عبد الرحيم التدلاوي - قراءة في رواية «قبل الجنون بقليل» شيفرة الجنون والكتابة

«قبل الجنون بقليل» رواية جديدة للمبدع عبد الغفور خوى، صدرت حديثا عن مؤسسة الرحاب الحديثة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، في طبعتها الأولى 2016
تمتد على مساحة 111 صفحة، من القطع المتوسط، وتشتمل على:
1- مقتطف لأندري جيد، يقول فيه: أجمل الأشياء هي تلك التي يقترحها الجنون ويكتبها المنطق.والمقتطف يتصادى والعنوان، إذ يتضمنان كلمة الجنون، والكتابة.
2- كلمة لابد منها، على لسان السارد الأول، والذات الثانية للكاتب، يشير فيها إلى علاقته بالشخصية الرئيسة للرواية، مؤكدا على أن الرواية عبارة عن أوراق من كتابة هذه الشخصية، قام بنشرها وفاء لصداقته، وباتفاق مع أخت الشخصية المحورية. وقد اقتصر دوره على إدخال بعض التعديلات الطفيفة، مست، بالأساس، القليل من الكلمات، إما لكونها جاءت بخط غير واضح، وإما لأنها مشطب عليها، في حين، أبقى على الكلمات الخادشة للحياء، إما وفاء لجنون صديقه، وإما لأن مرادفات لها غير ممكنة. وإذ أبقى على مذكراته معنونة كما تمت على يد الصديق، فإنه قد سمح لنفسه بعنونة المذكرة الأخيرة ب: «مقام ما قبل الجنون».
أما المقامات، «لنستعد مقامات الهمذاني والحريري»، فكانت على الشكل التالي:
مقام الرحيل: سبع صفحات.
مقام الوصل: ست صفحات.
مقام الأمل: خمس صفحات.
مقام العشق: اثنتا عشرة صفحة.
مقام الحزن: اثنتا عشرة صفحة.
مقام القتل: أربع صفحات.
مقام الهجر: خمس صفحات.
مقام الندم: ست صفحات.
مقام اليأس: سبع صفحات.
مقام الرجوع: ست صفحات.
مقام ما قبل الجنون: أربع صفحات.
مقام …: نصف صفحة.
والمقام الأخير جاء غير معنون، من جهة، وغير معلن عنه في الكلمة التي صدر بها السارد/ المؤلف، الرواية، ولربما كان بالإمكان تجاوزها.
كل المقامات سردت بضمير المتكلم المفرد، وباعتماد الرؤية المصاحبة.
الرواية مونولوجية في عمومها؛ وقد اعتمدت تقنية الحوار، مع إفساحها حيزا لقول بعض الشخصيات الأخرى، مما يجعلها رواية متعددة الأصوات. كما أنها اشتملت على قصص فرعية ذات مغزى، كقصة علية، وقصة صديقه المهاجر.
تتمثل اللعبة السردية في الرواية في تواري السارد الرئيس وإفساحه المجال للشخصية المحورية حتى تتولى دفة الحكي من دون أن يبتعد عنها، فهو يراقبها عن قرب، يتابع حركاتها وأفعالها وأنشطتها، فهي حرة إلى حد ما، فقد متعت بحرية القول، والسماح لغيرها بمشاركتها فيه، لكن المهم، أن السارد الغائب عن الأحداث، وقد اتخذ الرؤية الخلفية، لم يكن محايدا، بل وضع شخصيته المحورية، بعد أن زودها بخلفية معرفية، في تجربة تمنحها فرصة قراءة أفكارها في ضوء الأفكار الأخرى؛ وإذ يفعل، فإنه يقدم على نقدها؛ أقصد الأفكار الأخرى، عن طريق إبراز فسادها وعدم صلاحيتها للحياة.
الأهم، أن الشخصية المحورية وإن كانت هي المهيمنة على الحكي، فإن ذلك لم يكن بقصد تحويل المتن إلى بوح خاص بها، إنها تنظر إلى ما يموج به الواقع من حركية، وما تتصارع على خشبته من رؤى وأفكار مختلفة، وما تتجاذبه من مصالح متعارضة، مما يخلق صراعا، الفائز فيه هو القوي، ومن طبيعة الحال، الغلبة تكون لأصحاب النفوذ والمال، من مثل الخليجي الذي يبعثر المال من غير حساب ص56، وصاحبة الملهى، وفي درجة أقل، صاحب ورش البناء، والحاجة التي تدير الماخور.
في هذا الجانب، تكون الرواية بوليفونية، متعددة الأصوات والخلفيات والرؤى. وتأتي الشخصية الرئيسة، لتنظر من عل، تتابع وتناقش وتستضمر أفكارا ورغبات، تحاور وتختلف، وكل ذلك من منظورها الخاص، ومصفاتها الشخصية، مما يدفع إلى القول: إن الرواية قد جمعت البعد المونولوجي والحواري في جبة واحدة.
موقف صالح

من شخصيات الرواية
يقف السارد موقف الرفض لبعض الشخصيات انطلاقا من وصفها، فهو يعتمد الرسم الكاريكاتوري لها، مثلا، شخصية صاحب اللحية.
على مستوى الهيأة: جلس رجل بلحية طويلة وشارب مقصوص بعناية، عيناه مكحلتان، أصابع يديه رقيقة ومتباعدة مثل رجل دجاجة، أظافره قذرة. ص11
على مستوى طريقة الأكل: أخرج الرجل الملتحي …من حقيبة صلصالية اللون لحما مشويا، كان ملفوفا بعناية في ورق من الألمنيوم وخبزة مدورة كبيرة وغليظة، فتح ورق الألمنيوم بهدوء، وضع اللحم على ركبتيه إلى الأعلى قليلا حتى منتصف فخذيه، شطر الخبزة نصفين، ثم بسمل وبدأ يلتهم وجبته بنهم. كان يحشو فمه بلقمات أكبر من مقاسه فينتفخ وجهه ويصبح مثل كرة حمراء مشعرة…ص 12

على مستوى طريقة الحوار:
في رده على جليسه الذي رفض فكرة الخلافة باعتبارها فكرة لا تاريخية: «قال لي في غلظة:
هذه مغالطة تضل الناس أكثر مما ترشدهم.»
وفي رد آخر له: «هذا كلام فلسفة». ص15
وفي معرض وصفه لرئيس الورشة، يقول:
«وجه شعبوط مستدير كاستدارة القصعة، قسماته صارمة كجابي الضرائب، شفتاه غليظتان كقطعتي نقانق، أصابع يديه منتفخة كأثداء كلبة، قامته قميئة، يكاد يبدو في مشيته متدحرجا مثل كرة مبعوجة، شكله رديء، غير مقبول، ملابسه متناقضة الألوان، حذاؤه مغبر…»ص 29.
أما عن الحاجة التي تدير البورديل، فيصفها كالتالي:
امرأة..شهلة، لها جثة سمينة، يداها كبيرتان، لها وشم على ذقنها، صوتها ذكوري، تفوح منها رائحة الحناء والثوم… ابتسمت في وجهها، فبدا فمها الخالي من الأسنان كمؤخرة بغلة عجفاء..ص 38
ويقول عن رحيمو مديرة الملهى:
يشهد وجه رحيمو على جمال قديم، وتشهد ابتسامتها الداعرة والماكرة على أنها كانت عاهرة في زمن ما، يحتفظ شعرها بسواده الحالك كليل شتائي، أنفها طويل ومعقوف إلى الأسفل قليلا، بشرتها بيضاء، يخالطها اللون الوردي، جبهتها خفيفة التحدب، أهذابها متآكلة، لكن المواد التجميلية جعلت عينيها أكبر من حجمهما الحقيقي، وأضفت عليهما دعجا جاذبا. على خدها الأيسر خال نبتت فيه شعيرات تشبه عفاء ذيل بغل. غالبا ما تضع على رقبتها وشاحا حريريا وتترك جزءا من صدرها مكشوفا لتظهر ثدييها المترهلين مثل كلبة عجوز..ص 55.
يلاحظ أن السارد تعمد وصف تلك الشخصيات بشكل منفر، فجعلها قريبة من الحيوانية، بدليل بعض التشبيهات المستقاة من عالمها؛ فأسماء الحيوانات واردة في الوصف، البغل، والكلبة، وغيرهما.
مقابل هذه الوصف المسخي، نجد السارد يقف وقفة إعجاب تنم عن عشق حين يصف فتاة البورديل «علية»، يقول عنها:
أعجبني قوامها المعتدل، أحببت العسل الجبلي الذائب في مقلتيها، والنبيذ المعتق المنسكب على شفتيها المستعدتين للتبسم، التصق نظري بصدرها الجامح، بالضبط بحلمة النهد الأيسر…ص 39
ولما تعرت، قال:
تهت في أقاليم جسدها البض؛ في وجهها شهية غامضة، في جسدها رحيق أسطوري، في صدرها لذة أزلية. رأيت في حياتي أثداء العديد من النساء وهو يرضعن صغارهن، لكنني ما رأيت مثل هذين النهدين الفاتنين، الصلبين، الفتاكين، جسد لا عيب فيه، صاف كأنه قطعة من القمر…صص 39 و40
الأكيد أن الوصف له ارتباط بحالة الذات الواصفة، فإما أن يكون ممتعا، وإما أن يكون منفرا، بحسب قرب وبعد السارد عن الموصوف. فحين يحب، يضفي على المحبوب صفات تقربه من الكمال، وحين يكره، يضفي على المكروه صفات تزري به وتحط من شأنه، وتجعله أشبه بحيوان.
وهذا أحد المبررات التي تدفع إلى القول: إن الرواية، في بعدها العام، ذات صوت واحد ، قريبة من المونولوغ، حتى وإن ظهرت على مسرح الأحداث شخصيات لها صوتها الخاص. فالسماح لها بالكلام لا يعني أنها صارت بوليفونية، على الأقل على مستوى السطح.
تسعى الرواية إلى قراءة الواقع المزري ،المغربي والعربي على حد سواء، وتبحث عن الأسباب الكامنة وراء التطرف ببعديه، المادي والمعنوي؛ كما تلقي بعض الأضواء على الوضع مقدمة أجوبة ممكنة تسمح بتفسير تلك الظاهرة في بعديها معا، وتمنح فرصة معرفة الجامع بينهما، فترى ذلك متخفيا في قبعة الرأسمالية العفنة، فهي التي تقف وراء الأعمال الإرهابية بشكل مباشر وغير مباشر، كما وراء استغلال الإنسان، واستنزاف خيرات الشعوب. الإمبريالية هي التي صنعت وجندت الجماعات الإرهابية لكي تخدم مصالحها، وتنفذ أجندتها، بارتكاب أعمال تخريبية، تروم زرع الفوضى الخلاقة القادرة على تفتيت الدول، وتهجير السكان، وخلق الرعب في النفوس، ويشير العمل إلى هذا الجانب بحديثه عن التفجير الذي شهده ملهى بمراكش، راح ضحيته أبرياء.
كما تقوم الإمبريالية باستغلال الإنسان، واستنزافه واستنزاف خيرات بلده المادية والمعنوية. وبفعل كهذا، تنزع منهم الأمل، وتزرع في نفوسهم اليأس، وتجعلهم أمام أمرين: إما الانتماء للجماعات الإرهابية، أو السقوط في المواخير لبيع الجسد هروبا من الجوع.
وهذا يجر للحديث عن الإرهاب والإرهابيين، من خلال رفيق الطريق، وصاحب اللحية.
يحمل الرجل خطاب التطرف الديني ؛ وهو خطاب يعادي العقل، ويفضي إلى التربية على معاداة المجتمع، وتحقير المرأة،وتكفير الفكر والفلسفة، وتجريم الفنون، ونفي التطور والتقدم، واستعداء الحضارة المدنية، والديمقراطية….
والتطرف الديني قبل أن يكون أفعالا وسلوكات وقناعات، فهو إيديولوجية صارمة تقوم على صناعة مشروع قيمي واعتقادي يراهن على تجميد العقل ووظائفه في مقابل الشحن الروحي والإيماني القائم على منظومة من المسلمات التي ينبغي توظيفها وزرعها في الفكر للتسليم بصدقيتها، وشرعيتها، وحجيتها.
في كل هذه، نجد السارد يصور الشخصية بطريقة منفرة، تعتمد التمسيخ طريقا لحمل المتلقي على الوقوف موقف الرفض منها.

دلالة الأسماء
ينبغي أن أشير إلى أن القاص أولى عناية خاصة لهذا الجانب، اعتبارا أن لكل إنسان نصيبا من اسمه،سلبا وإيجابا، يعبر عنه وينبئ بمصيره، وعن حياته برمتها.
نجد تقابلا مهما بين بعض الأسماء، وعلى سبيل التمثيل، بين: علية، ورحيمو، فهما اسمان قد خضعا للتصغير، لكن الأول، صغر باعتماد قواعد اللغة الفصحى، أما الثاني، فخضع لقواعد الدارجة، مما يدفع إلى الاستنتاج التالي: أن التصغير الأول هو تصغير تحبيب، أما الثاني، فتصغير تحقير. والمتن الروائي يقوي هذا الاستنتاج، فالسارد على علاقة اتصال وحب بالاسم الأول، في حين، على مسافة من الاسم الثاني، ينظر إلى حاملته نظرة انتقادية ساخرة، يتجلى ذلك من خلال الأوصاف التي سحبها عليها، ومن خلال الإشارة إلى وظائفها.
علية تصغير لعلياء، ومعناها: قمة الجبل
أما رحيمو، فمن الرحمة، وتصغيرها كان قدحيا، إذ انزاحت عن معنى الرحمة، إلى معنى مضاد، من مثل القسوة، والكره، والنفاق.
أما اسم صابر فإنه يدل على الصبر، وهو اسم فاعل من فعل: صبر. وقد أدى هذه الوظيفة بكفاءة، فالرجل ظل طوال مسيرته يحمل هما كبيرا، ويعاني من مشاكل كثيرة، وقد واجهها بالصبر.
وكانت حياته صراعا بين النجاح والفشل؛ حياة ممتلئة بالالتواءات؛ لكنه كان في حاجة إلى الدفاع والتأييد الاجتماعي لتقوية ثقته بنفسه. يشجع الطموح في ذاته وفي الآخرين، لكنه لا يشعر بالأمان، حتى إنه قد ينطوي على نفسه، يمتلك روحا قيادية، تدفعه إلى رسم معالم عوالم جديدة وإن على مستوى الذهن، يميل إلى التغيير، ويرفض الجمود.
في حين، كان اسم سعيد مناقضا لحامله، فلم يكن سعيدا بالمرة، إذ كيف يكون سعيدا وهو يعيش في منزل حقير، ويزاول حرفة تتطلب قوة بدنية كبيرة، لا يحصل من ورائها سوى على أجر يبقيه على قيد الحياة.
ويمكن اعتبار صابر شخصية متأزمة تعيش مأزقا مصيريا؛ فهي قريبة من شخصية البطل الإشكالي، إذ يحمل قيما أصيلة يسعى إلى غرسها في المجتمع الذي يعيش فيه لكنه يصاب بالخيبة والفشل عندما يحتك بواقعه المنحط الذي تسوده القيم المادية الزائفة والواسطة المادية التبادلية، فيعجز عن تغييره رغم نجاحه النسبي في انتشال علية من براثن الدعارة، لكنه لم يتمكن من معايشة واقعه المر، حيث شعر بضعفه بفعل ضغط هذا الواقع المتشعب. ثم إنه سيعيش حالة نفسية متأزمة بفعل صراعه الداخلي بين أن يتزوج علية ناسيا ماضيها لأنه لا حق له فيه، فعلاقته بها تبدأ لحظة تعرفه عليها، أو الانصياع لأعراف المجتمع، وسيظل حبيس هذا الصراع، ولن يتخلص منه إلا بعد أن يستشعر مدى الفراغ الذي تركه غيابها في حياته. وكل مجهوداته في العثور عليها ستبوء بالفشل.

ختما:
بلغتها الشفيفة ذات الشحنة الشاعرية الجذابة والمعبرة، وبموضوعها المثير للاهتمام، وبطريقة بنائها، وشكل صوغها، رواية تستحق المتابعة والاهتمام.


عبد الرحيم التدلاوي
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 24 - 09 - 2018

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى