سعد محمد رحيم - امرأتان وثلاثة رجال.. قصة قصيرة

مثلما يحدث عند فجر كل يوم أيقظها هدير القطار الصاعد إلى بغداد.. تمطّت قليلاً قبل أن ترفع جسمها بتثاقل وتفتح النافذة.. كانت العربات قد اختفت فيما وراء منعطف السكة، حول البيوت العالية، ومضت بين حقول القمح.

نزلت الدرج إلى الطابق الأرضي ودخلت المطبخ.. كانت أمها هناك تعد الشاي مثلما تعودت منذ سنين طويلة.. تمتمت بـ ( صباح الخير ) فردت عليها أمها بنبرة أكثر خفوتاً.. قالت وهي تجلس إلى مائدة الفطور.

ـ أيقظني القطار كالعادة.

ـ ...............

ـ لم أبصره.. لم أر مؤخرة العربة الأخيرة حتى.

ـ هل ما زلت تعتقدين أنك إن لم تره سيكون يومك تعيساً؟.

ـ لا أذكر أياماً سعيدة كثيرة.

ـ لا أظننا نمر بأوقات سيئة.

ـ أشعر بالفراغ.

ـ هذا لأنك لا تشغلين نفسك بأي شيء.

ـ لو كنتُ موظفة لتغير الحال.

ـ لماذا لا تتصلين به، مركزه كبير؟.

ـ لن أتصل.

ـ لم يحقد بسبب ما فعلت به.

ـ انسي الأمر.

ـ هو صديق مخلص لأخيك.

ـ وجهان لــ ....

ـ يا لأنفك اليابس.

جلبت الأم إبريق الشاي وجلست قبالتها.. لم تتناول سوى شريحة صغيرة من الخبز وقطعة أصغر من الجبن المالح، وراحت ترشف من فنجانها على مهل.. قالت الأم؛

ـ يمكن أن يكون لديه الحل.

ـ لا أريد حلاً منه.

ـ حتى وإنْ كان الوحيد الذي يملكه في هذه المدينة.

ـ حتى....

صعّدت الأم عينيها إلى صورة متوسطة الحجم في إطار من العاج موضوعة على الكاونتور خلف ظهر الفتاة.. وجه رجل في الستين بشارب خفيف وذقن حليق وعينين حادتين.

ـ عنيدة مثله.

التفتت الفتاة إلى الصورة.

ـ لا تعودي وتلوميه.

ـ ماذا ترك لنا؟.

ـ أرجوك أمي.

قامت الأم؛

ـ سأتصل به أنا.

ـ لن تتصلي بأحد.

قامت المرأة الشابة هي الأخرى.. سحبت علبة السجائر.. ناولت أمها سيجارة ووضعت أخرى بين شفتيها، وبعود ثقاب أشعلت السيجارتين.. وقفتا تدخنان بصمت.. حين انتهتا فتحت المرأة الشابة الراديو فانساب صوت فيروز "يا جبل اللبعيد خلفك حبايبنا".

ـ لماذا لا تسافرين للعاصمة؟.

ـ سافرت مرة وأنت تعرفين ماذا كانت النتيجة؟.

ـ قال أنك ذهبت إليه في الوقت غير المناسب.. كان برنامجه مزدحماً.

ـ تبرير سخيف... كما قلت، إنهما وجهان لــ ......

ـ مشكلتك أنك، أبداً، لا تحاولين مرة ثانية.

ـ المحاولة الثانية إذلال.

ـ هو ليس غريباً.

ـ هذا لا يغير من واقع الحال شيئاً.

تأملت الأم الصورة الموضوعة على الكاونتور ثانية.

ـ لو لم يهدر نصف أملاكه في القمار وبيوت البغاء.

ـ والنصف الآخر، ماذا حلّ به؟.

ـ بفسخك الخطوبة ارتكبت الخطأ الأكبر.

صاحت المرأة؛

ـ أرجوك، هذا لا علاقة له بذاك.

استلت علبة التدخين وجرت تصعد الدرج إلى غرفتها.. قالت الأم برجاء؛

ـ على الأقل، اتركي لي سيجارة.
أعلى