عادل الأسطة - معمر القذافي والمدينة (1 من 2)

يختار الرئيس الليبي القتيل معمر القذافي لما سمّاه قصصا قصيرة عنوانا هو "القرية... القرية، الأرض الأرض وانتحار رائد الفضاء" ويدرج تحت عنوانه عنوانا ثانويا هو: مع قصص أخرى. هذا يعني أن القذافي له موقف من القرية لا يبرزه العنوان وحده، بخاصة العنوان الرئيس "القرية..القرية" فأنت ابتداء لا تدري أيحب الرئيس القرية أم ينفر منها، ولكنك لا تشك لحظة واحدة في أنه يدعو إلى الارتباط بالأرض والتمسك بها، فرائد الفضاء انتحر. انتحر رائد الفضاء وهو رائد فضاء كأن الفضاء الذي نشده لم يعجبه فآثر الانتحار.
وحين تدلف إلى النصوص، وسأسميها نصوصا لأنها ليست بأي حال من الأحوال قصصا، توحي بأن القذافي يحب القرية ويدافع عنها ويدعو إلى العيش فيها، وستعرف أن العنوان هذا يقصي جانبا آخر من شخصية القذافي هو موقفه السلبي المطلق من المدينة، ذلك أن النص الأول من النصوص عنوانه "المدينة .. المدينة"، وحين تقرأ العنوان وحده تتساءل أيضا: أيحب الكاتب المدينة أم يكرهها ؟ وسرعان ما تعرف الجواب.
ما إن تقرأ السطر الأول حتى تدرك موقف القذافي من المدينة. إنه هنا ينفر منها ولا يحبها ولا يحبب بها، وستعرف أيضا، حين تقترب من نهاية النص، أن القذافي يحب القرية ويحبب بها بالقدر ذاته الذي ينفر فيه من المدينة.
وربما استحضرت للرئيس صوراً تشاهدها على شاشة التلفاز، فتعزز ما تقرأ: تشاهده يجلس في خيمة في الصحراء، ونادراً ما تجده في قصر منيف.
وما إن تنتهي من قراءة نص "المدينة .. المدينة" حتى تعود بك الذاكرة إلى هذه اللازمة في الأدبين العالمي والعربي، ذلك أنها موضوع خاض فيه الأدباء والدارسون منذ فترة مبكرة.
يجدر ابتداء أن يشار إلى أن مدينة القذافي - أعني تصوره للمدينة - لها وجه واحد هو الوجه السلبي.
إنه ينظر إليها منذ بداية النص حتى نهايته نظرة واحدة - وأنت لا تستطيع أن تميز بين صوت الرئيس وصوت سارده لأنك لا تقرأ مثلاً قصة يمكن أن يكون بطلها الشخصية المحورية فيها غير كاتبها. أنت تقرأ خطابا صادراً عن الكاتب يعبر فيه عن موقفه من المدينة.
وكما ذكرت ابتداء فأنت لا تقرأ قصصا، إنما تقرأ نصوصا.
في القصة قد يكون الراوي غير الكاتب، وقد تكون الشخصية غير هذين، لكنك في نصوص القذافي أمام صوت واحد هو صوت الكاتب.
وهذا لا شك مطعن فني، إذ كان بإمكان المؤلف ألا يسمي ما كتب قصة قصيرة. كان بإمكانه أن يسميها نصوصا.
وستقرأ خطابا يمتلك فيه صاحبه رؤية يقينية للأشياء، وسينعدم فيما تقرأ الحوار، لانعدام تعدد الأصوات، ما يجعلك تتساءل: أأثر الحكم على القذافي فجعل منه كاتبا لا يستمع إلى أصوات الآخرين.
الحاكم يقول وينفذ، وإذا ما امتد به العمر وظل حاكما لمدة أربعين عاما، تزيد أو تقصر، فقد يتحول إلى إنسان آخر ينهى، يقول ولا يصغي، كأنه الواحد القهار، يشاء ما لا تشاء الأقدار. والطريف في الأمر أن الرئيس يمزح ويضحك وينكت ويدعو إلى تشكيل اللجان وحكم الشعب، فلماذا غابت هذه الروح عن قصصه؟
ولا أدري إن كان قارئ معين لنصوص القذافي كتب عنها وقال هذا فيها.
وكما ذكرت فإن مدينة القذافي لها وجه واحد هو الوجه السلبي. وربما تساءل المرء: لماذا هذا التصور السلبي ومن أين أتى؟
- هل تشابهت المدن كلها حتى يغفل الرئيس التخصيص والتمييز والإشارة إلى مدينة سلبية وأخرى إيجابية؟
- هل تشابهت المدن الصغيرة والكبيرة؟
- هل تشابهت المدينة العربية والمدينة الغربية؟
-هل تشابهت المدن على مر العصور؟
- ألم تكن هناك مدن مشرقة؟
- أليس هناك مدن أفضل من الريف؟
وربما ذهب المرء في تساؤلاته إلى ما هو أبعد من ذلك، بخاصة حين يكتب القذافي عن الريف وتمجيد القرآن له.
- هل بدت صورة الريف في القرآن كما أبرزها القذافي أم أنه أسقط رؤاه الخاصة عليها وفسر النص القرآني تفسيراً لصالح رؤاه؟
في القرآن ثمة قرية فيها مصلحون ولكن ثمة قرى أهلكها الله لأنها أغضبت الأنبياء والرسل.
وأنا أقرأ نص القذافي عن المدينة تذكرت صورتها في الأدبين العالمي والعربي، فماذا وجدت؟

أولاً:
- في الأدب العالمي:
في كتابهما "أفكار ولازمات/ موتيفات/ في الأدب العالمي" يكتب (هورست وانجريد ديميريش) عن لازمة / موتيف المدينة في الأدب العالمي، ويريان، الآتي:
تعكس فكرة المدينة حيرة الناس إزاء أماكن سكناهم ومؤسساتهم، وترمز المدينة، في بعض الأعمال، في تصورات كثيرة، لحالة العضو الذي يطور نفسه، ولكنه يلوي قبضة خالقه.
ومنذ الثورة الصناعية بدت المدينة، والتوسعات فيها، تفترض جوهر شيء عظيم مخيف. إنها الإله الذي يبتلع خالقه، وهي كتلة من الصخور التي تقع على الإنسان فتقتله.
وفي العهد القديم يبدو الموقف المحير للمدينة من خلال الموقف المتناقض لمدينة بابل الملعونة وللقدس المحظوظة المتسامحة. تغدو بابل نموذجا للمدن في العصور المتأخرة / الحديثة الكبيرة. إنها مدن وسخة وملوثة ومكان للجريمة والغواية والفساد الذي لا يوضع له حد إلا بالنار.
وأما القدس فهي ملكة المدن تعكس شوارعها الذهبية ضوء الله وعلوه، ويتيح سورها المضيء لليهودي المتجول العودة وتوفر له الحماية.
ويورد المؤلفان كتابات وتصورات لمدن أخرى مثل روما التي مجدها (فيرجيل).
روما مدينة أسستها الآلهة، ولقد مدح (فيرجيل) الحياة الهادئة المسالمة في العالم الأرضي كقيمة يطمح إليها.
خلافا لـ (فيرجيل) فإن (هوراس) و (يوفينال) في قطعهم الهجائية (الساتير) وصفا روما بأنها مدن صغيرة / أحياء صغيرة للسقوط الأخلاقي.
لا يقف خالق المدينة إزاء مدينته التي خلقها غريبا. إنه يبدو مثل طابة تلعب بها قوة غير مفهومة.
وممن وقف من المدينة موقفا عدائيا (جان جاك روسو) الذي هاجمها هجوما عنيفا باعتبارها شكلا اجتماعيا معارضا للطبيعة، (روسو) الذي دعا إلى العودة إلى الطبيعة التي يعد مجتمع المدينة متعارضا معها.
ومما يورده (هورست وانجريد ديميريش) في المدينة، باعتبارها غدت رموزا واستعارات أن المدينة - أو أحد أحيائها - تشبه امرأة غاوية / عاهرة. لقد بدت هذه الاستعارة في بابل وتضخمت تضخما خطيرا.
ولقد بدت المدينة مثل دينامو / محرك لقوة خالقة تجر الإنسان إليها وتستهلكه. وغالبا ما شبهت بالماء العاصف المخدر أو المحيط الهادر. المدينة يكثر فيها الضباب والدخان الذي يجلب السقوط ويفسد البيئة الاجتماعية.
إن الوصف التفصيلي الموسع للوسخ والعفونة؛ عفونة المباني، يوضح الانحطاط الفردي ويؤدي إلى الأفول الاجتماعي.
إن الدخان والنار المنبعثين من المداخن الضبابية والرماد المتشكل منها يسببان فقدان الأمل بالحياة.
المدينة أيضا رمز للجحيم أو الشيطان الذي يولد انطباعا بالمعاناة اللامحدودة للملعونين.
وأما لازمة / موتيف الحركة الدائرية للمتاهة فتستحضر عدم وجود حلول لمخرج ما من الأزمة. هناك أيضا صور المكان المحدود مثل القفص والزنزانة والغرف التي بلا نوافذ، كل ما سبق يجعل الإنسان يفقد حريته.
هل اختلفت الصورة التي رسمها القذافي للمدينة عن الرموز والاستعارات السابقة التي أوجزها (هورست وانجريد ديميريش) ؟
لا أظن، ولكن المرء يلاحظ أن المدينة في الأدب العالمي لم تكن لها صورة واحدة هي الصورة السلبية فقط، فقد وجدت لها صورة أخرى.
بمعنى آخر كانت هناك مدن ملعونة، ولكن كانت هناك مدن مشرقة مضيئة ومقدسة، والصورة الأخيرة لم يكن لها حضور في نصوص القذافي.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى