د. عبد الجبار العلمي - مفهوم الإيقاع في بعض الدراسات العربية المعاصرة

إن أغلب الدراسات والأبحاث التي تناولت الإيقاع في الشعر درساً وتحليلاً، كانت تتجه إلى دراسة الوزن والقافية، بينما تغفل إغفالاً يكاد يكون تاماً مكون الإيقاع، الذي يمكن رصده انطلاقاً من مستويات أخرى كالمستوى الصوتي والصرفي والتركيبي والدلالي. ويعود الأمر إلى كون أصحابها يعتبرون الوزن والإيقاع مترادفين، فـ»كثير ممن كتبوا عن الوزن في العربية يجعلون الإيقاع مرادفاً للوزن، أو يجعلون الوزن صورة من صور الإيقاع» (علي يونس نظرة جديدة في موسيقى الشعر العربي).
وقد نجد استعمال لفظ الإيقاع، أو عبارة «بنية الإيقاع» بمعنى الوزن حتى لدى بعض الباحثين المعاصرين، ممن تبنوا في دراستهم مفاهيم مستقاة من مناهج نقدية حديثة، حيث غلبت عليها الدراسة العروضية، ولم تتجاوزها إلا قليلاً إلى مكونات شعرية أخرى، كالمادة الصوتية: تكرارالحروف والمفردات والجناس والتوازن الصوتي.. وتجدر الإشارة هنا إلى أن أشهر الدراسات التي تبنت مصطلح البنية الإيقاعية هي «في البنية الإيقاعية للشعر العربي» لكمال أبو ديب. ولا يخفى «أن لانتشار المذهب البنيوي في الكتابة النقدية، فضلاً على تبلور هذا المصطلح في كتابات الرجل وفي كتابات غيره». (مجلة «علامات في النقد»، ع. 21). ويرى أحمد المعداوي أن هذا الكتاب لا «يتحدث إلا في جانب يسير منه عن البنية الإيقاعية الجديدة، لأن هدفه هو وضع بديل جذري لعروض الخليل، أي للبنية الإيقاعية التقليدية وليس الجديدة» (أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث). وهذا يؤكد أن الاتجاه الذي سارت فيه أغلب الدراسات التي اهتمت بدراسة موسيقى الشعر، هو دراسة البنية العروضية، حتى تلك التي حاولت الاستفادة من المنهج البنيوي.
ويقول شكري محمد عياد في حديثه عن مصطلحي الوزن والإيقاع في كتابه «موسيقى الشعر العربي»: «لا أظن أن ثمة خلافا على أن الشعر نشأ مرتبطا بالغناء، ومن ثمّ فإنهما يصدران من نبع واحد هو الشعور بالوزن والإيقاع». ويؤكد محمد الهادي الطرابلسي «أن مفهوم الإيقاع التبس فعلا بمفهوم الوزن، حتى غلب على أذهان الكثيرين أن هذا هو ذاك بعينه، وأن مصطلحي الإيقاع والوزن مترادفان» («في مفهوم الإيقاع» حوليات الجامعة التونسية). ويفسر وقوع هؤلاء الباحثين في هذا الخلط بالصلة الحميمة بين هذين المصطلحين وهي صلة الأصل بالفرع والكل بالجزء. تلك الصلة التي يصفها شكري محمد عياد بأنها صلة عموم وخصوص «فالوزن الشعري أخص من الإيقاع الشعري، والوزن قسم من الإيقاع، أي أن الإيقاع اسم جنس والوزن نوع منه».

والحقيقة أن مفهوم الإيقاع ظل في أغلب الأبحاث التي عنيت بدراسة ما يتصل بموسيقى الشعر، أو التي عقدت فيها فصول لرصد ما سمته بعض الدراسات بالتشكيل الموسيقي، وسمته أخرى ببنية الإيقاع، غير محدد تحديدا دقيقا، ولا يتم التمييز بينه وبين الوزن بالشكل الذي يزيل عنه ما يحيط به من غموض ولبس. لقد تمت عدة محاولات لتحديد مفهوم الإيقاع على مستوى بعض الدراسات الحديثة والمعاصرة، التي عنيت بموضوع موسيقى الشعر، سواء في المشرق أو المغرب. وسنتوقف هنا عند مفهوم الإيقاع كما حدده ناقد كبير هو محمد مندور ببساطة جعلته قريباً من الأذهان، وأزاح عنه ما كان يكتنفه من غموض ولبس، يقول: «ولكي نضمن تحديد الفهم، نُعَرِّفُ الإيقاع، فهو عبارة عن رجوع ظاهرة صوتية ما، على مسافات زمنية متساوية أو متجاوبة. فأنت إذا نقرت ثلاث نقرات ثمّ نقرت رابعة أقوى من الثلاث السابقة وكررت عملك هذا، تولد الإيقاع من رجوع النقرة القوية بعد كل ثلاث نقرات، وقد يتولد الإيقاع من مجرد الصمت بعد كل ثلاث نقرات (في الميزان الجديد)، وهو يميز بين الإيقاع والوزن، ويسمي هذا الأخير بالكم أي «كم التفاعيل التي يستغرق نطقها زمنا ما». ويرى أن كل أنواع الشعر يقسم فيها البيت إلى وحدات (تفاعيل) قد ترد متساوية كالرجز (مُسْتفعلن مُسْتفْعلن مُسْتفْعلن) في كل شطر من الشعر القديم، ونستشهد هنا ببيت لابن رؤبة العجاج يقول فيه: إنَّ الغَوَانِي قَدْ غَنينَ عَنِّي // وَقُلْنَ لي: عَلَيْكَ بالتغني. وقد تأتي التفعيلة مُسْتَفْعِلُنْ مزاحَفة في عدة صيغ: مُتَفْعِلُنْ ـ مُفْتَعلُنْ في الحشو. أما في الضرب فتتحولُ مُسْتَفْعِلُنْ إلى مَفْعُولُنْ وإلى فَعُولُنْ وفَعُولُ. وقد أدرك الشاعر المغربي أحمد المجاطي الطاقات الإيقاعية لهذا البحر الغني بالتشكيلات الموسيقية، َفَنَظَرَ لها ومارسها في ديوانه «الفروسية»، حيث بلغت نسبة استعماله بحر الرجز أكثر من 50% من قصائد الديوان. ويؤكد لنا المقطع التالي من قصيدة «كبوةُ الريح» هذه الظاهرة الإيقاعية:

على المُحيط ِ يَسْتريحُ الثلّْجُ والسُّكُوتْ
تَسَمَّرَ المَوْجُ على الرِّمَالْ
وَالرِّيحُ زَوْرَقٌ بلا رِجالْ
وَبَعْض مِجْدافٍ وَعَنكَبُوتْ
مَنْ يُشْعِلُ الفَرْحَةَ في مَدامِعي
مَنْ يُوقِظُ الْعِمْلاقَ مَنْ يَمُوتْ؟

وهكذا نلاحظ أن المجاطي استغل كل الإمكانيات الإيقاعية التي يتيحها بحر الرجز نصادفها في السطرين الأولين: علَمُحِي/ طِيَسْتَري/ حُثْثَلْجُوَسْ/ سُكُوتْ: مُتَفْعِلُنْ/ مُتَفْعِلُنْ/ مُسْتَفْعِلُنْ/ فعُولْ ـ تَسَمْمَرَلْ / مَوْجُعَلَرْ ـ رِمَالْ: مُتَفْعِلُنْ / مُفْتَعِلُنْ / فعولْ. ولا يخفى ما في التشكيلات المتنوعة من إيقاع يتصاعد مع حركات المد التي تنتهي بها كل سطور المقطع، إما بالألف أو الواو، أو يهبط ويخفت في أغلب بدايات الأسطر التقريرية باستثناء السطرين الأخيرين الصاخبين المشتعلين بنار السؤال عن المصير والغضب، أزاء واقع مرفوض جاثم على صدر الذات الشاعرة. وكما تأتي التفاعيل على مسافات متساوية، تأتي متجاوبة كالطويل، حيث يساوي التفعيل الأول التفعيل الثالث والتفعيل الثاني التفعيل الرابع، وهكذا ويمكن هنا أن نستشهد بالبيت الشهير لامرئ القيس في معلقته: (وَلَيْل كَمَوْجِ البَحرِ أَرْخى سُدولَهُ //عَلَيّ بأنواعِ الهُمُوم لَيَبْتَلِي) وهو من الطويل الذي يتشكل من تفاعيل متجاوبة كما ذكر محمد مندور. إلا أن هذا الكم (الوزن) غير كاف لكي نحس بمفاصل الشعر إذ يحتاج الأمر إلى إضافة «الإيقاع» Rythme. والملاحظ أن هذا المفهوم للإيقاع لا يخرج عن إطار الظواهر الصوتية المتصلة بالعروض والناشئة عن الانتظام الذي تتميز به المقاطع أو الحركات والسواكن المكونة للتفاعيل، فالأمر يتعلق بـ»ظاهرة صوتية تحدث أثناء نطق كل تفعيل وتعود إلى الحدوث في التفعيل الذي يليه. وهو هنا هنا يتحدث عما يسميه بالارتكاز الذي يميز بين المقاطع، ويولد كذلك الإيقاع، فمندور يقصد بالوزن إلى كم التفاعيل، وبالإيقاع إلى:»تردد ظاهرة صوتية ما على مسافات زمنية محددة النسب. وهذه الظاهرة قد تكون ارتكازا كما قد تكون مجرد صمت»، والكم في رأيه «لا يكفي لإدراك موسيقى الشعر، بل لا بد من الارتكاز الشعري الذي يقع على كل تفعيل ويعود في الموضع نفسه على التفعيل التالي وهكذا».
وفي إطار مناقشة مستفيضة للتعريف الذي يقترحه محمد مندور للوزن وللإيقاع، يحاول شكري محمد عياد التمييز بين المصطلحين في أحد هوامش كتابه «موسيقى الشعر العربي»، فقد جعل الوزن ترجمة لكلمة «meter» الإنكليزية، واعتبره أخص من الإيقاع الشعري مستشهدا بقولة للغوي اليوناني»سويداس»: «إن الإيقاع أبو الوزن». لذلك نراه أكثر شمولية واتساعاً، فنحن نجده في جرس الحروف وفي تكرار الكلمات وفي الموازنات الصوتية وغيرها من أنواع الجناس والبديع.

٭باحث وشاعر من المغرب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى