حسين سرمك حسن - حميد الربيعي في “سفر الثعابين”؛ سِفر الخيبة والإنبعاث (2)

وفي وصف الكاتب لرحلة العودة يقدّم تصويراً رائعا وشديد التأثير في نفس المتلقي عموما ، والعراقي تحديداً . وما لا يقل أهمّية عن ذلك هو هذه الروح “الإحترافية” بمعنى التعرّف التفصيلي على عمل مهرّب السلاح وتعامله الدقيق مع سلوكيات بغال المهمة وعاداتها وردود فعلها على الخوف (أصوات الرصاص) والإستفزاز (نفخ البالون وإقحام الغصن في مخرجها) . وحين كرّرنا كثيراً (إن القصة القصيرة فن ، والرواية “علم”) ، فإن سلوك حميد الربيعي السردي في هذا الموقف هو واحد من شواهد مقولتنا هذه . يجب أن لا يبيح الكاتب لنفسه تناول مسالة “إختصاصية” من دون أن يكون ملمّاً بأدقّ تفاصيلها . يقول سومرست موم في كتابه “عشر روايات خالدة” إن فلوبير قرأ أكثر من 1500 كتاب استعدادا لكتابة روايته “بيكار وبيكوشيه” . ويبدو أن حميد الربيعي يتناول هذا الموضوع مسلّحا بالخبرة العملية وهي الأهم في فن الرواية . وقد ساعد استثمار الكاتب لإمكانت اللغة العامّية في موضعين مناسبين تماماً ؛ الأغنية الشعبية التي ردّدها سالم ، ووصف حركة البغل الهائج ، على تعميق أثر التصوير الذي قدمه في نفس القارىء :
(بدأ الموكب يتحرّك . بغلان في المقدمة ثم هو وبغلان خلفه . الصناديق مثبتة على الجنب ، البندقية بين يديه ، الشموع مربوطة بعتق بغل ، الشمس وخيوط الظلام تتشر بكثافة وظل الجبل يخفي سير الموكب . hamid alrubaieeبهدوء ورويّة وأناة وصبر وأغنية “بويه اجعلني أمّك ، وأريد ارباي منّك ” . مرّت نقطة الجندرمة ، الأخرى سيتجاوزها بعد قليل (.. ) سقطت حجارة ، جفل البغل الأول ، توقّف فارشاً اذنيه . رصاصة أزّت ، تلتها رصاصة ثانية .. أربع صخور خلفها أربعة بغال .. لم يعد ثمّة مفر من أن يعيد ألعاب طفولته . يخرج البالونات ، يعبئها بهوائه المعلول ، يربطها بغصن ، ويحشر الطرف الآخر في مخرج البغل . إلتاع من الألم فانطلق معربداً … طلقة طائشة تستقر في الكتف . يندفق الدم حارّاً ، البالونات تصعد ، البغل يطارد و”يعنفص” كيفما شاء . كم صريعاً وقع ؟ ..
يربط صندوق البغل الضائع . يربط نفسه تحت بطن بغل . يربط الجرح الذي في الكتف الأيسر بكتلة الشمع . البندقيّة جعلها تتقاطع بالعرض مع بغل .
يسير الموكب ، بغل وبغلان في المؤخرة ، هو في الوسط . قاد الركب بغل . “هندرين” على بعد يومين – الصفحات 20 و21 و22) .
kh sifr althabinوقد ساهم ذكر كلمة “هندرين” – برغم أن الكاتب لم يقل أسلسلة جبلية هي أو مدينة؟! – في تعزيز صورة المكان أمام القارىء . من المهم جدا أن نعرف على أي أرض يتحرك سالم أو أي بطل لاي رواية . نحن لسنا هنا في مضمار جنس القصة القصيرة حيث يكون التركيز على الحدث المكثف المركز أكثر من التركيز على هويات الشخصيات ومجموع علاقاتها وتفاعلاتها . وإذا جاز لي الوصف يمكنني أن أقول أن القصة والرواية تشبه سيرك في سوق يوما ما . وقوفك أمام أي محل أو مقهى أو لقاؤك بصديق غائب .. إلخ في السوق ، هو قصة قصيرة . ولكن مجمل رحلتك في السوق ؛ بالمحال التي تقف عندها وتتعامل مع أصحابها ، والسلع التي تشتريها والبشرالذين تلتقي بهم ، والحوادث والمصادفات التي تقع لك مع البشر والموجودات في السوق .. إلخ ، هي رواية . طبعا هذا الوصف مبسّط وتوضيحي . رحلتك في باص من منطقة إلى أخرى في مدينة هي قصة . أما رحلتك مع جمع من البشر في حافلة من مدينة إلى أخرى فهي رواية . والمثال مبسّط من جديد . كيف ترحل مع شخص من مدينة إلى أخرى ، ويجلس بجوارك ولا تعرف عنه شيئا كاسمه مثلا ، أو لا تعرف معلومات عن الشركة وسائق الحافلة والطريق والمدن التي سوف تمر بها ؟ وعليه فإن تحديد هوية الشخصية أو الشخصيات الرئيسية في أي رواية هو مسالة حساسة وحيوية . وقد أضفى ذكر اسم “هندرين” ، أيضاً ، معرفة نسبية حول وجهة سالم المقبلة . هو ذاهب إلى العراق بعد أن جلب سلاحا لرفاقه من دولة مجاورة لا ندري أهي إيران أم تركيا ، لأن الجندرمة مصطلح لصق بذاكرتنا مرتبطاً بالإحتلال العثماني . من دون هذه المعلومة ، وعلى الرغم من بساطتها ، ستبقى رحلة سالم معلقة في الهواء وبلا اتجاه أولا . واتجاهه يعني “القصدية” ، قصدية الفعل ، التي تميّز الإنسان عن الحيوان . وتعني فتح دائرة “التوقّع” في ذهن القارىء للمزيد من الوظائف والأدوار والعلاقات والمخاطر . كما أنها تعني محاولة – ولو جزئية – لعملية “الإغلاق – closure” ، إغلاق “دوائر” بعض الأفعال والمهمات ، وفتح دوائر أفعال أخرى . إن ما نلاحظه على الكثير من النصوص – المحلية والعربية والأجنبية – التي تُكتب في العقود الأخيرة ، وبتأثير المد البنيوي ثم االتفكيكي وتوجهات الرواية الحديثة ، وسوء فهم متطلبات الحداثة ، هو إلغاء المكان أو اضمحلال ملامحه وضعف دوره في الرواية . ولهذا حديث طويل ليس هنا مجاله .
الآن ، أكملنا تأملاتنا التحليلية في وقائع القسم الأول ، وطبيعة شخصية سالم وسلوكياته ومتغيرات علاقاته مع من حوله . هو أصلا طالب مفصول من معهد الفنون (قسم النحت) بسبب سلطة العميد الغاشمة من جانب ، والسلطة العامة الطغيانية من جانب آخر . ترك العاصمة والتجأ إلى كردستان ، ليقوم بمقاومة السلطة ، وينقل السلاح عبر الحدود في مهمات أصيب في آخرها برصاصة في كتفه . ورغم ذلك نجح في الإفلات من مطارديه ونقاط السيطرة للعودة إلى “هندرين” في السليمانية . ارتبط بعلاقة حبّ أولية مع ابنة المختار الذي كان يؤويه في بيته خلال مهماته . هو مريض مزمن يعاني من الم الخاصرة . والآن هو في كهف جبلي آمن بسبب جرحه البليغ .
# مواكب الذاكرة الحزينة :
في القسم الثاني “الموكب” يواصل الكاتب حكايته بضمير الغائب أولا حيث يتحدّث عن ذكريات ومشاهد مرتبطة بـ “موكب” العزاء الحسيني :
(قبل الوصول الى الباحة ، التي تطل زاويتها السفلى على المرقد ، تأتي المواكب ، طويلة وتسير ببطء ، قادمة من أنحاء قصية ، من القصبات والقرى المنتشرة قرب حدود المدن يقدمون . رجال ملتحون فوق خيول بيضاء ، تمشي خببا ، لا تسمع صهيلها رغم الزحمة واكتظاظ الناس على الأرصفة ، أصوات أخرى تعلو وتختلط ، تندمج بين المارة والمتجمهرين في الساحات . أنّات حزينة وصوت بكاء ، عويلا على مقتل “الشهيد” في ذكراه السنوية .
الموكب بعد وصوله ينزاح فاسحا المجال لاخر سيقدم بعد حين ، يخرج الناس من السراديب ، يرمقون التشييع الذي يتم عادة مرة في العام – ص 23) .
ولعل من تسلسلات السرد الغير موفقة هو أن مفردة “الموكب” قد استعملت – في القسم السابق – أكثر من ثلاث مرات لوصف موكب البغال التي نقل عليها سالم صناديق السلاح .
وارتباطا بصفة “البيضاء” التي وصف الكاتب بها خيول المواكب ، وجدت أن صيغة “فعلاء” للجمع قد تكرّرت عشرات المرّات في الرواية . تكررت لفظة “بيضاء” فقط في أكثر من تسع مواضع : غيوم بيضاء ، حلقات بيضاء ، بالونات بيضاء .. وغيرها . وكلها خاطئة ، والصحيح هو : بيض ، لأن القاعدة للألوان هي أن يكون المفرد المؤنث على وزن فعلاء مثل خضراء ، والمفرد المذكر على وزن أفعل مثل أدكن ، وكلاهما يجمعان على وزن فُعْل : دُكْن وخُضْر . ألم نقرأ في القرآن الكريم : (سبع سنبلات خضر) ؛ القرآن الذي يهمل قراءته الشباب من كتابنا مرة في السنة على الأقل ، ويلهثون وراء مؤلفات بارت ودريدا برغم أهمية الأخيرة .
وسيطلعنا الكاتب على حقيقة أن هذه الذكريات المستعادة عن طقوس العزاء الحسيني ، ترتبط بطفولة سالم الذي كانت والدته تحمله على كتفيها كي يراقب مشاهد التمثيل . كما يشير إلى ميله “التبصصي” وهو في تلك السن الصغيرة حيث “كانت تستهويه مراقبة العباءات السوداء الخارجة من الحارات . وعندما يقتربن يلاحظ بريق العيون السود والذراع البضّ لحمه – ص 24) .
ومن ذكرى الماضي الطفولي الجميل في ظلال الأمومة هذه ينتقل الكاتب إلى حاضر سالم وهو يقود “موكب” البغال جريحا نازفاً منهكا :
(الموكب يسير ببطء. كان قد اجتاز طرف الجبل الذي ظلله بعدما انطلق الرصاص. الليل يتشرب المكان. ظلام حالك يرافقه صمت مطبق حتى من الريح – ص 24) .
وكم كنتُ أتمنى أن يعرض الكاتب هذا الوصف الجميل ، وما تلاه من أوصاف للطبيعة القاسية التي مرّ بها موكب سالم ، مرتبطة بحيثياتها الجغرافية الحقيقية ، مادامت هذه الإمكانية متوفرة لديه كما يتضح من الصور التي رسمها لطبيعة المنطقة ، لا أن تكون الجبال والوديان والقرى والبيوت هي كأي جبال ووديان وقرى وبيوت في أي مكان من المعمورة .
وعلى أي روائي أن يتذكر – كما أشرت سابقا – أن الرواية “علم” حين تُقارن بالقصة القصيرة التي هي فن . ومن اشتراطات هذا “العلم” الذاكرة الحادة المتوقدة ، التي تنتبه لحركة المتغيرات في مسار الرواية الطويل ، مقارنة بمسار السرد الفصير في القصة . عاد سالم بموكبه تطارده الطائرات والجنود المعادون :
(قبل فترة حلقت طائرة .. لم يرها لكنه سمع الصوت .. حلّقت بدوائر لولبية ثم انسحبت صاعدة إلى كبد السماء – ص 25) .
فكيف لم يرها ، وعرف أنها عملت دوائر لولبية ؟
ثم يعود الراوي إلى الماضي مسترجعا ذكريات مواكب العزاء الحسيني في مدينة سالم الصغيرة ، التي لا يذكر اسمها الروائي حتى الآن ، وليست بسر ولا تنتقص من الرواية ، بل بالعكس تعزز قيمتها وتماسك نسيجها وتغني دلالاتها المكانية :
(لم تكُ المواكب ، في مدينته ، صغيرة هكذا (يقصد المقارنة بموكب البغال الصغير – الناقد) ربما يكون طرفها الآخر خارج حدود البلدة التي يتوسطها المرقد . يُقدم أولا حملة الرايات … يلي المهرّجين رجل يحمل دفّاً كبيراً – ص 25) .
وهنا لدي ملاحظتان تتعلق الأولى بحذف نون الفعل “كان” المضارع حيث تكرر كثيرا في الرواية لسبب ومن دون سبب . صحيح أن إبن مالك يجوّز ذلك في ألفيته لكن هذا مصدر لا يُعتد به قياسا إلى اللغة القرآنية . وقد حدد النحاة عدّة شروط لحذف نون كان المضارع هي: أن يكون المضارع مجزوما ، وأن تكون علامة جزمه الســــكون ، وألا يتصل المضارع بضمير نصب ، وألا يأتي بعده حرف ساكن .وعليه فجملة يقول فيها الربيعي “لم تك المواكب” لا تقع ضمن هذه الشروط .
أما الملاحظة الثانية فتتعلق بذكر “المهرّجين” في الموكب الحسيني . وأعتقد أن هذه من طقوس مواكب الملكية الغربية في القرون الوسطى أو من مكملات المسرح الشكسبيري إن لم أكن مخطئاً .
ولا أعلم لمَ لم يركّز حميد ، إلا في موضع واحد سريع من هذا القسم ، على المشهد الرائع والمؤثّر فنّياً ونفسياً ، والذي سارت فيه مجموعة البغال ، وسالم مربوط إلى بطن أحدها ، وهو يئن من ألم الجرح وينزف دما ؟! :
(الأوراق تتساقط تحت أقدام البغال التي تنتظم بخط مستقيم في سيرها وبينها شاب . دمٌ يبقّع الثوب الذي تتهدّل أطرافه مادام مربوطاً إلى بطن بغل . الحبل الذي يربطه بالآخر يتوتر مرّات حينما يتعثر ، لكنه لا يتوقف . قائد المسيرة يشق طريقه رافعاً رأسه ، يتطلّع إلى صوت غريب .. سكون تام .. الأنين يتحوّل إلى وجع يخنق صدره . يرغب بلف سيجارة . أنّى لقائد الركب أن يعرف هذا ؟ يحسّ ببطنه مصفّدة . يمدّ يداً إلى الضلوع ولا يطول كيسه . أهله يشدونه في الوسط ، لماذا خالفهم ؟ – ص 26 و27) .
وبين وقت وآخر تحصل عودة ذاكراتية لاستمداد العون وقوة الإرادة ، حيث يرتفع من أعماق الذاكرة صوت الأم ، وهي تدعو طفلها إلى أن يقتدي بذاك الذي أهل بيته حوله ، وكان يعرف موته (ص 27) .

# مفاجآت .. وتوقيتات غير موفّقة :

وفي مفاجأة غير متوقعة تصل بنت المختار باحثة عن “ذاك الذي أشعل لهباً ثم رحل – ص 28” ، وتطلق ضحكة وهي ترى الطريقة الغريبة التي ربط بها سالم نفسه إلى بطن البغل .
وهنا يحصل الأمر الغريب ، الذي لا يمكن إلا أن يعكس دوافع لاشعورية ، سيضيع الغوص فيها التركيز على الخطأ الفني . فسالم مربوط إلى بطن البغل بقوة عبر مسيرة يومين .. جريح منهك .. ينزف .. وابنة المختار ، ويا للعجب ، تداعب عضوه التناسلي الآن :
(أصابعها تداعب جسده ، حين بدأت الحديث كانت عند الرأس . الآن وصلت إلى الدغل (..) شعرتْ أنه يسترد انفاسه بهدوء ، مرّرت اصابعها قليلاً إلى الأسفل . سيوصلها الخط النازل إلى الذي دلع نارها وظلّت متقدة ليلة ونهاراً – ص 28 و29) .
إن انشغالنا بما هو “أسفل” يضعف ويشوّش تركيزنا على ما هو “أعلى” .. واللغة “فوق” برغم أن جذورها تكمن في “الأسفل” في اللاشعور :
(الجرح فتح فاه فأنّ بآهة متقطعة .. مسّدتْ الجرح بأنمل كأنه حرير – ص 29).
وأنمل إنمالا : كذّب ، فسد ونمّ . أما الأُنْمُلَةُ فهي المَفْصِل الأعلى من الإصبع الذي فيه الظُفْر . والجمع : أَنامِلُ . وفي التنزيل العزيز : آل عمران آية 119 (وَإذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ) . وأعتقد أن ما يقصده حميد هو الأنامل وليس الأنمل .
الآن تجلس إبنة المختار مع سالم يدخّنان ، وقد جعلا البغل وسادتهما لأنها لم تحلّ وثاقه ، ومازال سالم مربوطا إلى جسد البغل . وهنا سوف يحصل أمر أكثر غرابة ، حيث يرفض سالم فك الحبل ، ويقرّران ممارسة الجنس وفق طريقة لم نشاهدها حتى في أفلام البورنو التي أدمنّاها أيام المراهقة المجنونة :
(يبعد البغل رأسه . يتقاطعان عند الوسط . تضع يدها تحت الورك . تحاول أن تطوله جيداً . رعشات الملامسة تصير دفقاً . الجسد يرتجف . يتعالى التأوّه . ربّما صهيلاً كان . الريح تصفر ، والبغل يهتز ، والصراخ غمر المكان – ص 30 ) .
وفي غمرة هذه النشوة الجنسية الغريبة والجامحة ، يأتيه صوت أمّه من الأعماق السحيقة ، الصوت الوصيّة :
(لا تدع الزمن يسرقك)
.. فيتساءل سالم : “أمن المعقول أنّ أحداً يدركه الموت دون تحسّس دفء امرأة تنطرح بجانبه ؟ – ص 30 ) .
وبعيدا عن أي تخريج وجودي ملفّق ، يجب أن يكون الناقد عمليّاً وشديد اليقظة . إذا كنّا ثوّاراً ، ونقتدي بالحسين الشهيد (هذا الذي حوله أهل بيته ، والذي كان يعرف موته) ، فيجب علينا أن نفكّر بـ “القضية” قبل الجنس .. وبتوصيل السلاح والأمانة قبل تفريغ ضغوط الشهوة . وبهذه الحركة الواحدة التي صمّمها اللاشعور وألعابه الماكرة ، أجهض الكاتب مخططات الوعي في استعادة أوجاع المواكب ومرارة تجربة الشهيد وعِبَرها الدفينة .
وفي الرواية ، كما قلت كثيرا ، يجب أن يضع الكاتب مخطّطاً “عامّاً” مسبقا لمسارات روايته ، يفضّل أن يُرسم على ورقة ، يضعها أمامه ، لتذكّره بالشوط الذي قطعه ، وما أنجزه وما تبقى من مشاهد وحركات وصراعات وافكار ورؤى . وأؤكد على صفة “العام” ، لأن الرواية عند الكتابة تقود نفسها بنفسها أحيانا . فأتساءل وفق هذا المعيار كيف كان تصوّر الكاتب عن تناوب تداعيات بطله عن مواكب الطفولة وارتباطها بوقائع حياته الراهنة أولا ، وتوقيت تعاقب هذه الإرتدادات الفنّية مع تسلسل الحوادث القائمة في الحاضر ثانياً .
لقد وصلنا نهاية حلقة من حلقات الحوادث الراهنة المتمثلة بالممارسة الجنسية العاصفة ، التي جمعت بين سالم وبنت المختار ، التي لا نعرف من اين جاءت وكيف ظهرت .. ولكن يجب أن نعرف كيف تختفي ، ولماذا ؟
الآن يعود بنا الكاتب إلى سالم وحيداً ، ويصف حاله ، متعباً ، يقطع المسافات بين الغابة وطرف الجبال ، وكيف عليه أن يتخفّى طوال النهار :
( فكّ أربطته . الجوع يقرص المعدة . يجمع التوت الأحمر كومة كبيرة . يتناول حبّات لكن الظمأ شقّق الشفة .. حتى تبرز الأشعة البيضاء عليه أن يستلقي ، التوت فوق الجرح ، تنتابه رعشة شديدة . يمزّق طرف القميص ، مازال نظيفاً . نوبات الألم تأتي متتالية ، مرّات ترافق وجع الخاصرة – ص 31) .
وحتى نهاية هذا القسم الذي يصل فيه سالم إلى الشلالات ، فإنه يصل وحيدا ، فأين اصبحت بنت المختار ؟ وهل جاءت لتمارس الجنس معه فقط ، ثم تعود إلى بيتها ؟
ولا تحدّثوني عن التصدّع الزمني ، والفلاش باك وألعاب الذاكرة ، فأنا لستُ حماراً يحمل أسفاراً نقدية أو قرائية . أمارس النقد منذ أكثر من ثلاثة عقود ، وأقرأ النقد الغربي والرويات العالمية – باللغة الإنجليزية أحيانا – منذ أكثر من أربعة عقود . وفي لحظة ختام هذا القسم ، وحيث وصل سالم منطقة الشلالات كمحطة للخلاص ، وحيث يزاوج الكاتب بين ذكرى عطش الشهيد الغائرة في الوجدان ، وسقوطه صريعاً قرب الجرف ، وبين سالم الجريح المستنزف الذي يسحبه البغل :
(ماسكاً بحبل الثالث يتقدم ، يتفتّح أمامه الشلال دوامة رعب . كان الفارس يشق دربه إلى الفرات ، يسقط صريعاً قرب الجرف . لم يبلل ريقه . مياه الشلال عند القاع جداول ممتدة . الموت عطشاً . الموت في المياه . البغلان يتطلعان لثالث يجر جريحاً . يفسحان الطريق لهما . الشلال يواصل هديره – ص 37) .
لا تستطيع نسيان مشهد ممارسة الجنس المحتدم والغريب ، ولا واقعة أن سالم فارس يقود بغالاً ، وكلاهما أرخيا صلات الربط بين الماضي والحاضر .. بين صورة الأنموذج .. وسلوك البطل الراهن .
حمل القسم الثالث تسمية “الثعابين” ، ويستهله الكاتب بصورة شديدة الروعة والدقة والفرادة حين يصف الشلالات “كحمل سيبتلعه أسد فاغر فاه” :
(المدينة تقع في واد ؛ سلاسل جبلية تمتد شرقاً حتى تحاذي الحدود ، عندها تنتشر الجداول . في الغرب تنشطر الجبال بالشلالات ، تبدو مثل حمل سيبتلعه أسدٌ فاغر فاه – ص 39) .
وهذا هو الدور العظيم للفن في حياتنا ؛ أن “يحيي” تصوراتنا البليدة عن الموجودات وحركة الأشياء ، والتي شحبت قيمتها الجمالية بفعل العادة والرتابة وركود الأحاسيس ؛ ينفخ الفن روحا جديدة في التشكيلات الواقعية الموميائية لتأتلق حضورا عبر الشعر . وهنا اذكّر بضرورة التوظيف المنضبط والمحسوب للغة الشعرية في مسارات الوظيفة السردية ، والتي يمكن أن يسبب الإفراط في استخدامها أضراراً بالغة كما سنرى .

# التسميات وتحديد ملامح المكان والشخصيات :

ومرّة ثانية وعاشرة أؤكد على المسمّيات . المدن والأشخاص والجبال والأنهار يجب أن تُسمّى ، ولا تكون غفلا من أي تسمية . التسمية تعني الوجود .. والأشياء في الكون لم “تنوجد” إلا بعد ان سمّاها “الله” . هذه من عبر أسطورة الخليقة حين طلب مردوخ أسماء مجلس الآلهة الحسنى .. ثم مزّق الشبكة بالكلمة .. بالتسمية . ومن دروس الخلق في القرآن الكريم “علّمه الأسماء” . وحميد يستهل هذا القسم بالحديث عن المدينة ، التي هي أول مكان وصله سالم بعد تركه العاصمة الكئيبة ، وصار يعرفها الآن كما يعرف راحة يده ، ولكنه لا يسمّيها أو لا يعيد تسميتها ولا أعرف السبب . وبدلا من أن يقول في استهلال هذا القسم : “المدينة تقع في واد .. إلخ – ص 39” كان يمكن له أن يقول : “والسليمانية أو هندرين تقع في واد .. ” مثلا . والشيء نفسه ينطبق على تسمية الأشخاص . فبعد الإستهلال يتحدث عن أحوال المدينة وطقوسها ، وعن علاقات سالم بالناس فيها ، ويخصّص وقفة بمقدار صفحة عن صديق يحاول إقناعه بعدم مواصلة مشواره منفرداً :
(- نخاف عليك. أنت تعرف الأوضاع الأمنية .
لم يكترث .. ظلّ يلاحقه فترة ليست بالهينة ..
– أنت أنظف وأرفع مما قيل . لا يهمك و.. – ص 41) .
ومن المؤكد أن القارىء سيتوقف عند عبارة (أنت أنظف وأرفع مما قيل ..) ويتساءل : أنظف من ماذا ؟ وأرفع من أي قول ؟ فأقول إن هذا جزء من تقنية “الإستباق السردي” الذي اتبعه الكاتب هنا بنجاح .
ولنواصل متابعة تعامل سالم مع إلحاح صاحبه :
(- دعني .
قالها صادماً .. إنسحب تاركاً صاحبه .. بيد أن الآخر لا يكل . جرى خلفه ..
قفل مستديراً بيد أن الصاحب من هرول إليه . كان عناقا حاراً . الكلمات ذابت في حرارة الأحضان . مثل صديقين إلتقيا تواً وافترقا . .
إن ولج المدينة فالثاني يعد الأيام بشوق لملاقاة صديق العمر – ص 41) .
فهل كانا (مثل صديقين) أو أصدقاء عمر ؟ وصديق العمر هذا أليس له إسم ؟
يواصل سالم السير (يبرطم الشفة بنوع من الضيق مخافة أن تسقط الكلمات منه . رفع رأسه علّ أحداً يراه يحادث دواخله – ص 42) .
وعلّ هي لغة من لعلّ بحذف لامها الأولى ، وهي تفيد الترجّي ولا تصلح للتعبير عن تخوّف سالم من أن يراه أحد يحادث نفسه .
ومع مواصلة سالم السير يشاهد الشمس عمودية ، وخلفها قرص معتم كأنه القمر . وهنا يدخل الروائي موضوعة أسطورية وخرافية مركّبة ، هي موضوعة ابتلاع القمر للتعبير عن صراعات سالم وحالته النفسية المُقلقة :
(رأيتُ القمر قرصاً ، الثعابين تقرصه . عمّا قريب ستأكله . إلى القاع أهبطُ متسوّلاً ، أغتسل بغيوم تجرّها عربات الخشب ، سائقوها يغطّيهم التراب ، في القيعان أنزع أدراني . أصرخ : أيها القرص الذي تأكله الحيّات . تعال ، نتطهّر من الضجيج – ص 42) .
وفي الموروث العراقي يعتقد الناس أن القمر يبتلعه الحوت فيهزجون “يا حوته يا منحوته ..إلخ” ، ولكن في الموروث الهندي تعتقد بعض القبائل – وحتى يومنا هذا – أن القمر تبتلعه الثعابين . ولو تأملنا مسار التعبير الذي اتبعه الكاتب لتوصيل فكرته ، فسنجده قد بدأ بالثعابين ، وانتهى بالحيّات . كل ثعبان هو حيّة ، ولكن ليس كل حيّة ثعباناً . كلمة ثعابين تُطلق بشكل عام على أصناف هذا الزاحف . وإن جميع الأفاعي سامّة ، ولكن ليس كل الثعابين سامة . ولو عدنا إلى القرآن الكريم ، لعرفنا الفارق الشاسع بين الحية والثعبان ، وبين “فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى” و “فأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ” . الحيّة تُطلق على الصغير ، بينما يُطلق الثعبان على الكبير المخيف .
المهم أن الكاتب أفلح في توظيف هذه الخرافة لتجسيد معاناة سالم الشخصية والجماعية ، وهو يستعيد مظاهر الخراب التي عصفت بالواقع المحيط به ، وخرّبت قيم الناس وحيواتها ، مخاطبا القمر المهدّد ايضاً بثعابين الخراب :
(تعال ..
في الممر الأول مقابر ملكية ، وفي الطرف الآخر جمهورية ، وفي الوسط تنام النساء من البرد والجوع ، الفتيات اللاتي ابيضّ لحم أذرعهن صرن يرقصن في الفنادق بعدما أكلهن جرب الموتى ، وآخريات يسايرن شهوة جنود مدجّجين بالخراب ، مخافة أتّون النار الموقدة عند الحدود والجبال .
المأوى الذي كان يوماً مرتعا لآمال عريضة صار الآن جمراً يحترق كل حين حتى نمل الإنتظار … الثكنات التي يختبىء فيها الجنود صارت بيوت دعارة . يهرب الجنود من الحرب إلى أحضان المومسات ، ويبيعون البنادق للمهربين – ص 42 و43) .
وعند وصول سالم إلى دكان صاحبه الحدّاد ، وفي ذهنه تدور أهزوجة للأطفال “لو هلهلتي يا ميّاسة” ، يقول الكاتب :
(التقط النغم فأطرق حديده على هوى “الهوسة” – ص 43) .
وهو يقصد أن الحدّاد صار “يطرق” حديده على إيقاع الهوسة المنغّمة ، ولكن الفعل “أطرق” يعني أمال راسه إلى صدره وسكت ولم يتكلم أو سكت لحيرة أو خوف أو نحوهما .
وعلى الكاتب دائما أن يحافظ على وحدة المناخ النفسي المزاجي إذا ساغ الوصف ، فلا يجوز أن ننقل أي شخصية من حالة مزاجية إلى أخرى بصورة مباشرة تقضي على حالة مزاجية تدعمها الحالة النفسية والإجتماعية الخاصة والعامة بالتباساتها المدوّخة وخرابها الشامل . كان سالم مكتئبا ناقما وساخطا على ما يراه من معالم الدمار الذي لحق بشعبه ومجتمعه ، وإذا به يقف الآن عند باب الدكان ، ويرقص الدبكة فرحاً مع الحدّاد ، وعلى صوت نغم أجاده أحد المارة بالصدفة ! :
(وقف مشدوهاً من النغمة التي يصدرها الطرق .
امتزج الإثنان [= سالم والحداد] معاً بالنغم فرقصا ، الأول خرج من دكّانه والآخر كان عند قارعة الطريق يقف ، دبكا سوية بصوت عال ، على إيقاع النغم ، الذي أجاده أحد المارة صدفة – ص 44 ) .
والمشكلة أن الأهزوجة الجميلة ، كانت في ذاكرة وعقل سالم حيث استدعاها من ذكريات المواكب القديمة التي شاهدها في طفولته عندما “تصعد الثعابين لتقرص قرص القمر” ، فكيف سمعها الحدّاد ، وصار يوقّع ضرباته على الحديد وفق إيقاعها ؟
وحين يجلس سالم على كرسي قدّمه له الحداد (وطبعا الحدّاد سيبقى بلا إسم حتى نهاية الرواية !) يقوم الأخير بمحاصرته بأسئلة حول محاولة تقديم سالم للمحاكمة برغم أنه قام بصدّ الهجوم (ص 44) . كجزء من التقنية الإستباقية كما اشرنا ، وسالم يتجاوز أسئلة الحدّاد ، ويحاول تغيير وجهة الحوار بالإلحاح عليه بأن يعمل معه في الحدادة . يوافق الحداد ويغادر دكانه ، ويستل سالم ورقة ، يرسم عليها مشاهد من خطوط قصّته ، وقصّة جيله المريرة خلال الخدمة العسكرية حيث تعبيرات التذمّر القاسية على الوجوه ، والتكشيرات الحادة الناقمة الصموت ، وأحمال الأمتعة العسكرية التي تكسر الظهور .


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى