أحمد عبدالله إسماعيل - وفاء عبدالرزاق - قراءة انطباعية نقدية في رواية (فارس برمنجهام) للأديب المصري أحمد عبدالله إسماعيل

إن الروائي هنا يكتب من أجل الهجرة، والإقامة في بلد يمنحه حريته، واكتشاف ذاته من أجل الاستمرار في تفوقه، وتعويض الأم لرد الجميل لها بما سيحصده؛ إذ كان يخطط قبل رحلته ليكون محصّنًا بالعلم.
لم يكن محمومًا بالآخر المختلف عنه كليًا، بل الدخول إلى تلك الحياة لا سيما في بريطانيا وتحديدًا مدينة برمنجهام، بخاصة أنه قد أعطى بطله صفة الفارس، صاحب الطاقات الإيجابية؛ ليكون في مجتمع مغاير له كليًا.
وربما نقل الأديب سيرة ذاتية بأبعادها الفكرية والروحية والزمكانية. إنه فن روائي مباشر،أو فن استرجاع الذاكرة الحيَّة بلغته العالية والمشوِّقة؛ فنحن أمام نسيج لغوي، وجداني، عاطفي، وربما رمزيّ بخاصة مايراه في أمه، وطنه الأول والأخير؛ فاللغة هي غاية جمالية تسحب القارئ ليبقى مشدودًا إليها.
نكتشف هنا رغبة الروائي في توثيق حياتيّ مع استمراره في الكشف عن الانتصار الذي يسعى إليه قاصدًا.

الاغتراب ومضامينه الإيجابية:
الاغتراب في هذه الرواية لا يعني التهميش في بلد لا ينظر إلى الآخر نظرة عدوانية بقدر ما يعطيه من أمل ومعايشة إنسانية ويكون فاعلًا حقيقيًا ليصل إلى مستوى الترشح لعضوية مجلس العموم البريطاني، ويشق هذا الفارس طريقه لإثبات الذات من خلال تفوقه العلمي؛ فالسائر في الطريق يعثر على مثيله الأنبل والأسمى بخطى جاهدة لتخطي العقبات، ولكي يتغلغل في الطريق العالمي، وهذا ما حدث مع الروائي بقصدية.

إن هذا النص الروائي المشبَّع بالجمال والأسلوب المشوّق يجعل القارئ أسير الكلمة وإن كان الموضوع مكررًا، وسبقه كثيرون كانوا هاربين من غربتهم في الوطن واللجوء إلى اغتراب آخر؛ لتحقيق أحلامهم، لكني أرى المبدع يهوى رؤية القارئ مكبَّلاً بيدي روايته، وربما هكذا أوحت لي الرواية كوني قرأتها ولمرتين وجدتُني أسيرة لها.

الفارس في الرواية لم يغادر لسبب اضطهاد سياسي أو عرقي أو مذهبي؛ إنما كان يريد التسلًح بالعلم وإطلاق العنان لقلمه كي يكون حرَّا مثل أفكاره وإيمانه بالإنسان فيه.
تعلقه بمدرسته في الجامعة "إيلين" التي تكبره بأكثر من ثلاثين سنة، ليس وفاءً لما قدمته له من خدمات واحتضان لشقِّ طريقه فقط، بل كان تعويضًا عن فراق أمه، وتحثه طباعه الشرقية كفارس في بلده على رد الجميل حتى لو كان عشقًا مؤبدًا.
لغة الرواية
بالنسبة لي أعشق تعدد الأجناس الإبداعية في هذا السرد الروائي وخروجه من الجمود التقليدي الممل في قراءة الأحداث؛ لذا كنت أقرأ بحب للغة الرواية الشاعرية في الكثير من المواقف التي تقتضي الشجن الوجداني في خدمة الحالة السردية ولا يتعارض معها؛ بل يضيف إليها سحرًا عذبًا. لم تعد الرواية الحديثة مجرد أحداث تُدوَّن في عمل ما،إنما تعدد الأجناس الفنية،وتوظيف اللغة، كرسالة تكسب دلالاتها الرمزية، وتؤكد وصولها إلى شريحة معينة من أجل النهوض والارتقاء من العادي إلى الإشارات التي تحثه على أن يكون ضمن النص كما حدث لي شخصيًا، وهذا يرجع إلى مستوى الأديب الحاذق للتغلغل في المعنى المتبادَل بين الكاتب والقارئ.

صفة الفارس:

كان الفارس في حالة مقارنة بدءًا من المطار والجو المحمل بالرطوبة المنعشة مقارنة بمصر، لكنه كان شاردًا أسيرًا في البداية لحالة الضياع كشاب في مقتبل العمر يجد أن كل شيء غريبٌ عليه.
اكتشفت ذلك أستاذته في الجامعة وتعلقت به كطالب غريب، وربما بسبب إيعاز عاطفة الأمومة لديها؛ فاعطته غرفة في منزلها، وفتحت له أبوابًا كثيرة لشقّ طريقه.
أراد الفارس مجدًا علمياً، فهو مقاتل مختلف قادر على اقتحام وتذليل كل العقبات في طريقه، وإن كان بمساعدة الآخر.
إن الاغتراب معول آخر يحتاج الوعي والتحدي والاقتدار في فهم المحيط الجديد، بخاصة حين يكون صاحب رسالة كما بيَّنها الروائي المقتدر"أحمد عبدالله إسماعيل".
الاغتراب في الرواية اغتراب فاعل ، علمًا هناك كتَّاب وشعراء من الغرب تغربوا في بلدانهم ولجأوا إلى بلدان أخرى للحصول على مبتغاهم الأدبي والإنساني تحديدًا.
هي حالة أبدية وليست جديدة على الإنسان، وأثقلها وطئا الاغتراب في الذات وعدم القدرة على التعايش مع محيط جديد، عكس ما قرأناه في هذه الرواية عن فارسنا الجاد المكافح.
عني شخصيًا كمبدعة أعطاني اغترابي ذاتًا كنت أبحث عنها في الأمكنة بدءًا من بلدي "البصرة - العراق" وتنقلي إلى بلدان عربية أخرى، لذلك وجدت كاتبنا الفذ يدخل في أعماقي وكأنه يكتب عني ويتحدث بصوتي، وهذا سر عظمة رواية "فارس برمنجهام"؛ لأن الأديب المقتدر يرى الآخرون ذواتهم في قلمه.
علاقة المبدع بالمكان:
هناك مكان يعطي ومكان يأخذ، ومكان يأخذ بقدر العطاء. كلانا في بريطانيا بقدرتنا على التحدي خلقنا من هذا الاقتدار أدبًا عالميًا يُشار إليه بالبنان.
مع هذا لم ننس تربتنا، هواء بلدنا وشعبنا الذي نكتب منه ومن وجدانه تنطلق كلمتنا، في بلد يعطيك وينصفك من خلال عملك وفاعليته في المجتمع الجديد.
وأخيرًا، إن فكرة الرواية لم تكن جديدة وهنا تكمن الصعوبة في التطرق لفكرة أدب سبقك كثيرون إليه، وتكون سمة مميزة بين أقرانك إذا ما كنت متفوقًا عليهم، وهنا تفوق مبدعنا الكبير؛ إذ لم أر إسهابًا سرديَّا بل مكثفًا موحيًا ودالًا بين الأنا والآخر، وبين الالتزام والذات، كان التجلي شموعًا أضاءت السرد؛ فالأدب ليس زينة وملابس ثمينة، أو التجوال في شوارع ذات طابع جميل مختلف عن بلدك والنساء والعشق فقط، بل إن الأدب روح ملهمة تجعل كل ذلك مشعًّا وتحول إشعاعه إلى نص وإحساس صادق بالحب والمعاناة والرغبة واقتناص أدق الأشياء حتى أعقاب السجائر المرمية أرضًا من قبل المخمورين والمتشردين وجعلها مادة إبداعية تثري الفارس المحارب إبداعًا وعلمًا كما هو بطل الرواية.
إن شعور الأديب بعظمته في هذه الرواية جعلني أشعر بعظمتي، وهذا سر رسالة مبدعنا الكبير"أحمد عبد الله إسماعيل".
هنيئا له ولكل قارئ مرَّ على رواية "فارس برمنجهام" وخصوصاً من قرأ الإهداء (إلى كل من فقد أمَّه صغيرًا فعاش ليسعدها بعد موتها).
نعم أدَّيت وأوفيت كلَّ أمهاتنا، وها أنا ذا أراهنَّ سعيدات بنا.
ربما كان تعاملي عاطفيًا مع رواية مبدعنا الكبير؛ فبطل الرواية وجد من تقف معه وتجعله يشق طريقه بعشقها له ومحبتها الإنسانية لشاب يصغرها بثلاثين عامًا، بينما أنا لم يقف معي سوى ذاتي والتحدي؛ وهذا سبب تعلقي بهذه الرواية منذ الإهداء حتى أخر نقطة فيها.
تسلُّح البطل بالعلم يذكرني بهذه المقولة (العلم هو الترياق المضاد للتسمم بالجهل والخرافات).

الروائية والقاصة والشاعرة والأديبة العراقية "وفاء عبد الرزاق".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى