المدينة منتجة للحضارة مغوية للبداوة

يعد مفهوم المكان من أكثر المفاهيم إشكالاً في التداول المعرفي، لما يحمله من غنى في الدلالة والإيحاء، ولما يتصف به من تعقيد ومفارقة، فهو مفهوم يجيد لعبة الوجه والقناع والإخفاء بالإبراز، يخفي أحيانا ما ينبغي أن يظهره ويبرز أحيانا أخرى ما هو من المفروض أن يختفي. يبدي الوضوح والبساطة ويضمر اللبس والغموض.
وفي كتابه الجديد "المكان والعمارة" الصادر حديثا عن "وكالة الصحافة العربية – ناشرون"، يعرف الدكتور علي ثويني الخبير المعماري باليونسكو، المكان بأنه "هو الأرض التي حفر الإنسان عليها وجوده ودمغ فوق أديمها الإثبات على أنه قائم منذ القدم، وهو الجغرافيا والبيئة وكل ما يحيطنا ويتعايش معنا". والانتماء لهذا المكان يأتي من فعل الذات المتوارثة فعلاً ومتابعةً، ويتواصل الانتماء بتواصل الفعل الحي المثبت فوق الأرض كتأكيد وتجسيد للحضور، وأي انقطاع لعلاقة الإنسان بالمكان يعني البدء بالتراجع عن المضمون العملي لوجود الوطن والفعلي لوجود الإنسان. وبذلك فالوطن مكّون ثلاثي التركيب، أضلاعه: الإنسان والمكان والزمان”.
ويذهب إلى أن العمران هو نقطة التماس بين العَمارة والجغرافيا، أما الصلة بينهما وبين العمران والإنسان فهي ما يطلق عليه "علم المكان" أو "بيئة المكان العمراني والمعماري"، وهو الأساس الذي يبنى فوقه كل اعتبار: الاتجاه والتشميس والتربة والتهوية والإطلالة والمحيط، وغير الجانب المادي فإنه فلسفة وشغف وحنين مجنح وخيال جامح وفضاء تصوري، يرى منه الماضي والمستقبل؛ فالماضي عني بالتراث والمستقبل عني بالرؤيا المعمقة لما يؤول إليه هذا الحيز من البيئة، بعد أن تدنى نوعها على أثر نزق الإنسان وجشعه ووحشيته، حينما يحرق ما بنت يديه، ويقدم العدوان حلاً للخلاف مع أترابه.
ووفقا لحسن فتحي، فالمعماري لا يبني في فراغ ولا يضع مبانيه في حيز فارغ كمجرد مخططات فوق صفحة خالية، فهو يدخل عنصراً جديداً إلى بيئته التي وجدت في اتزان منذ زمن طويل، إن لديه مسؤليات تتعلق بما يحيط بالموقع، وإذا تخلى عن مسؤليته وألحق الأذى بالبيئة، فإنه يرتكب جريمة بحق العَمارة والبيئة.
البداوة والسلطة
يذهب علي ثويني أيضا إلى أن فكرة المدنية تعني العلاقة مع المكان، ضمن مجموعة من الفعاليات والممارسات والأنظمة والقيم والعلاقات والمظاهر التي يتم تبادلها داخل هذا المكان، وتقدم المدينة في السياق الاستعمالي للأشكال التي تتأصل فيها النظم الاجتماعية والعلاقات الثقافية، والحاجات وقيم الرفاهية والمعيشة، مثلما تتبدى فيها مظاهر العمران بسماتها التي تؤكد هويتها وخصوصيتها، وتحدد طبيعة نظام المنافع والحماية، مع وجود شبكات الخدمات والمتع والمواصلات والشوارع النظيفة، التي تؤمّن لسكانها خدمات سهلة ومريحة، فضلا عن توفير منظومات عالية للخدمات الراقية التي تقدم نفسها دون تعقيدات وفي أوقات لا تضع الناس أمام صعوبات تفادي آثارها وضغوطها، وهو ما يعني ربط هذا التحول بتنظيم المدينة وتيسير خدماتها ضمن مشروع عمراني ينهي واقع التريّف التي تعاني منه اليوم.
ويؤمن ثويني بصحة مقولة ابن خلدون بخصوص البادية، وأنها منتجة للسلطة أكثر من المدينة التي تجد نفسها عاجزة لكنها بالنتيجة منتجة للحضارة ومغوية للبداوة، فهذه الضدية المدمرة بين السياسي السلطوي والحضاري الإنتاجي في التكوين العربي هي التي صاغت روحية المدينة العربية الإسلامية المتلكئة، وتفسر خفوت المشاركة وظهور فلسفة الإنسان العام في الثقافة العربية والإسلامية، التي تشكل سببا من أسباب سيطرة البادية وخضوع الحاضرة أو المدينة الأمْر الذي لا يتيح لقوى الإنتاج الحضرية والمدنّية التحول إلى عناصر مشاركة في السلطة العامة للمجتمع كما أتيح لقوى الإقطاع ثم البرجوازية المدينية في مجتمعات أوروبا وبعض مجتمعات آسْيا.
وعادة ما تنتج المدينة الحضارة التي تتكرس بعد ثلاثة أجيال كما خبرنا بذلك ابن خلدون. بيد أنها تفشل في إنتاج السلطة، على عكس البادية التواقة للحكم لأسباب اقتصادية دون طائل، والتي تجد لها المْسّوغ من خلال الغزو والغنيمة أو حتى ذرائع الدين والعرق، وأي ذريعة تجدها مناسبة في حينها للانقضاض والهيمنة. وهذا ما أدركه الغزاة الأميركان، فسلموا العراق إلى سلطات ريفية متناحرة، ليتصاعد التنافس بينها، بالرغم من التبرقع بالتحاصص “الجنتلماني” الظاهري، ومن جراء ذلك ساد الإفساد وعم الخراب.
ثمة فضاء معرفي ثقافي يتعلق بالظاهرة اللسانية للمدينة التي لها ما يميزها في كنف الثقافة الواحدة عن الريف وعن الثقافات الأخرى
وهكذا "يبدو أن الغرب المتشدق بالديمقراطية فضل أن تكون سلطاتنا دائما بدوية، كونها قابلة للابتزاز ومطواعة في التسيير وتمرير خطط التجهيل". وهم يعملون في الظاهر لإرساء الدولة لكنهم بالخفاء يقوضونها، كونهم أصحاب مصلحة بعدم وجودها، فهم متفقون على أن لا ضرورة لتطوير الوعي، وإن مكوث الجهل واستشرائه، يسهل عليهم مهامهم، فحكم شعب جاهل أسهل من واع. وهذا ما نجد له سياقات كثيرة في التجهيل القسري للمدينة وخلطها عنوة مع القرية، حتى أمست حواضر مثل بغداد محض قرية منتفخة سرطانيا، تحكمها القبيلة وتؤرقها المرجعيات الطائفية.
فضاء ثقافي
المكان المديني هو أسمى ما توصل إليه الإنسان في تنظيم المكان، فالمدينة معين لا ينضب في معرفة الفكر والنظام العقلي واللساني والأعراف الاجتماعية والعقائد الدينية للأمم خارج الإطار العمراني والمعماري، والأمكنة سجل الأُمم وذاكرتها الملموسة، وتصنف بعضها متاحف مفتوحة، تذكر باستمرار الدنيا، حيث يصفها ابن خلدون بأنها قرار تتخذه الأُمم عند حصول الغاية المطلوبة من الترف ودواعيه، فتؤثر الدعة والسكون وتتوجه إلى اتخاذا لمنازل للقرار، ويقول عنها على ثويني إنها فضاء ثقافي متعدد القراءات، يشي عن صلة متجذرة بين الإنسان والمكان، لذلك يربط ثويني بين المدينة والفنون الأدبية وبخاصة الرواية، وهو يرى أن فكرة المكان لم تتطور من الناحية المعمارية إلا بعد أن أصبح فن الرواية معروفا، فمصطلح "المكان" لم يكن معروفا في الكتابات المعمارية قبل عام 1890، وأصبح مهما كجزء من حركة الحداثة المعمارية مثل مصطلح "الشكل" و"التصميم"، لذلك فإن ربط فكرة "المكان" بالرواية لها ما يبررها من الناحية النقدية.
وفي العصور القديمة كتب السومريون ملحمة جلجامش، والإغريق الإلياذة، والفرس الشاهنامة. وكل تلك الأعمال مترعة بملامح الفضاء المديني التي انبثقت منها. وورد في "ألف ليلة وليلة" إشارات لذلك التواشج من خلال اسمي بطليها شهريار وشهرزاد، وهما كلمتان مركبتان كل منهما تحمل اسم شهر التي تعني بالفارسية المدينة؛ فاسم شهرزاد يعني ابنة أو وليدة المدينة، واسم شهريار يعني رفيق المدينة.
وعموما لا يمكن أن تنأى عمارة المدن عن سرد أدبي نابع من كينونتها وشارح لسكناتها وحركاتها، وثمة فضاء معرفي ثقافي يتعلق بالظاهرة اللسانية للمدينة التي لها ما يميزها في كنف الثقافة الواحدة عن الريف وعن الثقافات الأخرى. فرّقة الطبع ورهف النفس وتوق الجمع للتجمل، تنعكس بشكل جليّ في لغة المدينة، التي ينظر إليها من طرف البداوة والريف باستخفاف، وبكونها ضرب من الدعة، وتقليدها هبوط ومسخ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى