع".
في الصفحة 470 من الرواية وصف لما تقوم به الندابة/ اللطامة التي "أعطيت مبلغا من المال كي تأتي إلى منزل الميت وتندب من أجل أناس لم يسبق لها أن رأتهم ولو مرة واحدة.كان عويلها مؤثرا أدى إلى انهيار بقية النساء".
في قصة "دموع للبيع "تبيع خزنة في الأتراح دموعها لمن يعطيها المال حتى تندب ميته، ولكنها حين تموت ابنتها لم تستطع ذرف دمعة واحدة "بعضهم قال إنها جنت حتى بدت كالعقلاء، وقالوا لم يعد لديها دموع تبكي بها بعد أن استنفدتها في المآتم، كما لم يعدم الماتم من قال: خزنة لم تبك لأنها لم تقبض "هل من صلة أيضا بين قصة عزام وبين فكرة قصيدة السياب "حفار القبور"؟ربما!
في قصيدة السياب نقرأ عن حفار قبور ينتظر جنازة ليقبض أجرة حفر قبر فيتمكن من العودة إلى البيت ومعه الطعام فيتعشى هو وزوجته، وتكون الجنازة جنازة زوجته. يا لها من مفاجأة! وفي القصة تموت ابنة الندابة التي تبيع دموعها فلا تتمكن الندابةمن ذرف دمعة واحدة على ابنتها . يا له من موقف!.
في آب ودعنا القاصة وأبرز أدبائنا وفنانينا: محمود درويش وناجي العلي وسميح القاسم وعبد اللطيف عقل.


الجمعة 3 آب 2018


***

- هل قرأ الشاعر محمود درويش القاصة سميرة عزام؟

عاش محمود درويش حتى العام 1970 في فلسطين التي تغنّى بها وخصص عنواناً من عناوين مجموعاته لها "عاشق من فلسطين"، وسافر إلى موسكو للتثقف في الفكر الماركسي والفلسفة حتى يعود إلى حيفا ليواصل نضاله تحت راية الحزب الشيوعي معتمداً على ثقافته الماركسية.

لم يعد الشاعر إلى حيفا، فقد سافر إلى مصر وأقام فيها حتى 1973 تقريباً، ليغادرها إلى بيروت وليستقر فيها حتى 1982. لم يلتق درويش في بيروت بغسان كنفاني ولا بسميرة عزام، فقد توفيت القاصة في آب 1967. قرأ درويش كنفاني ورثاه بمقالة معروفة "غزال يبشر بزلزال“، ولا أعرف إن كان قرأ القاصة أو إن كان رثاها شعراً أو نثراً. استشهد كنفاني في تموز 1972 وتوفيت عزام ودرويش في آب، وبين وفاتهما واحد وأربعون عاماً.

هل كان الشاعر من قرّاء فن القصة القصيرة وفن الرواية؟ وهل تأثّر، بوعي أو دون وعي، بقراءاته النثرية؟

الإجابة عن السؤالين السابقين ليست صعبة. يتطلب الأمر أن ننظر في كتبه النثرية وفي مقالاته وفي كتاب ”الرسائل" المتبادلة مع الشاعر سميح القاسم الذي توفي أيضاً في شهر آب.

تقول لنا رسائل محمود إلى سميح أنه قرأ روايات من الأدب العبري والعالمي، فحضور النص العبري في نصوصه الإبداعية واضح، وتقول لنا رسائله و"خطب الدكتاتور الموزونة“ أنه قرأ روايات من الأدب الأميركي اللاتيني وتأثر بها. إن "خطب الدكتاتور الموزونة“ هي النص العربي الموازي لرواية الدكتاتور في روايات أميركا اللاتينية التي نقلت إلى العربية في سبعينيات القرن العشرين.

أعود إلى السؤال الأساس: هل قرأ الشاعر القاصة وتأثر بها؟ وحتى يعثر المرء على إجابة يطمئن إليها فيجب أن يقرأ نتاج الكاتبين معاً.

ما الذي أثار الفكرة في ذهني؟ أهي مناسبة وفاة الكاتبين في هذا الشهر؟

كنت أقرأ في أشعار الشاعر الأولى فلفت نظري سطر للشاعر يقول فيه إن وكالة الغوث لا تسأل عن موته فهو كلاجئ فلسطيني لا يعنيها. وكنت اقرأ في الوقت نفسه قصة سميرة عزام "لأنه يحبهم“ فلاحظت اختلافاً واضحاً بين موقف الشاعر والقاصة من موقف وكالة الغوث من اللاجئ الفلسطيني. إن الوكالة في قصة عزام يعنيها موت اللاجئ حتى تقطع عنه المعونات، وكان أبو سليم جاسوس المخيم سرعان ما يخبر مكتب الوكالة في المخيم بمن مات أو هاجر لتباشر الوكالة إجراءاتها.

ما سبق قال لي إن درويش لم يقرأ سميرة حين كان في الأرض المحتلة، ولعل قصصها لم تعرف في فلسطين إلا بعد أن نشرها يعقوب حجازي صاحب دار ”الأسوار“ في سبعينيات القرن العشرين.

وأنا أبحث عن قصة "الحاج محمد باع حجته" ألتفت إلى التصدير، فتذكرت أشعار درويش بعد خروجه من الأرض المحتلة، وفكرت في الصلة بين بعض قصص القاصة وبعض قصائد الشاعر، وهذا ما يجب أن نتوقف أمامه.

تصدّر القاصة قصتها بالآتي: "إليها تلك الغريبة التي سألتها في بيت صفافا من وراء الشريط "كيف تشعرون أنتم في سجنكم"، فقالت: "بل قولي كيف تشعرون أنتم في (حريتكم)؟..." فألقمتني حجراً بهذا السؤال الجواب".

والتصدير يأتي على واقع الفلسطينيين بعد نكبة 1948، فـ 650 ألف فلسطيني صاروا لاجئين، و150ألف بقوا في قراهم ومدنهم وصحرائهم. أي الفريقين يعاني أكثر؟

من هي وراء الحدود تنظر إلى من بقي في أرضه على أنه سجين، إذ أصبحت فلسطين كلها سجناً، وعلى العكس منها تنظر المرأة الباقية في أرضها.

تضع سميرة عزام السؤال بين علامات تنصيص، وتضع كلمة "حريتكم" بين قوسين، ما يعني أن الدال يقول أكثر مما يقوله ظاهره. أنه محمل بمدلولات بعيدة فيها من السخرية المرة ما فيها، وأن الحرية ليست متوفرة لفلسطينيي المنفى، كما أن البقاء في فلسطين ليس بالضرورة إقامة في سجن.

إن قصص سميرة عزام ذات المحتوى الوطني تقول أيضاً إن الحرية غير موجودة في المنفى. قصة "فلسطيني" مثلاً.

تحفل أشعار درويش، بعد خروجه من الأرض المحتلة، بالكتابة عن الغزاة والطغاة وعدم التفريق بينهما. يستطيع المرء أن يأتي بمقاطع شعرية ونثرية ليدلل على ما يقوله.

منذ 1979، في قصيدة "سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا“ يبرز دالا الطغاة والغزاة معاً، وفي قصيدة الشاعر في رثاء راشد حسين "كان ما سوف يكون“ عام 1977 نقرأ عن قسوة المنفى وتفضيل سجن الوطن عليه:

"والتقينا بعد عام في مطار القاهرة

قال لي بعد ثلاثين دقيقة:

"ليتني كنت طليقاً
في سجون الناصرة ".
هل ثمة فرق بين المقطع السابق وتصدير قصة سميرة؟
في رثاء ماجد أبو شرار يكتب درويش:
"وكان السجن في الدنيا مكاناً
فحررنا ليقتلنا البديل"

و:

"ويا لحم الفلسطيني فوق موائد الحكام، يا حجر التوازن والتضامن بين جلاديك، حرف الضاد لا يحميك، فاختصر الطريق عليك يا لحم الفلسطيني".

هل اختلفت الكتابة في مقالته "في وصف حالتنا"؟

"عشرون مملكة ونيف
كوليرا طاعون ونيف
من ليس بوليساً علينا
فليشرف
من ليس جاسوساً علينا
فليشرف"

بلغ الأمر ذروته في مجموعة "حالة حصار" عام 2002 حين كتب الشاعر، وهو في رام الله، عن إخوته في العالم العربي:

"لنا إخوة خلف هذا المدى
إخوة طيبون، يحبوننا، ينظرون إلينا
ويبكون، ثم يقولون في سرهم:
"ليت هذا الحصار هنا علني.."
ولا يكملون العبارة: "لا تتركونا
وحيدين...لا تتركونا"

هل قرأ الشاعر القاصة أم هي التجربة المتشابهة؟


***











تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى