محمد فتحي المقداد - إضاءة على رواية (أيّام الخبز) للروائيّ مطر محمود مطر (طوالبة)

الواقعيّة الاجتماعية من أكثر المناهج ارتباطًا بالعمل السّرديّ بصفةٍ خاصّة، ويرجع السّبب إلى أنّ الفنّ القصصيّ يُعدّ أقرب الأشكال الأدبيّة إلى الواقع، ورواية (أيّام الخبز - للروائي مطر محمود مطر) تُصنّف ضمن هذه المدرسة الواقعيّة في الأدب.
بداية تعتبر الرواية موضوع هذه العُجالة وثيقة تأريخيّة وشاهدة على مرحلة من حياة الأردنيين، وألقت الضوء على الحراك المجتمعيّ في قضيّة متشابهة مع كلّ المجتمعات الإنسانيّة ذات النّهج الديمقراطيّ، والمصاعب الاقتصاديّة تستدعي الاستدانة من المؤسّسات الدوليّة، وعلى رأسها البنك الدوليّ عندما تُصبح ديونه عصًا يُسلّطها على الدول مُتّخذًا منه حجّة وسببًا لانتهاك سيادة الدّول وإذلال الشعوب، والتلاعب بمقدّراتهم وصولًا إلى رغيف الخبز معضلة العالم.

***

وعنوان الرواية هو العتبة المُفضية إلى مسالكها وزواياها المُضاءَة والمُعتمة، ولعلّ فيه أكثر من إشارة موحية، بالترّحم على أيّام زمان. مثلًا عندما اتّخذ المرحوم (وصفي التل) قراره بزراعة القمح في محاولة الاكتفاء الذاتيّ، والاستغناء عن استيراده؛ لتحرير القرار السياسيّ من ضغوطات الخارج، وقصته الشّهيرة مع السفير الأمريكي أوائل الستينيّات من القرن الماضي، حينما اتّهم الشّعب الأردني بالكسل، الأمر استفزّ الرّئيس وصفي التل، فقام بجولة على أنحاء المملكة ابتدأها من مدينة (معان)، والتقى هناك وجهائها قائلًا لهم: "آين كوايركم*؟ أريد أن أراها، فزار عدّة بيوت ليجد أن الكواير فارغة، فخاطبهم: "لا أريدها فارغة بعد الموسم القادم".
*(الكواير جمع كوارة وهي حيّز كبير على شكل مستطيل متوازي الأضلاع مصنوع من الطين والتبن لتخزين الحبوب فيه، تُعبّأ فيه من الأعلى وعند الحاجة لها تؤخذ من فتحة في أسفل الحيّز).
واستعادت الرواية من مقولات المرحوم (وصفي التل) في هذا الخصوص، على لسان (أبو العبد) الرّاوي الموازي للكاتب:
"يجب أن يكون غذاؤنا من زرعنا، من أجل أن يكون قرارُنا بأيدينا"، و "الذي لا يأكل من فأسه، لا ينطق من رأسه". وهي مقولات خالدة مُتجدّدة استلهمها الكاتب بذكائه وتطبيقها من جديد على الواقع.
يدخل الصراع من أجل الوطن وعلى الوطن، ليكون الشّعار العام لمحور العمل الروائي (أيام الخبز).
أ‌- وهو المُبرٍر الأخلاقي الذي جعل الحركات والأحزاب تشتغل على تأجيج المشاعر، وانضمام الكثير من الناس إلى التجمّعات والاعتصامات، فمن نظرة لواقع الأحزاب العربيّة عمومًا أنها دمّرت الأوطان في سبيل الوصول إلى الحكم والتمسّك به إن كانت تحكم، وصولًا بها إلى الدكتاتوريّة ونتائجها الوخيمة. وهي على خلاف الأحزاب في العالم الديمقراطيّ التي عملت على بناء وازدهار أوطانها، بينما هنا كانت معاول هدم وتدمير.
ب – في المقابل يأتي مبرّر الخوف على الوطن من الأنظمة واتّخاذ الوسائل الكفيلة بالمحافظة على استتباب الأمن، ومحاولة أي خروج على القانون، ومعاقبة أصحابها، وهنا أتوقف عند الوسطيّة السياسيّة في الأردن، حينما يقول الروائي مطر محمود في ص 82 على لسان (أبي العبد) البطل الثاني في روايته (أيام الخبز) : "هذا البلد غير دمويّ، ولم يُسجّل عليه أيّ حالة إعدام لمعارضيه، أو تنكيل بهم وبعائلاتهم".
فهذا ما أتاح للأردن أن يكون دوحة للحريّات الشخصيّة مقارنة مع محيطه العربيّ، وهو ما سمح للأحزاب والحركات السياسية على مختلف انتماءاتها أن تتجمّع وتتظاهر وتهتف ضدّ الحكومة، وإفساح المجال للرأي الآخر ليقول كلمته ويعلو صوته ضمن هامش واسع للحريّات العامّة، وظهور مؤسّسات المجتمع المدنيّ، وهذه سابقة عربيّة تُسجّل للأردنّ.

***

فضاءات المكان كانت واضحة تمامًا، ابتداء من العالم فالوطن العربي فدُوَل الجوار العربي للأردن، ثمّ إربد وتفصيلاتها اعتبارًا من البيت والدّكان والمكتب الهندسيّ والشارع والدوّار والمركز الأمنيّ والأحياء والحارات والقرية.
مما أتاح مساحة للروائي لينسج خيوط الرواية على مهلٍ لانضاج الحدث، وليتّخذ لنفسه مكانًا خارج الرواية، وكآنه جلس في بُرج سكنيّ عالٍ، مما أتاح له رؤية واضحة تمامّا، والتقط صورة للمشهد بِبُعدٍ ثلاثيّ.
واتّخذ كذلك مسافة فاصلة عن الحدث وأدواته، وكان ديمقراطيًّا مع أبطاله فيما يقولون من آراء مختلفة متناقضة في حواريّات جميلة السّبك، بتطبيق حريّة الرأي والرأي الآخر بدون تشنّج وعصبيّة وضجيج، كما هو الحال عند المُتحزّبين تعصّبًا لرأيهم، ويُحسب للروائيّ أنه كان على مسافة واحدة من كافّة التيّارات والأحزاب، فلم يُصدر حكمه عليها أو ناصر طرفًا على حساب الآخر، سوى أن الممارسات هي التي حَكت ذلك بهدوء تامّ.
وشخصية أبي العبد البطل الموازي للروائي، فهو موظف سابق كان في سلك التربية والتعليم، وهو مُطّلع عليمٌ على بواطن الأمور، حاضر الذهنيّة باستعادة الماضي القريب وأحيانًا البعيد، وإعادة تدويره ليكون مُنطلقًا صالحًا وهاديًا للحاضر والمستقبل.
وهل هناك من حكمة باستلهام شخصيّة الملك حسين ووصفي التل رحمهما الله؟. باعتقادي أن إجماع عموم النّاس على حبّهما، لما أحدثا من تغيير إيجابيّ في حياتهم، ولارتباط ذكرهما في فترة تاريخيّة حرجة استدعت منهما قرارات جريئة انسحب أثرها على حياة الفرد والجماعة في الأردن على الأخصّ.
وأعتقدُ كذلك أن الشخصية المُوازية كانت عظيمة الأثر أكثر من الشخصيّة الرئيسية (حسن)، فهي التي قالت كلّ شيء بوعيٍ حقيقيّ لا غبار عليه، وهو بشكلٍ حقيقيّ كان مُنحازًا للحراك السلميّ مُستهديًا بالتاريخ حينًا، وبمعارفه وثقافته بمهارة بإخبار أصدقائه وزبائنه بما يدور، وكلّ ذلك من خلف السّتارة، وهذا ما يعيدنا إلى إشكاليّة المثقّف والسّلطة كما نظّر لها عالم الاجتماع الحديث (إدوارد سعيد).

***

رواية (أيام الخبز) متماهية مع رواية (خبز وشاي – للروائي أحمد فراس الطراونة)، بكونهما من نفس المدرسة الواقعيّة، بجرأتهما على الدخول في حقل ألغام شائك استفادتا من هامش الحريّات العامّة في المملكة، بتصوير الواقع، وقول ما أراد وما اعتقد الكاتبان.
أيّام الخبز طافحة بالجمل المفتاحيّة بدلالتها الفكرية، ومن الفائدة إيراد نماذج منها على سبيل المثال لا الحصر:
- (إن الناس في هذا البلد يركضون من أجل لقمة الخبز، ولم أدر أنّ للرّكض من أجل الخبز ألوانًا وأشكالًا) ص26
- (الخبز ليس أرغفة تُباع وتُشترى، ويلتهما الناس بشراهة، إنه شيء يشبه الخوف المزروع في فطرة الإنسان، إنه أفيون الوجود) ص27
- (نحن الذين نحبّ الوطن ببلاش) ص34
- (أحبلناها وحتمًا ستلِد) ص65
- (كلّ الحقائق تغيّرت لمّا كبرنا، وبقينا أوفياء لا نتغيرّ) ص232
- (وطنٌ لا نحميه، لا نستحقّ العيش فيه) ص233
- (إن لم يكن ما تريد، فلتُرِد ما يكون) ص239
- (الانسحاب لا يعني أننا لا نستطيع المواجهة، ولكن الانسحاب أحيانًا بعني أنه لا أحد يستحقّ أن تستمرّ لأجله) ص243
- (الخبز صار لدينا عبارة عن عمل واستثمار لا أكثر، أما عمليًّا فإننا نأكله) ص245
- (الذي يحبّ وطنه يحبّه رغم العيوب، بل يحبّ العيوب أيضًا) ص 245
- (لا خبز بدون نار) ص247

***

بعد انتهائي من قراءة الرواية، والتأمّل في رسالتها التي وصلتني على الأقلّ، فقد ذكرتني بمقولة لأحد المفكرين الفيتناميّين:
(إنّ كلّ ثورة يُفجّرها مهووس، ويقودها عاقل، ويقطف ثمارها انتهازي).
وبمقولة أخرى:
(ثوّار الأمس هم رجعيّو اليوم).
ومن ناضل في هذه الرواية بدافع حماسيّ ظاهر رافعًا شعارات برّاقة تحت غطاء قضيّة الوطن والمواطن، تبيّن في آخر الرواية آنه تاجر مواقف وشعارات لتنفيذ مآرب ومصالح شخصيّة، انطلت حيلتهم على البسطاء الذين ضحّوا بأموالهم وأنفسهم ومستقبلهم.
ميزة الرواية المُجسّدة بالبطل الحقيقيّ (حسن) الذي بذل ضحّى وخسر، ليستفيق مؤخّرًا على هول الصدمة، وينقلب من جديد على مسيرة حراكيّة أتعبته وأنهكته ماديًّا.
بالمقابل البطل الذي صمد على مواقفه بثبات هو البطل الموازي (أبو العيد)، وهو الكاتب الروائي حسب تحليلي لمفاصل الرواية.
ولا يفوتني حرص الكاتب الشّديد بتخوّفه على الوطن من الخراب، وكانت من خلال إشارات لما يحدث من حروب طاحنة في دول الجوار، لأن هناك من استغل وحوّل الحراك السلمي إلى أعمال مسلّحة؛ خرّبت البلاد، و شرّدت العباد.
ومن خلال تتبّعي سرديّات الرواية القصصية، لمحتّ لون القصة. القصيرة والقصيرة جدًا وصولًا إلى الومضة والشذرة، والرواية قادرة على استيعاب كافة الفنون الأدبية. واتّسمت رواية أيام الخبز بواقعيّتها المنحازة للإنسان وحقوقه المشروعة التي يكفلها الدستور، ويؤطرها القانون.
ونزلت الرواية لتنتشل البطولة من القاع الاجتماعيّ، وجعلت من أبطالها النّاس البُسطاء، وركّزت على الفضائل والمكارم من الأخلاق، وتعرية السّوء وأهله بشكل فاضحٍ ومُنفّر من أفعالهم، ورسمت بمهارة ملامح المجتمع الأردنيّ وتقديمه إلى العالم الخارجيّ برؤية حضاريّة.

عمّان – الأردن
7 / 8 / 2019

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى