د. عادل الأسطة - اليهود والعلاقة معهم في نصوص مرحلة السلام

يتساءل دارس الأدب الفلسطيني المتتبع لصورة الآخر فيه، إن كانت النصوص الأدبية التي كتبت بعد (مدريد) و (أوسلو) أبرزت صورة إيجابية لليهود تختلف عن الصورة التي ظهرت لهم في أدبيات الانتفاضة، وقد بدت صورتهم في أدبياتها صورة ذلك العدو القاسي الوحشي الذي يقمع الصغار والكبار، وهي صورة تختلف عن تلك التي بدت في نصوص ما قبل الانتفاضة ، وبخاصة في النصوص المنجزة من أدباء عاشوا في فلسطين، إذ حفلت كتاباتهم بنماذج سلبية وأخرى إيجابية.
ويفترض أن تبرز نصوص مرحلة السلام صورة إيجابية، فلقد أصبح أعداء الأمس حلفاء اليوم، ولقد تصافح القادة وتبادلوا الابتسامات، وشجعوا اللقاءات التي أخذت تعقد هنا وهناك، وبارك بعض الأدباء هذا كله وشارك قسم منهم فيه. وإن كان المرء لا ينكر ان المناطق المحتلة، خلال مفاوضات السلام، شهدت صدامات عنيفة بين العرب والمحتلين، وان كانت الصدامات اقتربت، بعد دخول قوات السلطة الفلسطينية الى مناطق الحكم الذاتي، من نهايتها وكادت تتوقف الا في بعض مناطق مثل الخليل، وفي مناسبات قليلة مثل أحداث النفق في ايلول 1996.
سوف أقف، هنا، عند أربعة نصوص صدرت في عام 1994 و 1996 و 1997، وانجزها ادباء عاشوا في الوطن مثل حرب وعوض او عادوا اليه اثر اتفاقية السلام مثل يخلف او ظلوا مقيمين في المنفى مثل فياض.
أصدر توفيق فياض، وهو من قرية المقيبلة وقد أبعد عنها عام 1974، ويقيم الان، كما أعرف، في تونس، اصدر عام 1994 روايته "وادي الحوارث" وأتى فيها على تصوير الاخر. وليست روايته هذا أول نص له يصور فيه اليهود، فلقد أنجز، فيما اطلعت عليه من كتاباته، نصين آخرين هما : "بيت الجنون" (1965) وهو نص مسرحي ، و "أبو جابر الخليلي" (1978) التي ظهرت في مجموعة “البهلول". واذا ما اعتمدنا الزمن القصصي معيارا، أدرجنا "وادي الحوارث" بعد "بيت الجنون" تارة، وقبلها طورا؛ حقا ان زمنها الروائي هو قبل
حزيران 1967 بعام، ولكننا، من خلال اسلوب الاسترجاع ، نقرأ الكثير عن احداث ترتد الى ما قبل عام 1948، وهذه الاخيرة هي التي تهمنا هنا، فهي التي سأعالجها. واذا ما نظرنا الى الزمن في احداث المسرحية وجدنا انه يجري فيما بين 1948 و 1965، ويختلف الزمن القصصي في "ابو جابر الخليلي" في انه يجري بعد عام 1967.
بناء على الزمن القصصي (الروائي) لا تندرج "وادي الحوارث"، اذن، ضمن نصوص فترة السلام (ادب السلام)، وعليه فان تتبع صورة الاخر فيها يبدو مضللا، لاننا سنشير الى صورة ما كان الواقع يسمح بان تكون، بشكل عام، ايجابية. ويبدو ابراز هذه الصورة، الان، امرا خبيثا لا يخلو من سوء نية مقصود سلفا، أو من رؤية تنظر الى الحاضر على انه نتاج للماضي. وهنا يحق للدارس ان يتساءل : لماذا انجز الكاتب، في هذه الفترة، نصا على هذه الشاكلة ؟ ولماذا عاد الى الماضي وبحث عن صورة الاخر فيه ؟ أليس في هذا سوء نية؟ واذا كان هو كتب من منطلق ما فلماذا لا يدرس الدارس نصه ؟ وبخاصة انه واحد من ثلاثة ملايين لاجيء فلسطيني لم يجدوا ، بعد، حلا لمشكلتهم؟
وما انطلقت منه في اثناء تناول رواية زكريا محمد " العين المعتمة" (1996) يصلح هنا ايضا. فليس هناك من شك في ان الزمن الكتابي ذو تأثير على الزمن الروائي، وان اختيارات المرء تعبر ايضا عن شيء يدور في اعماقه. وأرى ان الحوار الذي دار بين الضابط الانجليزي وصديقه، ولم يكن الكاتب - او اية شخصية عربية - موجودا، لهو مجرد رؤية خاصة او تصور خاص، ويمكن قول الشيء ذاته فيما يمس الحوار الذي جرى بين (فوستر) و (جاليا) . فكيف بدت صورة اليهودي في النص ؟
تطالعنا هذه القصة الطويلة التي تحفل باخر متعدد هو الجيش الأردني والضباط الانجليز وشخصيات يهودية عديدة، وبذات تبدو فيما بينها مختلفة، فمنها المناضل ومنها سمسار الاراضي ومنها الاقطاعي الذي يقيم علاقات مع الانجليز واخرى مع اليهود، تطالعنا بثلاث شخصيات يهودية هي : الضابط (ديفيد)، وهو جندي في الجيش البريطاني ولكنه ايضا مسؤول في (الهاغاناة) وفعال فيها، والدكتور (تسيمرمان) وهو مضارب خبيث داهية، و (جاليا) وهي فتاة يهودية جميلة هاجرت ، يوم كانت طفلة، من بريطانيا الى فلسطين، وتقوم هذه في فلسطين، بمعرفة الجهات الاسرائيلية وبتدبير منها، باغواء الضابط الانجليزي (فوستر)
حتى يغض الطرف عن هجرة اليهود غير الشرعية، ولا تمانع في النوم معه حتى تنجز مصالح شعبها.
تتكرر، اذن، في نص توفيق فياض، الصورة المعروفة لليهود في ادب ما قبل 1948، وبخاصة في كتابات بيدس والعبوشي، وفي أدب المنفى بعد 48 وبخاصة في نصوص النشاشيبي واحمد عودة. وتتلفظ الشخصيات اليهودية بكلام لا يدعو الى التعايش، كلام يدعو الى طرد العرب ويعبر، في الوقت نفسه، عن احتقار لهم. يخاطب الضابط (ديفيد) الضابط الانجليزي قائلا :
"-كان لا بد من ذلك .. انها الحرب يا كولونيل، فاما ان نكون او لا نكون.. ولكي نكون لا بد ان لا يكونوا هم" (ص 95).
ويكتشف الاقطاعي كمال الذي كان على صلة بالدكتور (تسيمرمان)، في وقت متاخر، هذا، ونجده يخاطب الضابط الانجليزي قائلا :
"لن انسى لك يا كولونيل فوستر هذا الجميل.... لم أكن اتصور انهم سيفعلون ذلك معي، وانهم سيدمرون اية امكانية للتعايش لاحد منا معهم...” ( ص96)
وتحتقر (جاليا) العرب، وتقول : "لا بد وان نتخلص من هؤلاء العرب والى الابد" (ص83).
قد يقول توفيق فياض، ومعه الحق كل الحق في ذلك، هذا ما كان حقا قبل عام 1948، ولو انجزت صورة اخرى لليهود غير هذه لاعتور الرواية خلل فاضح يتمثل في اسقاط رؤية الزمن الكتابي على الزمن الروائي، هذا اذا وافق الكاتب على اتفاقية السلام المنجزة وسار في ركابها. وقد لا تختلف رؤية الناقد لو قرأ صورة مغايرة لتلك التي ظهرت في الرواية. ولكن السؤال الذي يبقى مثارا هو :لماذا انجز فياض هذا النص في هذه الفترة؟ أيعود السبب في ذلك الى الرغبة في تأريخ الماضي والتذكير به ؟ ام ان فياض يريد ان يقدم لنا رؤية خاصة فيما يمس فكرة التعايش التي يدعو اليها قسم من الفلسطينيين، رؤية ترى العكس والنقيض ؟ ام انه يريد ان يذكر الذين وقعوا الاتفاقية بماضي من وقعوا معهم هذه الاتفاقية، وكان هؤلاء فعالين ونشطين في (الهاغاناة) و (الارغون) ؟
تبرز الشخصية اليهودية ايضا في رواية احمد حرب "بقايا" (1996) . وهي تشكل الجزء الثالث من ثلاثية الكاتب التي كان جزؤها الاول "اسماعيل " (1987) وجزؤها الثاني "الجانب الاخر لأرض المعاد" (1990). ولأن الكاتب يشير الى "أنه يمكن قراءة كل منها كرواية مستقلة بمعزل عن باقي روايات الثلاثية" فسأقف عندها فقط .
تحفل "بقايا" بذات متعددة وبأخر متعدد؛ هناك الفلسطيني المثقف والفلسطيني الثوري والفلسطيني المتخاذل لدرجة الخيانة، وهناك اليهودي المثقف واليهودي العامل الحشاش واليهودي الضابط واليهودية التي تعتنق الاسلام بعد ان تزوجت من فلسطيني مسلم، وهذه هي الشخصية اللافتة للنظر فالمثقفون اليهود الذين يتحاورون والمثقفين الفلسطينيين يظلون شخصيات غير مكتملة شخصيات ثانوية لا تعلق في الذاكرة ، عدا ان الحوار كان قبل السلام واستمر بعده وشارك فيه السياسيون والادباء، شارك فيه ياسر عبد ربه واميل حبيبي من الجانب الفلسطيني وشارك فيه من الجانب الاسرائيلي (شولاميت الوني) و (عاموس عوز)، ويدرك هؤلاء انهم لا يمثلون، فيما يدعون اليه، سوى الفئات اليسارية قليلة العدد.
تلفت، اذن، شخصية (آرنونا) التي اصبحت ايمان، النظر. وكانت هذه، كلما رأت صور الاطفال الفلسطينيين وهم يطاردون من الجيش الاسرائيلي، تتعذب. وتحارب (آرنونا) ، وهي اليهودية اليمنية، اهلها وتحارب ايضا الحكومة الاسرائيلية، كل ذلك من اجل ان تعقد مع هادي زواجا مثاليا يكون بمثابة الجسر بين الشعبين اليهودي والعربي . (ص 167)
وكما تروي هي قصتها فقد"عاشت في قرية عربية في جبل الخليل كفلاحة مسلمة في كل شيء. اختارت اسم ايمان، ولبست الثوب المطرز بطريقة الفلاحات العربيات، وغطت رأسها بمنديل، وخبزت الخبز في الطابون في فناء البيت، واستحمت في طشت مرة في الاسبوع في قاع البيت... وفي بداية الانتفاضة جلست اياما واسابيع في بيتها تحت منع التجول وتنفست الغاز المسيل للدموع ..." ( ص 183) ولكنها عادت اخيرا الى يهوديتها، واخذت ترى ان "اليأس والعار دفعاني بأن اتزوج العربي الذي يسمى هاديا عندما سنحت لي اول فرصة" . (ص 184) وتشكر ارنونا الرب لانه اعادها يهودية، وتعلن انها مستعدة لتحمل كل ما يواجهها حتى لو ناداها شعبها بالزانية، فهي لا تعتقد ان هناك جهنم اسوأ من الحياة بين العرب لامرأة في مثل وضعها، فحماتهــا العربية لم تنادها طوال حياتهــا معها الا بالشرموطة.( ص 185)
ولا نريد ان نحاكم مدى واقعية هذه الشخصية، ولا نريد ايضا ان ندرس حالات اليهوديات اللاتي تزوجن من عربي وما ألم بزواجهن لنعرف ان كانت (آرنونا) الاستثناء ام القاعدة ! فنحن في الرواية امام حالة واحدة، حالة تنتهي، في مرحلة السلام، بعدم التعايش واستمراريته، بدلا من التعايش الذي يفترض ان يؤدي اليه السلام.
حقا ان كل المعطيات التي تقولها الرواية حول هذا الزواج تشير الى ان النهاية التي آل اليها هي المتوقعة، فهادي اخذ يحتقرها، والجيش الاسرائيلي ضايقها، وحياة القرية بدت لها صعبة جدا، وسلفيا اصبحت عشيقة لهادي، ووحيد متزوج ويرفض ان يقيم معها علاقة ما عرضتها هي عليه حتى تثأر من خيانة زوجها هادي لها، حقا ان المعطيات كلها تجعل النهاية ممكنة، الا ان ما يثير الدهشة ان الرواية انجزت في مرحلة السلام الذي ادى الى تصافح الايدي، لا الى الاصرار على عدم اللقاء، وبخاصة بين القادة الذين اصبح بينهم اتفاق مشترك ادى الى العديد من الاجتماعات. فهل ما يجري امام عدسات التلفاز على مستوى رسمي شيء، وما يدور على ارض الواقع شيء اخر ؟ ثمة مفارقة في الامر ولا شك، في فترة اللا حرب كان اللقاء ممكنا ومتيسرا . وفي فترة الانتفاضة تتحمل (آرنونا) الكثير، وفي فترة السلام يتم الانفصال. اليس في الامر مفارقة؟ تتوحد فلسطين تحت الاحتلال، وتصبح القدس ويافا وحيفا وغزة، في فترة معاهدة الصلح، بعيدة المنال، دون ان يتحقق السلام.
وتصبح امكانية التعايش في رواية يحيى يخلف "نهر يستحم في البحيرة" (1997) غير واردة اطلاقا، ويبدو الحوار غير وارد البتة. تتمثل الذات الفلسطينية في الرواية في ثلاث شخصيات هي انا المتكلم الذي عاد من المنفى مع من عادوا، اثر اتفاقية السلام، ومجد المواطنة المقدسية، والسيد اكرم الفلسطيني المغترب في امريكا والداعي، على الرغم من ذلك، الى التعايش.
ينظر انا المتكلم - أو يحيى - الى قريته سمخ ليرى انها "صارت مدينة يهودية تم ترويضها وتهوديها. أبنية اسمنتية لا تنسجم مع نسيج المكان، مقاه وأرصفة" (ص 80، 81).
وتتمثل الذات اليهودية في النادل (شلومو) والموظفة (يائيل) و (بيرتا)، وقد احبت الاخيرة، قبل عام 1948، العربي فارس الفارس، وكانت رمزا للتعايش، وصورة المستقبل الممكن. وهي اليهودية التي تؤمن بالتعايش والحب والتسامح.
تختلف (بيرتا) عن (شلومو) و (يائيل)، فالاخيران يحملان من (شايلوك) بعض صفاته : حب المال. وهكذا لا يمانع الاول منهما في ان يخالف القانون، وذلك مقابل حفنة دولارات، وهكذا ايضا تطالب (يائيل) بأجرتها على خدمتها، غير مكترثة لخيبة امل السيد أكرم. لقد ضحت (بيرتا)، اثر قيام دولة اسرائيل وتهجير السكان العرب، بنفسها ولحقت الفتى الفلسطيني الطبراني الذي احبته، لتعيش معه في مخيم عين الحلوة في لبنان، وكانت، من قبل، قد فضلته على اغنياء العرب واليهود معا. وكان أن تفهم اهل طبرية "الذين يتصفون بالتسامح وسعة الصدر هذا العشق وباركوه" (113). وكان يمكن ان تظل (بيرتا) مع زوجها لولا المباحث اللبنانية التي ظنت انها جاسوسة اسرائيلية، فأعادتها، من ثم، الى رجال الصليب الاحمر، ليسلمها هؤلاء بدورهم الى السلطات الاسرائيلية، وهكذا عادت الى طبرية، فيما بقي فارس الفارس في المخيم (ص 74).
يبحث السيد أكرم عن (بيرتا) وتساعده في ذلك (يائيل)، وعندما تأتي الاولى ليلتقي بها تبدو "سيدة" مسنة شعرها شديد البياض، على عينيها نظارة مربوطة بسلسلة، تتوكأ على عصا، والتجاعيد تغزو وجهها بضراوة” (ص 125) وهي فوق ذلك “لا تسمع كما أنها لا تتكلم، وفضلا عن ذلك فانها بالكاد ترى نوعا من الغبش" . (ص 125) ويقترب منها السيد اكرم، فتتحسس وجهه كأنها تقرأ ملامحه على طريقة بريل، وتبدي لخادمتها انها لا تعرفه، فيرتبك الجميع "ولم يكن ثمة امل ... انها لا تسمع، ولا تتكلم، ولا ترى، فلن يكون هناك حوار البتة". وهنا يخرج السيد اكرم خاتم (بيرتا) الذي أهدته لفارس الفارس قبل خمسين عاما، لتتحسسه وتظل "تطبق يدها عليه .. ثم وقفت وهي ترتعش مستندة الى عصاها" (ص 128) وتعلن الخادمة عن انتهاء اللقاء.
لقد جاء اكرم ليبحث عن التعايش فوجد صفحته ملأى بالتجاعيد ( ص 132) تماما كما رأى السارد قريته وقد صارت مدينة يهودية، وكأن يحيى يخلف يريد أن يقول ان ما جرى على أرض الواقع، منذ خمسين سنة، قتل اية امكانية للتعايش.
لقد كتب يحيى روايته بعد عودته التي تمت اثر اتفاق (اوسلو) وبسببه، كتبها وهو واحد ممن يحملون بطاقة "شخص مهم جدا" التي تمنحها السلطات الاسرائيلية لأفراد مهمين وبارزين في السلطة الوطنية الفلسطينية، وهنا تكمن المفارقة : ان يصدر نص الخيبة عن شخص عاد اثر اتفاقية سلام، عن شخص انتمى تحت لواء الذين يحاورون ويبحثون عن امكانية تعايش، فهل يلام رافضو هذا الحل اذن؟
الكاتب الرابع الذي يجدر الوقوف امام نصه "مقامات العشاق والتجار" (1997) هو احمد رفيق عوض.
يبدو احمد في اثناء الكتابة عن صورة الاخر في الادب الفلسطيني كاتبا ذا مذاق خاص، وكما يكتب في مقالته "متعة ان ترى التاريخ يجري بين يديك” التي نشرها في دفاتر ثقافية الصادرة عن وزارة الثقافة في تموز 1997 (عدد 11، ص 30) فقد “ عملت عند اليهود منذكنت في ال 15، عملت في مزارعهم ومصانعهم ومطاعمهم، عرفتهم عن قرب. بكوا واعترفوا أمامي. كانوا مثلي تماما، فمنهم الذكي والمجنون والطيب والخبيث، والمريض والصحيح والشاذ والسوي، ولكنهم تشابهوا جميعا في شعورهم بأنهم افضل مني لأنني من "الجوييم" أي الاغيار.. حتى الزانية عندهم تعتقد ذلك... فعن أي بشر تتحدث".
وكان عوض قد كتب في مجلة "مشارف" (العدد الاول، آب 1995) ست صفحات تحت عنوان "وجوه من تل ابيب" (ص 39-ص 44) أتى فيها على ذكر اليهود الذين عرفهم من خلال عمله غاسل صحون في مطعم في تل ابيب في الفترة ما بين 89 و 1991. وتبدو الوجوه كلها، من وجهة نظر الريفي او المحافظ، شاذة غير سوية. هناك (الياهو) صاحب المطعم، وهو يهودي عراقي، وهناك (رفائيل) الليببي، و(سعاديا) الكردي، و (ياعيل) المثقفة، يتاجر (الياهو) بالمخدرات ويخدع الحكومة حين يأتي باللحوم المهربة ويلعب القمار ويكسب نقوده بالحرام ويتزوج من (آيالة) اليهودية الايرانية لان والديها ثريان. ويبدو (رفائيل) لاحمد شخصية مغلقة يكثر من الافساد بين العمال العرب وهو يحب العصافير ويكره الناس. ويرى احمد في (سعاديا) العجب العجاب. انه يسرق من صندوق المطعم ويضاجع صديقته (اورلي) امام العمال وهو شخص بذيء اللسان يكثر من تكرار النكت البذيئة الفاحشة امام النساء اللاتي كن ينفجرن بالضحك دون ادنى شعور بالحرج والتعفف. وأما (ياعيل) المثقفة فقد تزوجت ثلاثة من الرسامين الذين خانوها جميعا، وتقرأ هذه لاحمد الشعر الذي كتبه يهود يمنيون او عراقيون وتخبر احمد ان الثقافة الرسمية الاسرائيلية تتجاهل ادب هؤلاء وتركز على ادب الشعراء والمثقفين الغربيين. ويعجب بها احمد ويسرق لها، من المطعم، زجاجات البيرة، وفي عيد الاستقلال تلبس له ثوبا فلاحيا فلسطينيا وتخبره انها لبسته له لانها تعتبر نفسها الصهيونية الوحيدة في اسرائيل. فهل كانت حقا تصدر عن فلسفة الصهيونية وفكرها، وبخاصة في نظرتها الى بدو البلاد على انهم اليهود القدامى الذين حولوا دينهم ؟ وهل رأت في احمد يهوديا انحدر من صلب الاجداد .؟
يكتب احمد رفيق عوض في مقالته المذكورة ما يلي : "كان علي - أنا بالذات - ان اتعلم اللغة العبرية وأعمل عندهم اجيرا، وان اتوصل الى قناعة ان السلام مع اليهود هو خير وأبقى، وان ما يحدث هو اهون الشرين وأفضل الهوانين، وأسلم الدربين، درب الهوى ودرب الجنون. وكان أن لم نجن، فذهبنا الى (أوسلو)، وعدنا الى رام الله، ويجري التفكير حاليا بشرق اوسط جديد..." ( ص 31).
وليس هذا بالجديد في موقف الكاتب، وهو لا يكتبه لأنه يعمل في مؤسسات السلطة التي وافقت على الحل السلمي البائس. لقد كان احمد رفيق عوض، من قبل، يكتب في جريدة روابط القرى التي اصدرتها تلك الروابط التي أنشأتها اسرائيل لتكون بديلا لمنظمة التحرير الفلسطينية، يوم كانت هذه ترفض الحكم الذاتي. وهو بذلك يعبر عن رأي قديم، ولعل ما يدفعه الى هذا كله انه يريد ان يجني متعة ما من رؤية التاريخ يجري بين يديه. واذا عدنا الى روايته المذكورة نجد انها تحفل بذات متعددة وبآخر لا يختلف عن الذي كتب عنه باسلوب مباشر.
نقرأ في "مقامات العشاق والتجار" عن المناضل الفلسطيني وعن السمسار والتاجر والخائن والمنظر والدكتور الجامعي والحزبي الانتهازي، ويبدو اكثر هؤلاء محبطين يائسين مهزوزين، وقلما نعثر على شخصية قوية صلبة تتفانى في خدمة الوطن حتى اللحظة الاخيرة من حياتها. لقد تغير هؤلاء خلال الانتفاضة وفي مرحلة (أوسلو) وما بعدها الى الأسوأ، ومن اراد ان يكون نقيا انسحب من الواقع لينصب خيمة على قمة جبل بعيدا عن الناس.
ونقرأ في الرواية عن اليهودي (العاد) وزوجته (غراتسيا). يقص عنهما عطا الله
السمسار الذي بدأ يساريا وانتهى سكيرا ومهربا للأدوية وداعرا، ورأى في القدس كل شيء (ص 79) وهناك تعرف على (العاد) وزوجته. فكيف بدا هذان اليهوديان ؟
لا تختلف صورة (العاد) كثيرا عن (الياهو) ، انه تاجر ذهب يحب المال، ولكنه في الوقت نفسه يعمل على شراء البيوت القديمة في القدس القديمة، وتبدو (غراتسيا) غير مختلفة عن (استير) في "الوارث" (1920) لخليل بيدس ، وعن (جاليا) في "وادي الحوادث". تجرب الفلسطينيين وتنام في حضن عطا الله، وتعرض عليه صديقاتها. انها الزانية القوادة، ولكنها تعمل لصالح شعبها، ولا يختلف ما يرد على لسانها، وهي تخاطب عطا الله، عما يقوله احمد رفيق عوض فيما كتبه في دفاتر ثقافية. "قالت (غراتسيا) ان مستقبلنا هو ان نقبل الحل الاسرائيلي تماما ، وأضافت ان لا مستقبل للأقليات. فقلت لها ان اليهود اقلية حافظت دائما على كينونتها، فأجابت بفخر شديد : ان اليهود شعب الله المختار. فسألتها عن خدمتها في المخابرات ، فأنكرت ذلك ضاحكة " (ص 82)
ولا يرى عطا الله مستقبله مع (غراتسيا ) والعاهرات اليهوديات، ولا يرى فيهن وفي ضياعه مخرجا. انه يراه في قدوم السلطة الى مناطق الحكم الذاتي، ففيها يبحث عن النقاء في افرادها العائدين ويتوصل الى “أن عهد الانبياء لم ينته، وان المعجزات ستبقى على هذه الارض ما دام الانسان يدب عليها" ( ص84)، وهكذا يرى الخلاص في الانفصال عن اليهود وفي الانضمام الى سلطة وطنية، وان كان روح الرواية يشير الى ان الامور لم تتحسن نحو الافضل كثيرا، او هذا ما يراه راوي كلام الرواية كله.
(العاد) في الرواية (وغراتسيا) يعملان من اجل شراء العقارات في القدس القديمة. يوظف الاول الاموال، وتوظف زوجته (غراتسيا) جسدها لكي يغريا السمسار والناس، وليحصلا في النهاية على القدس، ولا نعثر في الرواية على نماذج يهودية ايجابية تفكر في تعايش يقوم على الود والاحترام والاعتراف بالحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني، وليست (غراتسيا) مجرد يهودية لعوب، انها ذات رؤية سياسية، وهكذا فان علاقتها الجنسية مع عطا الله السمسار لم تكن علاقة من اجل المتعة واللذة وتجريب العرب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى