د. خليل القطناني - يوتوبيا النص.. يوتوبيا المكان

يتجه مفهوم " يوتوبيا " Utopia"بالإنجليزية، οὐ τόπος) توپوس باليونانية) إلى معنى "لا مكان" أي: المكان الخيالي المتخيل الطيب. بل إن اليوتوبيا " أفكار متعالية تتجاوز نطاقَ الوجود الماديّ للمكان، وتحتوي على أهداف ونوازع العصر غير المحقَّقة، ويكون لها تأثير تحويليّ على النِّظام الاجتماعيّ القائم:". وثمة مفاهيم مقاربة للمعنى من مثل: أدب المدينة الفاضلة، والطوباوية، والمثالية التي تؤدي الغرض ذاته.

هذا، وقد شاعت دراسات ومؤلفات عديدة غربية وعربية حول فضاء اليوتوبيا؛ فقد ألف توماس مور (1516) كتاب باسم "يوتوبيا" ترجمة أنجيل سمعان، وكان أول من استخدم التعبير أرسى فيه صور دولة مثالية يتحقق فيها الخير والسعادة للناس وتمحى الشرور، وهي فكرة العالم المثالي والفردوس الأرضي والصورة المثلى للدولة- الجزيرة الجديدة. ثم أصبحت الكلمة تصف كل عمل أدبي أو فلسفي بخصوص المدينة الفاضلة. ومن أشهر كتب اليوتوپيا كتاب "الجمهورية " (أفلاطون) و قد اتخذها أفلاطون رمزا لمدينته الفاضلة الخالية من العيوب والنقائص، و"المدينة الفاضلة" للفارابي و" مدينة الرب " ل سانت أوغسطين، و" مدينة الشمس " ل كامبانلا (1623)، و" أتلنتس الجديدة " ل فرانسيس بيكون (1627)، و" يوتوپيا حديثه " ويلز، إضافة لقصص و روايات لها طابع يوتيبيا مثل "يوتوبيا" رواية اجتماعية للكاتب المصري أحمد خالد توفيق (2008(.

والسؤال البؤري: لم يلجأ الأديب إلى التصوير المجرد للفكرة المثالية؟ هل يعد ذلك باعثا لهروب الذات من الواقع المربك والكابوسي والعنيف أيضا ؟ هل هي نزعة تفاؤلية في حصول المرغوب أي المفقود داخليا وخارجيا؟ هل هو تمثيل تخيلي فلسفي وانعتاق من شكلٍ ومعنى للحاضر المستهلك والمخشّب ؟ لماذا هو دائم البحث عن اللانهائي نزوعا إلى الخلود ؟ لماذا يفتقد القارئ العربي خاصة تلك النصوص الشعرية التي تبحث في فضاء اليوتوبيا – المكان/ الفكرة ؟

إن نزعة التشاؤمية المغرقة قد طغت على جمهورية النص الشعري، على الرغم من إمكانية التبشير بنص اليوتوبيا الخلاق؛ إذ نجد إرهاصاته في التراث الديني (الجنة - الفردوس) ونتعثر به أيضا في شعر الطبيعة، كما يمكن البحث عنه في الشعر الصوفي، والشعر الوطني الذي يقوم على توصيف الوطن بأبهى الأوصاف. إن غياب نص اليوتوبيا عن جسد الشعر الحديث لهو جدير بالبحث والتمحيص.

غير أن المستقبل حين يستجلي المدونات الشعرية يجد ملامح من هذا النص، ولا أقول كيان النص المتجسد معنى ومبنى؛ ففي معرض الحديث عن جمالية الطبيعة الأندلسية نستمع إلى ابن خفاجة واصفا الأندلس بحيث تشكل معادلا فنيا ونفسيا للجنة:

يا أهل الأندلس لله دركم = ماء وظل وأنهار وأشجار
ماجنة الخلد إلا في دياركم = ولو تخيرت هذا كنت اختار

ومن نماذج الشعر الصوفي قول محي الدين بن عربي الذي يوازي بين قلبه والجنة؛ لأن الله موجود فيه

ما جنة الخلد غير قلبي = لأنه بيتُ من يدومُ

فالمكان اليوتوبي هو الجنة وهو القلب سواء بسواء، وإذا خلا القلب (مكان الفكرة الصوفية) من خالقه فهو أيضا مكان الجحيم :

وإن أيضاً عذابُ حجبى = عذابنا المؤلم الأليم

يقفز نص محمد إقبال الهندي الأصل ليتبوأ مقعده في رسم معالم المكان المثالي في الآخرة وهو ينطلق في رؤياه من وجهة نظر أيديولوجية دينية بعيدة عن المتخيل الفلسفي للمكان؛ فيلغي المكان لصالح صاحب المكان وخالقه، فيقول :

أنا روح الله أسعى نحوه = رغبا أو رهبا أو ولهاً
ما لنار أو نعيم أنتهي = بل إلى ربك فيه المنتهى

وحيث إن الرومانسي يجد مكانه الطوباويّ في الريف، فقد أفرغ جبران معانيه على الغاب، وأسبغ عليه رؤاه ظاهرة وباطنه في مقابل المكان المعادي وهو المدينة المادية موظفا علامة (الناي) الذي يمنح الوجود السحر ويكشف أسراره المخبأة

أعطني الناي وغن = فالغنا سر الوجود
وأنين الناي يبقى = بعد أن يفنى الوجود

ومثله حاول أبو ماضي أن يفعل حين نشر قصائده التفاؤلية التي تظهر الوجه الأبيض المشرق للعالم، وإن ظلت قصيدة الطلاسم تسيطر على روحه ووجوده ونهايته الاحتمالية .

في الشعر الحديث يتراءى نص "يوتوبيا" عند الشاعرة العراقية نازك الملائكة مكانا مثاليا متخيلا مكان اللامكان أي الذي لا وجود له في واقع الشاعرة الأليم، تعرج الشاعرة على توصيف المكان جماليا وحلميا تحيا فيه حياة خلود، وتفنى فيه فناء الصوفي بالذات الإلهية، وينطلق الفكر في تهوماته اللانهائية الجمال:

ويوتوبيا حلم في دمي = أموت وأحيا على ذكره
تخيلته بلدا من عبير = على أفق حرْتُ في سرّه
هنالك عبر فضاء بعيد = تذوب الكواكب في سحره
يموت الضياء ولا يتحقق = ما لونه ما شذى زهره
هنالك حيث تذوب القيود = وينطلق الفكر من أسره
وحيث تنام عيون الحياة = هنالك تمتدّ يوتوبيا

تنتشر دوال النص لتشكل يوتوبيا المكان المتخيل المفقود(حلم، فضاء، لا تحقق،) غير أنه مكان يشكل نزعة تعويض ومعادل فني وطوباوي لعالم الشاعرة الداخلي، وليس المكان وحده يتسم بالمثالية بل سكانه أيضا، حيث تضفي عليه وعلى سكانه نضرة الشباب وامتداد الربيع الذي يظلل سكان يوتوبيا تقول:

هناك يظل الربيع ربيعا = يظلل سكان يوتوبيا

تصحو الذات الشاعرة من حلمها لتفزع المتلقي بصدمة شعرية مربكة، حيث تستيقظ من حلمها البعيد لتجد اللامكان أو المكان المفقود:

على حلم صارخ وأخيرا = صحوت ولم أر يوتوبيا

تستمر رحلة الضياع الداخلي لتحاول تعزية النفس ولو بخيال يشبه طوباوية المكان المتخيل، وتظل طاحونة السؤال السندبادي ترواح النص مؤملة فك لغز هذا المكان:

وأسأل حتى يموت السؤال == على شفتّي ويخبو النشيد

وعلى الرغم من مأساوية المشهد تظل تحلم بتحقق هذه الفكرة التجريدية حتى بعد الموت

وحين أموت..أموت وقلبي = على موعد مع يوتوبيا
دقائق...ثم أخيب وأهتف = لا شيء يشبه يوتوبيا

وأخيرا، هل كتب شعراء العصر الحديث نص اليوتوبيا ؟ فيما يلوح لي أنّ الشعر الحديث قصر بغير قصد، أو لم يتلفَّت إلى تلك المثالية إلا ومضات أبرقت في نصوصهم، ولكنها لم ترعد ولم تمطر، ولعل في هذه المقالة إضاءة للشعراء يترسموا ظلال المكان الطوباويّ، ليس هروبا من واقع الحروب والاستبداد السياسي والقَبلي، وليس نزوعا للتقليد، بل قناعة بوجود هذا المكان وتحققه يوما ما في واقع الشاعر الملتزم؛ يحبه كوطنه، ويرنو إليه كمعشوقته، بل هو المكان –المصير .



د. خليل قطناني - فلسطين المحتلة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى