عادل الأسطة - أنا والجامعة [17]: التلميح والتصريح والتورية :

ربما تصلح نصوصي التي أكتبها نماذج أدبية لدارسي فن " التورية " في الأدب العربي الحديث ، أو للمهتمين بلغة الجسد في النصوص الأدبية ، فهي ثرية في هذا الجانب ، ولا يعود ثراؤها لأنني موهوب أو ذو خيال جامح أو لأنني ضليع في البلاغة والسيمياء . لست مثل محمود درويش الذي قال في كتابه " في حضرة الغياب " إنه كان منذ طفولته ذا خيال جموح يستخدم المفردات استخداما مجازيا ولهذا سموه بالحالم . ( بعد سنوات من عودتي وكتابة نصوصي كان بعض قرائها يلحظون هذا ، ولذلك كان طلاب الدراسات العليا ، بإقبال ذاتي أو مدفوعين من بعض الأساتذة ، يأتون إلي ليسألوا عن نصوص تحفل بلغة الجسد ، وكان بعض الطلاب يحضر كتابا عن لغة الجسد ويضعه على المقعد المجاور له ، وصارت عادة عند بعض الطلاب ، فإذا ما أرادوا ، هم أو الجهات التي تدفعهم ، شيئا ، لجأوا إلى التلميح من خلال حركة ما ) .
أنا قاريء للأدب بالدرجة الأولى ودارس له في الوقت نفسه ، وكان جنوحي للتورية يعود إلى تعامل الآخرين معي بها . هذا يعني أنني صدى لا صوت ، وأن الآخرين هم أصوات وصوتيات وشرم برم كما يحلو لهم أحيانا أن يسخروا مني فيقولوا لي إن الآخرين هم الصوت وإنني الصدى ، متذاكين أو متفاصحين .
ما يعوض الأمر هو أنني صدى ولكني جريء ، في حين أن الأصوات والصوتيات جبناء و أنذال وأذناب غالبا ، وهذا ما سيتضح وتثبته الأيام والكتابة .
كتبت أن الكاتب سامي الكيلاني قال لي إن الجامعة تريد فصلي ولكنها تتعاطف مع أوضاعي ، والصحيح أنه كان جريئا .
في أحد أيام آب أو أيلول من العام 1991 كنا معا في اتحاد الكتاب الفلسطينيين في الرام ، وحين عدنا إلى نابلس أقلني معه في سيارته وتجاذبنا أطراف الحديث ، ولست متأكدا من السبب الذى دفعه لقول ما قال .
كنت أعرف سامي منذ 1977 تقريبا ، وربما قبل هذا التاريخ ، فقد درسنا معا في الجامعة الأردنية وكان يتردد على قسم اللغة العربية ، ولا أذكر إن تحادثنا في حينه ، ولكن علاقتنا ستقوى حين اقتربت من فصيل الجبهة الديمقراطية وهو الفصيل الذي انتمى إليه وسجن لعضويته فيه بضع سنوات ، وعندما خرج تعارفنا وفي فترة لاحقة أصدرنا معا مجموعة قصصية مشتركة هي " الفارعة والشمس والبحر " ، وصرنا نحرر معا مجلة ثقافية تصدرها الجبهة الديمقراطية ، وقد أتيت على هذا .
حين عدت من ألمانيا كانت الجبهة الديمقراطية انشقت وصارت فصيلين ؛ فدا وأمينها العام ياسر عبد ربه ، والديموقراطية وأمينها العام نايف حواتمة ، فعلى من سأحسب أنا ، على جماعة عبد ربه أم على جماعة حواتمه ؟ وهل أنا مع مدريد أم ضدها ؟ إن تقربي من أي جهة من الجهتين يعني أن أقبل الصورة التي رسمتها لي في غيابي عني ، فكل فصيل - ما شاء الله ! ما شاء الله ! كان رسم لي صورة وكون عني فكرة ، وهذه إشكالية .
لقد كنت منفلشا فصيليا و كنت ثقافيا قريبا من أكثر من جهة . كنت في الثقافة قريبا من حركة فتح ، إذ كنت ، كما ذكرت أحرر صفحة الشعب الثقافي . وعموما فإن تجربتي الشخصية مع الفصائل يسارها ويمينها فيما يخص الجانب الاجتماعي قالت لي إننا لم نخرج من طفولتنا ، ولطالما كتبت إن عقلية الحارة في المدينة وعقلية القرية وتربية المخيم هي العقلية التي تحكم الشعب الفلسطيني ، وفي العام الماضي ، حين انتصرت العشيرة على مشروع الضمان الاجتماعي ، تعززت قناعاتي ، وتعززت أكثر وأنا أتابع الموقف من ( سيداو ) . هل أنا يائس ؟
عندما عدت من ألمانيا صار الآخرون يتعاملون معي بالتلميح لا بالتصريح ، فالتصريح قد يسبب مشاكل كثيرة لمن يريد أن يكون صريحا ، وظل الأمر في الجامعة حتى انتهاء خدمتي ، ولما ينتهي عموما حتى اليوم .
في ( بون ) قال لي الأستاذ ( استيفان فيلد ) إن ما أعيشه في ألمانيا سأعرفه في نابلس ، وفي نابلس لمحوا ولم يصرحوا ، ويبدو أن الجامعة كان لها يد طولى ، بالإضافة إلى الفصائل ، ولم ألتفت إليهم ما دفع أبي يوما ليقول لي مثلا شعبيا بذيئا جدا عن الأطرش ، أورده بأدب جم " افعل في الأطرش ولا تحاكيه " ، فقد كنت أطرش أو أتتطارش وما زلت .
قضيت أول ليلة بعد عودتي في شقتي في بناية أهلي ، ولاحظت أجواء الانتفاضة والمارشات العسكرية للملثمين ، واستقبلت الجيران الذين أتوا ليسلموا علي .
في صبيحة اليوم الثاني في العاشرة جاءني الزميل عادل أبو عمشة ليسلم علي ولأتغدى بصحبته في بيته ، وبدأ التعامل السيميائي - التلميح لا التصريح .
ولسوف يأتي ، فيما بعد ، زملاء كثر ليتدخلوا في مشكلتي الشخصية ، عارضين أن يكونوا مصلحين بين زيد وزينب ، ووصل الأمر أن مثل القادمون طرفين ؛ طرفا يمثلني وطرفا يمثل طليقتي .
هل كان زيد طلب منهم هذا ؟ ( بعد عقود ستكتب رنا قباني طليقة محمود درويش عن علاقتها به وعن طلاقهما عنوانا لافتا " طليقة المنظمة " وستوقف جريدة القدس اللندنية مقالاتها المهمة جدا ، وستوقف في الوقت ذاته جريدة الأيام الفلسطينية نشر مقالي الثاني عن مقالات رنا ، وكان يمكن أن أكتب ، بناء على مقالات رنا ، كتابا أو دراسة من أجمل ما يمكن أن يكون في أدبنا العربي ) .
كان التلميح أوضح ما يكون فحين ذهبت إلى الجامعة والتقيت ، في عمارة يعيش ، برئيسها الدكتور شوكت زيد الكيلاني . لم يصرح بأي شيء ولمح بأشياء كثيرة ، وقال لي إن تسلل الإسرائيليين إلى بيوتنا هو المشكلة الكبرى التي يجب أن نحصن أنفسنا ضده .
في ألمانيا أنفقت في ( كارلسروه ) عشرة أيام في ضيافة الصديق الجزائري عبدالله بودينة ، وشهدت مسرحيات عديدة كان منها أن أوحى الألمان لي بألا أكون مثل حلاق الإسكندر حتى أعود بشهادتي ، وقبل أن أعود لا بأس من زيارة أبي وأمي لي في ألمانيا ، وكان العلم الأحمر يرفرف موحين لي بأنني أحمر .
إن كل من عاش الانتفاضة ووعاها جيدا يعرف ما آلت إليه ، وأنا عدت في نهاية الانتفاضة ، وكانت الفصائل تحولت إلى فصائل إصلاح اجتماعي وغدا بعض أفرادها حريصا على أخلاق الآخرين ، يقومون بدور المحاكم ، فيتدخلون في المشاكل الأسرية و يفتشون عن علب البيرة و .. و ... و ... وكان لي جار لم يوفق في زواجه وعانى الأمرين من تدخلات الآخرين ، ولما لم يكن له فصيل يسنده ، فقد خضع لشروط لم يكن راضيا عنها ، وكان حين يزورني يحدثني بألم وحزن ورعب أيضا .
هل صرت ألمح آخذا بما يقوله العرب " اللبيب بالإشارة يفهم ".
لست لبيبا وعقلي يابس . ربما !!

في الحلقة القادمة قد أكتب عن الألمان والشهادة والمعادلة والمرحوم بهجت صبري.

عادل الأسطة
الخميس
23 / 1 /2020

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى