د. عبدالجبار العلمي -8- الشاعر السوري نزار قباني

في ذكرى وفاة الشاعر العربي الكبير :
من أجمل ذكريات الدراسة في ثانوية القاضي عياض بتطوان التي لا يمكن أن تمحو سطورها يد النسيان ، لأنها منقوشة بأنامل فنان أندلسي فرغ لتوه من كتابة جدران قصر الحمراء بغرناطة بألوانه وأصباغه غير القابلة لآن تبهت أو تزول ، وهبَّ لينقشها في ذاكرتي إلى الأبد : تلك هي ذكرى الأمسية الشعرية الباذخة التي أقامتها ثانويتنا للشاعر الكبير نزار قباني الذي زار تطوان بعيد إنهاء عمله الديبلوماسي بالديار الإسبانية بعاصمتها مدريد سنة 1965م. ولا يمكن أن أنسى أنني تجرأت – وليس الأمر من طبيعتي الميالة إلى الخجل – فذهبت إليه بمذكرة صغيرة ، طالباً منه أن يضع على إحدى وريقاتها توقيعه بخطه الجميل. ( وقد ألصقتها فيما بعد في الصفحة الأولى من ديوانه " طفولة نهد ")، وكان آنذاك ينتظر موعد الدخول إلى مسرح الثانوية صحبة الزعيم الوطني الديبلوماسي السفير عبدالخالق الطريس رحمه الله ، فأخذ مني المذكرة بلطف ووقع لي التوقيع المنشود ، بينما أنا أستمع إلى دقات قلبي من فرط الانفعال ، وقد لمحت على محيا الزعيم ابن تطوان البار، ابتسامة رقيقة أثارها موقف هذا الفتى الحيي الساذج المعجب بصديقه العاشق الدمشقي نزارقباني . وأذكر أن الذي تولى تقديم الشاعر إلى الجمهور الغفير من الأساتذة والتلاميذ والتلميذات الذي امتلأ به مسرح الثانوية عن آخره ، هو الصحافي اللامع الوسيم مصطفى الصباغ رحمه الله بأسلوبه الرشيق الذي كان يدبج به مقالاته الأدبية الجميلة في جريدة "العلم " . وقد أنشد الشاعر أثناء الأمسية مجموعة من قصائده الرقيقة ، كان من أحدثها وأروعها قصيدته " غرناطة " التي نشرها فيما بعد في ديوانه الأندلسي " الرسم بالكلمات " :
في مدخل الحمراء كان لقاؤنا
ما أطيب اللقيا بلا ميعادِ
عينان سوداوان في حجَريْهما
تتوالد الأبعاد من أبعادِ
هل أنت إسبانيةٌ ؟ ساءلتها
قالت : وفي غرناطةِ ميلادي
غرناطةٌ ؟ وصحت قرون سبعة
في تيتكَ العينينِ بعد رُقادِ
وأميةٌ راياتها مرفوعةٌ
وجيادها موصولةٌ بجيادِ
ما أغرب التاريخ ! كيف أعادني
لحفيـدة سـمراء من أحفادي
وجه دمشـقي رأيت خـلاله
أجفان بلقيس وجيـد سعـاد
ورأيت منـزلَنا القديم وحجرةً
كانـتْ بها أمي تَمُدُّ وِسـادي
واليـاسمينةَ رُصِّعَـتْ بنجومِها
والبحْرة الذهبيـة الإنشـادِ
لقد أبهرتني هذه القصيدة بإنشاد الشاعر الذي كان من شعرائنا العرب الذين يحسنون قراءة شعرهم ، وضجت قاعة المسرح بالتصفيق إعجاباً وإكباراً لشاعرية الشاعر حين ختم القصيدة بمسك الختام :
عانقت فيها عندما ودعتها
رجلاً يسمى طارقَ بنَ زِياد
وحين كتبت عن دمشق في زمن العنف و البطش الذي نعيشه راهناً قصيدة بعنوان :
"ودمع لا يكفكف يادمشقُ" ، تذكرت نزار قباني وعشقه الأبدي لمدينته دمشق ، وجالت بخاطري أيامه السعيدة ,ومنزله القديم وموسيقى مياه النافورة وسط الرياض ، وشجرة الياسمين المتلألئة ، وجو الحنان والسكينة الذي كان ينعم به في طفولته ، حين تحيطه أمه برعايتها وتمد فراشه لينام في سلام . فجاشت نفسي بهذه الأبيات :
صاحتْ فتاةُ الشَّام : قالتْ شاكيهْ
لا مَنْ يُكَفْكِفُ دَمْعَ عَيْنٍ بَاكِيَهْ
بَرَدَى تَعَكَّرَ صَفْوُهُ حُزْناً عَلَى
زَهْرٍ تُمَزِّقُهُ الأًيَادِي القاسيهْ
قَاسْيُونُ يَشْهَدُ كُلَّ آنٍ مِحْنَةً
في سَفْحِهِ ،وَرُبَاهُ نَارٌ حَامِيَهْ
حَزِنَ الَّذِي عَشِقَ الْجَمَالَ * وَنُورَهُ
وَتَبَدَّدَتْ أَشْوَاقُهُ النُّورَانِيَهْ
وَنِزَارُ في عَلْيَائِهِ يَرْثِي دِمَشْقَ
وَيَاسَمِينَةَ بَيْتِهِ وَالسَّاقِيَهْ
أيَّانَ مَجْدُ أُمَيَّةٍ كَانَتْ بَيَا ( مدور )
رِقُهَا تُرَفْـــــــــــرِفُ عَـــــالِيَــهْ ؟

وَأَنَا سِيَاطُ الْعَجْزِ تَجْرَحُ مُهْجَتِي
هَلْ أسْتَطِيعُ شِفَاءَ نَفْسٍ دَامِيَهْ؟
مَاذَا عَسى يَاإِخْوَتِي يُجْدِي الْكَلَامُ
وَلا الْقَصِيدُ إِزَاءَ هَوْلِ الدَّاهِيَهْ ؟
رحم الله الشاعر الكبير العاشق الدمشقي نزار قباني في ذكرى وفاته الواحدة والعشرين ( توفي سنة 1998م .) ، وسيبقى خالد الذكر كأنداده من الشعراء الكبار وستظل كلماته المغموسة في شهد الشعر الحقيقي ، تحبب للأجيال الآتية لغتهم الجميلة وأدبهم الحامل لقيم الحب والخير والحق والجمال.

*الشاعر المتصوف ابن عربي دفين جبل قاسيون ، صاحب ديوان "ترجمان الأشواق".

* المصدر:
عبدالجبار العلمي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى