أحمد رجب شلتوت - الباحث الجزائري عبدالغني بن الشيخ ينفي عن روايات عبدالرحمن منيف صفتها التاريخية.

بعدما أتم العرب فتح العراق أطلقوا عليه اسم “أرض السواد”، وسواء كان سبب التسمية يرجع لخصوبة أرض العراق، فوصفها القادمون من الصحراء بالسواد، أو لسبب ثان يرجع لكون الفاتحين دخلوا العراق قبيل الغروب، وكانت الأرض تبدو سوداء لكثافة ظلال النخيل المنعكسة على الأرض.
كادت هذه التسمية تنسى وتبقى حبيسة الكتب القديمة حتى بعثها الروائي السعودي الراحل عبدالرحمن منيف، وجعل منها عنوانا لروايته الأخيرة ذات الأجزاء الثلاثة، وفيها عاد منيف إلى بغداد العثمانية، تحديدا في فترة حكم الوالي العثماني داود باشا للعراق خلال القرن التاسع عشر.
ومنذ صدورها قبيل نهاية القرن العشرين ورواية “أرض السواد” تحظى بالاهتمام النقدي، وأحدث هذه الدراسات كتاب جديد بعنوان “آليات اشتغال السرد في الخطاب الروائي الحداثي- ثلاثية أرض السواد لعبدالرحمن منيف أنموذجا” للباحث الجزائري عبدالغني بن الشيخ، وهي دراسة نقدية أكاديمية حصل بها الباحث على درجة الدكتوراه، وكان قد تناول في أطروحته للماجستير “بنية الخطاب الروائي عند جمال الغيطاني”.
مفارقة الواقع
يذهب الباحث في مقدمة كتابه، الصادر عن دار خيال للنشر والترجمة – الجزائر، إلى أن منيف كان يطمح جادا إلى تأصيل الرواية العربية، وفق رؤية منفتحة، تنبني أساسا على فكرة المزاوجة بين تقنيات الرواية الغربية الحديثة وأساليب الحكي التراثي، في محاولة إلى تأصيل الرواية العربية وفق رؤية حداثية، تتجاوز النص التراثي، بإعادة إنتاجه وتحويله، بما يجعله تخييلا روائيا ذا خصوصيات عربية.
رغم محاولات الإيهام المتكررة بالتأريخ، إلا أن الباحث ينفي عن ثلاثية منيف صفة التأريخ أو سرد الواقع
رغم محاولات الإيهام المتكررة بالتأريخ، إلا أن الباحث ينفي عن ثلاثية منيف صفة التأريخ أو سرد الواقع
محاولات منيف أفضت بالرواية العربية المعاصرة إلى التحرر بشكل لافت من التبعية الأدبية والثقافية للآخر، التي فرضتها عليها الرواية الغربية، منذ نشأتها وعلى مر مراحل تطورها، باعتبارها النموذج الذي ظل يحتذى به من قبل الروائيين العرب، ويرى الباحث أن منيف يرتكز على ثقافة تراثية واسعة، جعلها تتعايش مع حداثة النص الروائي، الذي تتداخل فيه الخطابات وتتنوع فيه الأساليب وطرائق السرد، و هو ميزة طبعت أعمال أبرز الروائيين العالميين المجددين.
يقول الباحث إن “أرض السواد” هي نص روائي تخييلي، تتفاعل فيه شخصيات ذات هوية تخييلية، وكذلك الأحداث فيها تخييلية مفارقة لما يمكن أن يكون قد حدث بالفعل في الواقع، نظرا إلى ما قد توهم به الرواية من خلال الإحالات والإشارات إلى واقع بعينه، وأمكنة محددة، إلا أن كل ذلك لا يعدو أن يكون سوى تخييل سردي مبرمج له، وفق استراتيجية روائية معينة إذ “قد يكون هذا الذي يرويه الكاتب حقيقيا على مستوى علاقته بمرجعيته، لكن يبقى أن ننظر إلى المروي نفسه على مستوى نصيته، أي على مستواه كمقروء”. وهو ما كشفت عنه الدراسة، ابتداء من وقوفها على عتبة العنوان، فصفة السواد جاءت من طبيعة الأرض، فإن أرض السواد مؤهلة لأن تكون مكانا للاستيطان والاستثمار، وربما تحولت إلى أرض للتصارع وهدفا للغزاة والطامعين.
ويفتح العنوان أفقا للتوقع لدى القارئ تتعدد مستوياته قبل الشروع في قراءة الرواية ذاتها، فعنصرا الإيحاء والتكثيف متوفران، كونه مستمدا من التراث والتاريخ، هذا من جهة، وكونه من جهة أخرى قد أختير ليكون عنوانا لرواية طابعها تخييلي، لا لوثيقة تاريخية طابعها إخباري، حتى وإن استعارت الرواية محمول التاريخ لتشكل منه عالمها الخاص.
يشير الباحث إلى الإحالات المرجعية في النص الروائي على وقائع وأحداث لها صلة بالتاريخ في حقبة زمنية بعينها، على خلاف ما قد نجده في روايات أخرى لعبدالرحمن منيف والتي لجأ في معظمها إلى التمويه وعدم التصريح بأسماء الأمكنة والأشخاص التي لها علاقة بالواقع، حتى وإن كان تأويلها على مستوى القراءة ممكنا، إلا أننا نجده في هذه الرواية يأخذ منحى مغايرا، فقد لجأ إلى ذكر أسماء مدن وعواصم لها موضعها الجغرافي الفعلي، كما تعدى ذلك إلى توظيف أسماء أعلام وألقاب شخصيات، تتطابق مع تسميات أشخاص وجدوا بالفعل في الواقع وفي فترة تاريخية محددة.
وما يكثف الإيهام والالتباس هو أسلوب خطاب التقرير، الذي اتكأ الروائي عليه في مقاطع سردية عدة، تضمنت معلومات وأخبار توهم القارئ بأن الرواية تؤرخ لأحداث وقعت، أو شبيهة إلى حد التطابق مع ما حدث بالفعل. حيث يوهمنا الراوي منذ البداية بأنها من التاريخ فعلا “بدأ الغزو مرة أخرى كما يروي التاريخ، وإذا كانت لكل حرب أسبابها وذرائعها فقد اعتبر الملا عثمان الذريعة، فهذا الرجل الذي قتلت زوجته وأولاده أمام عينيه، في أثناء غزو كربلاء قرر أن ينتقم”.
سمة التخييل
على الرغم من محاولات الإيهام المتكررة بالتأريخ، إلا أن الباحث ينفي عن الثلاثية صفة التأريخ أو سرد الواقع اعتمادا على أن درجة الموضوعية التأريخية تتراجع في الرواية، حتى وإن صنفت تاريخية، فهي تفارق بالأساس منطق التوثيق، الذي يقوم أساسا على الموضوعية وترتيب الأحداث وتحديد التواريخ، وغير ذلك من الشروط التي يستلزمها التوثيق التاريخي، وهذا ليس عيبا فيها بل كان ضروريا حتى لا تفقد سمة التخييل، الذي تتمثل خصوصيته في أنه ينبني أساسا على تجاوز الواقع، دون الانفصال التام عنه، وكذلك على أساس النزوح إلى التجريب، بتجاوز ما هو مألوف من طرائق سردية في الرواية العربية التقليدية، وبخاصة ما يسمى بالرواية التاريخية.
و“أرض السواد” تفارق شكل الرواية التاريخية من نواح عدة، منها تداخل الواقعي بغير الواقعي في خطابها، كما لا يخضع ترتيب الأحداث فيها لمنطق زمني سببي صارم فضلا عن تداخل الخطابات المتناصة وتعدد الرواة، ووجود فجوات تركت شاغرة لإشراك المتلقي في ملئها، بما في ذلك النهاية التي جاءت مفتوحة.
إضافة إلى ذلك نجد في الرواية تنويعا في الأساليب التي تم بواسطتها تقديم الأحداث، بتكثيف الأساليب المجازية تارة واللجوء إلى التقرير والمباشرة تارة أخرى، وتوظيف الموروث الأدبي، بجعله يتماشى مع خطاب الرواية المعاصرة.
أما على مستوى اشتغال الزمن يؤكد الباحث أن زمن الخطاب جاء مفارقا في نظامه لزمن القصة، نتيجة اعتماد الروائي على تقنيات تكسير الزمن وخلخلة نظامه، بالعودة إلى الخلف والقفز إلى الأمام في بعض الأحيان، وأما زمن القصة فقد بدا قياسه الدقيق شبه مستحيل، لغياب المؤشرات الزمنية الكافية.
وأخيرا فقد تميزت هذه الدراسة باهتمامها بالمتلقي، باعتباره المعني الأول بتلقي النص، فهو يشارك في ملء الفجوات وإنتاج النص، ويتبادل السلطة مع الراوي بل ويهدد سلطته، مما جعل الراوي في نص الرواية يقلص من مناوراته السلطوية، مانحا المتلقي فرصة المشاركة والمناورة ولو بشكل افتراضي.

الباحث الجزائري عبدالغني بن الشيخ ينفي عن روايات عبدالرحمن منيف صفتها التاريخية.

حول موقع الويب هذا

ALARAB.NEWS

عبدالغني بن الشيخ كاتب يدفع المتلقي إلى تهديد سلطة الراوي | أحمد رجب | صحيفة العرب
الباحث الجزائري عبدالغني بن الشيخ ينفي عن روايات عبدالرحمن منيف صفتها التاريخية.
الباحث الجزائري عبدالغني بن الشيخ ينفي عن روايات عبدالرحمن منيف صفتها التاريخية.










اكتب تعليقًا...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى