أحمد جاد الكريم - الشِعرية.. بلاغةُ العصرِ الجديدةِ

الشعرية في أحد وجوهها هي انحراف عن المألوف، خروج عن النسق، وابتعاد عن العادي. بحسب رأي رومان ياكبسون فإنَّ اللغة كي تكتسب شعريتها، لا بد لها من انحراف عن لغة المعيار؛ ولهذا صارت هناك لغتان؛ لغة يومية ولغة أخرى شعرية، الأخيرة هي لغة الأدب، لغة الفرادة والرسوخ، الأولى يمكن أن يستخدمها الرجل العادي، في بيته وفي عمله، قد ينطق بجملة مكتنزة بالجماليات، فيقولون له: لغتك شعرية، ويقصدون التركيب الجمالي لجملته، وقد يجلس في حجرته خافضا إنارتها، بينما تنبعث من ركن فيها موسيقى هادئة، فيصفون ذلك بالجو الشعري أو الشاعري، في حين أنه قد يكتب كاتب أو شاعر نصه خاليًا من الشعرية، سائرا على النسق المكرور غير محقق للفرادة.

كثير من القصائد ليس فيها من الشعرية شيء، هي نظم، أو شعر مكتمل الأركان الموسيقية لكن خالٍ من الشعر، صور مكررة، جملٌ مرصوصة، الموسيقى الخارجية بُهرج يتخايل به الشاعر، ويظن أن أوزان الخليل قد تمنح نصه صك الشعرية.

يقول الشاعر القديم:

كأننا والماء من حولنا = قوم جلوس من حولهم ماء.

أيةُ شعرية في هذا البيت، عاب النقاد على هذا الشاعر، وطرحوا بيته من معبد القصيد لسنوات، على أبوابه منتظرًا إذْن الدخول، لكنه طُرد بلا رجعة.

تمرَّغ شعراء الحوليات في الجاهلية في بحار قصائدهم عامًا كاملا، يكتب الشاعر منهم قصيدته في أربعة أشهر، ويراجعها في أربعة، ثم يعرضها على زملائه من الشعراء بعد أربعة أخيرة، وما أن يَتم العامُ حتى يخرج بها إلى السوق، يقف على ربوة فيلقي نصه، فتهتزُّ قلوب ربات الخدور.

خرج شعراء كُثر من معبد الشعرية، فأغلب قصائد فاروق جويدة تم طرحها خارج المعبد، كرر نفسه، وأحرق تجربته، ولم تبق في الذاكرة سوى بضع قصائد له، تخشى من الهروب من ذاكرة الشعر الحديث.

الأدب البوليسي، أدب الجريمة، الأدب الممحون، أدب الأطفال والناشئة، جيد ومناسب لمرحلة عمرية معينة، ولكنه كما تقول الكاتبة البولندية أولجا توكارتشوك الحاصلة على نوبل 2018 في كتابها “رحالة”: “كتاب أشبه بوجبة خفيفة من لقمتين، تستطيع ابتلاعه مرة واحدة” في نهاية طريقك سوف تترك تلك الرواية المسلية، التسلية في حد ذاتها ليست عيبًا، لكنها غير مرحب بها في أروقة معبد الشعرية.

هل النقاد آلهة؟ هل الأكاديميون سلطويون؟ يُدخلون ويُخرجون ما يشاءون في معابدهم.

تهاوت تلك السلطة، وتصدع سُلطان النقد الأكاديمي أمام الغزو الرقمي، فكل قارئ يملك هاتفا متصلا بالإنترنت أصبح ناقدًا، يمكن أن يهوي بكتاب أو برواية إلى الأسفل، أن يمزق قصيدة للشاعر هشام الجخ، ويُنزله من عليائه الزائف، ولا يستطيع أحدٌ أن يُحاكم هذا القارئ، فقد صارت له سلطة تفوق سلطة الأكاديمي المحصور في جدران جامعته، يفك مع طلابه طلاسم نظريتي البنيوية والتفكيكية بينما هم فاغرو أفواههم لا ينجو سوى قلة منهم من مزالق اللغة والإملاء.

سلطة القارئ صارت شعريةٌ جديدة، معبد جديد بلا كهنة متجهمي الوجه، ترتفع أبنيته بمجرد الدخول للوسيط الرقمي، الكل الآن يكتب، وبجميع اللهجات واللغات. نظرة إلى التعليقات في مواقع مثل اليوتيوب، وفيس بوك، وتويتر، قد تزيد عدد تعليقات النص المرئي في اليوتيوب عن ألف تعليق، بأكثر من لهجة وبأكثر من لغة.

ثنائية اللغة بين عادية وشعرية نفسها تهاوت، مَن الذي يحدد الآن ما هي بالضبط اللغة المعيارية التي نقيس بها نصوصنا، المعيار نفسه غير محدد ومنضبط، متغير كمياه النهر تمامًا، مَن يملك السلطة، وقد تفرق دمها بين صفحات الميديا؟!

الشعرية تكسب كل يوم أرضًا جديدة، بتعدد معانيها، وتفرع مساربها، تكتسي من النصوص، ومن التفاعل مع تلك النصوص ثوبا مغايرا عن الأمس، لا تعترف بالمعيار، ولا بالتسلط، تزيل الحواجز الواهية بين الأنواع، وتكسر حدة وصرامة التصنيف، توسع ما كان ضيقا من معاني، تفتح آفاقًا جديدة، وتستثمر طاقات ترفد النصَّ من قِدمه إلى أزله بروافد لم يعهدها من قبل، تقضي على فكرة الكهنوت، وتزعزع ما كان ثابتا، تمنح النصوص براحها، لتخلق بلاغتها الجديدة والمغايرة.

أحمد جاد الكريم



أعلى