أحمد رجب شلتوت - عندما يبوح الراغب في الاختفاء..

يعرف القارىء المتابع لأعمال الكاتب “هرمان هسة” (يوليو 1877_ أغسطس1962) إنه اتخذ لنفسه عند بدء حياته الأدبية اسما مستعارا هو ” إميل سنكلير” وقع به قصائده ومقالاته الأولى التي نشرها وقت الحرب العالمية الأولى ، وهو نفسه الاسم الذي ظهرت به الطبعة الأولى من روايته “دميان”، ويعرف أيضا أن شخصيات رواياته كانت أقنعة له، فاسمه “هرمان هسة” يحيل إلى”هـ . هـ” في ” رحلة إلى الشرق”، و”هاري هالر” في “ذئب البوادي”، و”هيرمان هالنر” في ” تحت العجلة”، لعبة الكريات الزجاجية. فكأنه كان يكتب نفسه لكن الرغبة في الاختفاء عن القراء دفعته لاتخاذ اسم مستعار يتخفى خلفه، حتى عندما كتب سيرته الذاتية لم يكتبها مرة واحدة، بل توزعت فصولها الإثني عشرة على أكثر من أربعين سنة، وكتب الفصول الثلاثة الأخيرة منها بعد فوزه بجائزة نوبل في الآداب عام 1946، ولم يتناول فيها فصول حياته بحسب تعاقب مرور السنين، لكنه راعى الترتيب الزمني للوقائع حينما جمع الفصول المتناثرة في كتاب واحد هو “سيرة ذاتية”، الصادر عن دار سطور العراقية بترجمة الدكتورة ” محاسن عبدالقادر”.

مملكة الروح السرمدية
يقول الناقد “ثيودور سيولكوفسكي” في مقدمة الكتاب: إن رغبة الكاتب في غيابه الجسدي تمثل المضمون الحقيقي لقصة حياة هرمان هسة، وهي التي دفعته إلي تأليف روايتيه “لعبة الكريات الزجاجية وذئب البوادي”حتي يتمكن من إخفاء نفسه عن القراء.
ويضيف: ” تتمثل موهبة هيرمان هسّه في إخفاء نفسه بعبث خلف شخوص عالمه الروائي”، فهو يخلق سيرا خيالية يظهر من خلالها إبداع الكاتب في تنوع من الأردية العابرة”، ويبرر ذلك بقوله “إن هرمان هسة هو الحكيم الذي اكتشف ما وراء الجسد واقترب من روح الأشياء حتي كاد أن يفهم لغة الطيور والأرانب والأشجار”.
ويرى الناقد أيضا أن التناغم الثلاثي للتطور الإنساني “من البراءة عبر اليأس إلى السخرية” يشكل الأساس لجميع روايات هسة، خصوصا التي كتبها بعد تعرضه لجلسات التحليل النفسي، ويرجح لجوء هسة لكتابة سيرته بتلك الطريقة ليبرز جوانبها الإنسانية والأسطورية المؤثرة فيها، ” فما هو إذا ما انكشف عنه القناع إلا رجل بدائي هجرته البراءة”، وإذا كان هسة قد بدأ بتأمل حياته بشكل غير واعي في رواياته، فإنه وبتأثير التحليل النفسي قد تطور بما يكفي لتسليط الضوء على ذكرياته بحثا عن الخطوط الفاصلة المخفية تحت ركام سنوات حياته. فلم يعد الدافع وراء الكتابة ذاتيا محضا بل صار خارجيا يميل إلى التأمل. ويتبدى للقارىء رغبة هسة في أن يقوده بعيدا نحو ما يسميه “مملكة الروح السرمدية” فيضعف الاهتمام بالشخصية ذاتها. وسرعان ما يكتشف القارئ الذي يعود إلى “سيرته الذاتية” أن الفتنة في الروايات لا تكمن كثيراً في قدرتها على التحليق في الخيال بقدر ما تكمن في الخواص التي تعبر عن حياة الكاتب. إن نمط بداية حياة هسة تحول ليكون نموذجاً للشباب الغريب العاجز عن تقبل القيم البالية وغير الراغب في بيع نفسه إلى مجموعة قوانين، والذي انعزل عن المجتمع المنظم للبحث عن ذاته، وإن أزمة نضوج هسة الروحية تعكس أزمة وعي العديد ممن أدركتهم أزمة منتتصف العمر إلى إعادة تقييم قيمهم. كذلك يرى الناقد أن الاختلاف الرئيسي في عقل هسة وعمله لا يقع بين الحياة والفن أو بين الحقيقة والخيال، بل بالأحرى بين واقع الروح المليء بالمعاني والعالم اليومي الزائل الذي أطلق عليه “الواقع” أو “الواقع المزعوم.

طفولة الساحر
أما الكاتب نفسه، وعبر الفصل الأول “طفولة الساحر” فيكشف عن كون الرغبة في الاختباء أو الاختفاء ملازمة له منذ طفولته، وقد تمنى وهو في الثالثة عشرة أن يصير ساحرا، يفسر أمنيته قائلا: ” سببها عدم ارتياحي لما يدعوه الناس الواقع الذي تراءى لي في وقت ما أنه مجرد مؤامرة سخيفة من فعل البالغين، لذلك تملكتني رغبة ملحة لتغييره بالسحر”. ويواصل الكاتب طقوس الاعتراف فيضيف: ” وقد رافقتني هذه الرغبة طيلة حياتي…. فقد حاولت مرارا أن أتوارى خلف مخلوقاتي وأعيد تعميد نفسي، متخفيا بمرح خلف أسماء مبتكرة”. لكن تلك الرغبة كانت قد استفحلت لدرجة دفعته للانتحار بإطلاق الرصاص على نفسه وهو ابن أربعة عشر عاما.
يبدو أن جده كان أكثر الرجال تأثيرا فيه، تذكره كثيرا في الفصل الأول المكتوب عام 1923، وعاد بعد ثلاثة عقود ليمنحه وحده فصلا مستقلا ” عن جدي”، يقول: ” كان جدي يفهم جميع لغات الجنس البشري، أكثر من ثلاثين لغة، وربما كان يفهم لغة الآلهة كذلك، وربما لغة النجوم.كان بإمكانه أن يكتب ويتحدث باللغة البالية، وباللغة السنسكريتية، وأن ينشد أغنيات الكتارين والبنغال وهندستان والسنغال”، هرمان هسة أحب جده كثيرا وتماهى معه، فمنذ تشكل وعيه وهو يريد التشبه به ( يصفه بالموسوعة الكنز)، ربما لذلك ذهب حاول تقليد حياة الجد، وأثار سخط والديه ومعلّميه فأسموه بطاغية العائلة بعد أن هرب من المدرسة ومن البيت بل هرب عبر أوروبا وآسيا ، وواصل هروبه حتى من جنسيته الألمانية ليعيش في سويسرا، ثم حصل على الجنسية السويسرية قبل حصوله علي جائزتي جوته و نوبل عام 1946.

عن التجربة
الفصل الأخير من السيرة، وقد يكون آخر ما كتب هسة عموما، عنوانه ” أحداث وقعت في أنجادين” وهي منطقة تقع في جبال الألب حيث عاش منفاه الاختياري في سويسرا، عبارة عن رسالة موجهه للأصدقاء و للمقربين منه، لذا افتتحه بعبارة ” أصدقائي الأعزاء” أعقبها بتقرير حقيقة واقعة بالنسبة له ” كلما طال الزمن في التعامل مع اللغة، كلما صار الجهد المبذول فيها أكثر صعوبة وأكثر التباسا، ولهذا السبب وحده لن أكون قادرا عما قريب على تدوين أي شيىء، على الإطلاق، ويحاول شرح ما يعنيه بالتجربة، ويقترح طريقة لاستعادة الماضي ” وهي أن نلتقي ثانية بالأشخاص الذين عرفناهم منذ عقود ماضية”، وبعد الاسترجاع للذكريات وللتجربة يقول: ” رغم الكثير من الأماني والمحاولات الطموحة، بقيت بصورة عامة مخلصا لطبيعتي ولم أتنازل عن طريق تحقيقي الذات حتى في لحظات الأزمة والاضطرار. ولم يكن تناغم الكتابة، ولحنها، وإيقاع بوطها وصعودها غريبا عني، ولا كانت تفوح منه نكهة الماضي أو الفترات الباهتة في حياتي”.
ويختتم الرسالة والسيرة بكلمة “وداعا” ليواصل هوايته في الاختفاء الذي سيكون هذه المرة أبديا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى