عبد الرحيم التدلاوي - قراءة نقدية للمجموعة القصصية " الظلال الخفية" لبوعــزة الفرحان

تنوء شخصيات المجموعة تحت ثقل عادات وتقاليد تكيف سلوكاتها وتصرفاتها، وتؤطر نظراتها لأمور الحياة وشؤونها. كما أن العلاقة بينها متوترة وصدامية، حيث تسعى الأطراف المتنافسة إلى تحقيق النصر بجعل وجهة نظرها راجحة. لكن الصراع الأشد والأقوى هو بين فئة الكبار المشبعين بالتقاليد الراسخة في وجدانهم وأذهانهم، وبين جيل الشباب الطامح للتغيير، يدرك أن تلك التقاليد لا تناسب طموحاته، بل تقيد حركاته، لذا، يسعى إلى تكسير الطوق ومعانقة الحرية، خاصة في البوادي التي ما زالت بها تلك التقاليد قوية ومتماسكة، وذات سطوة ونفوذ.
ينهض نص "حديث قريتي" 87، وبشكل أقل حدة، نص "عادت.. ولكن.. !" ص55. مثالا على ما سبق. فالنص الأول يشهد صراعا تدور رحاه في مجال قروي شديد التمسك بالتقاليد حيث الشرف يعد قيمة عليا؛ صراع بين طرفين، يسعى كل واحد إلى تلويث شرف الآخر، ونرى أن الطرف الأول الذي يمثله ولد البستوني لم تكن أقواله سوى رد فعل يبغي من ورائها حماية شرفه من التهم الموجهة إليه بسبب أفعال ابنته التي شوهدت صحبة أحد أبناء القرية، لكنه، في الوقت نفسه، يتعمد فعل تعرية سكان القرية بفضح مستورها لاسيما وأنه الطرف الضعيف في مواجهة سكان القرية، ثم إن الصراع جاء بعد وقت قليل من الفروغ من صلاة العصر، وقرب المسجد ذي البعد الروحي، مما يعني أن الجماعة على حق فهي الحارسة الأمينة للعادات والتقاليد، والمدافعة عن الشرف. لكن، حين نضع نصب أعيننا قيمة الرجل المهدد في شرفه، يتبين أن اتهام الجماعة هو مسعى تبغي من ورائه تحطيمه هو الرجل المحترم والمقدر. إنها تريد تصفيته معنويا بإذلاله. لعل تأويلنا لمسعى ولد البستوني ما هو إلا تأويل ضمن تأويلات يمنحنا إياها البياض الفسيح، ذلك أن النص صمت عن ذكر الأسباب وراء عدوانية أهل القرية تجاه الرجل رغم مكانته السامية في البلدة. بيد أن النص سينتهي بحدث سيقلب موازين الصراع بإعادة القيمة للرجل المهان، حين يعلن صديق ابنته أنه يود الزواج منها؛ لعلها لحظة تنوير تسعى إلى منح فرصة التغلب على العادات والتقاليد بفرض الزواج المار عبر قناة لم تتعودها القرية، وبذلك تنتهي فصول صراع معبر عن فترة زمنية تم تجاوزها، أو هكذا يبغي النص أن تكون؛ لحظة تنوير خيبت أفق انتظار أهل القرية، وبذلك يكون هذا التخييب داخليا من جهة، وخارجيا بالنسبة للمتلقي الذي تابع أطوار الصراع، وكان ينتظر نهاية درامية يسيل فيها الدم، أو تنتهي القصة بغير ما انتهت إليه. فاللافت في العمل هو تخييب أفق انتظار المتلقي سواء أكان داخل الحكاية أم خارجها.
ويمكن استقدام قصص أخرى تؤكد بعد تخييب أفق انتظار القارئ المادي للعمل، من ذلك، على سبيل المثال، نص "احتراق" ص15، فاحتراق السيارة وصورة العشيق تمنح فرصة للقارئ ليفهم الخيانة؛ إنها لحظة تنوير تعيد لهذا القارئ توازنه هو الذي انتظر نهاية مغايرة وراهن عليها. وإذا كانت الخيانة تيمة مهمة في العمل، فإننا نجد السارد يعرض علينا صورتها من منظور المرأة المهدورة الكرامة، ومن خلال منظور الرجل مهدور الكرامة هو أيضا، مما يعني أن الخيانة لا تقتصر على طرف دون الآخر.
إذا كان العنوان العام للمجموعة يحمل دلالات التخفي والتستر، والعيش في الوراء وبشكل مضاعف، باعتبار أن الظلال خفية طبعا، وبإضافة الصفة يصير هذا الخفاء كثيفا ومضاعفا، مما يستوجب القيام بتسليط الضوء عليه حتى يظهر ويتجلى، كما يفعل السحرة حين يرغبون في استخراج الكنوز. فإن على القارئ أن يجند كل طاقاته بغاية إخراج الخفي إلى العلن، وإلى جعل المسكوت عنه بينا وظاهرا. ومن هذه العوالم الخفية سيستمد القاص قصصه التي سيكون التخييل عماد الكشف عنها. حتى غدا اللفظ استدعاء لضده، والكتابة استدعاء للمحو، والسخرية عمق لظاهر العين. والموت واقع يغطي الأشياء والقيم ومجمل السلوكيات الإنسانية ... كلها مفارقات تشكل عوالم القاص بوعزة الفرحان، يجهر بها لغة المفاجأة والغرابة والصدمة، مما يعطي النصوص بعدا دراميا قويا ومكثفا. هكذا تكون الظلال الخفية هي ما تحيل عليه أحداث القصص مما رُمِز إليه من خلال استعمال ضمير الغياب معبرا عن الراوي العارف بتفاصيل الأشياء، فالتمس لغة تعبر عن ظلال المعاني، ووفق خفائها تتجلى بقوة سلطة الراوي حين يخلق من تعاقب الفعل حركية. نصوص تحمل القارئ على قراءة الوجه الخفي فيها، وملئها لأن" غياب هذا الامتلاء في النصوص المعاصرة، هو ما يجعل من الأهلية والإنجاز يتداخلان كفعلين: أحدهما متحقق في النص، وثانيهما يتحقق كأثر معنوي داخل الأهلية الموسوعية للقارئ"1 وبالنسبة لعناوين النصوص، وهي عناوين معبرة عن عالم البؤس والقهر والإحباط؛ فقد اعتمد القاص على إفراد صفحة لكل عنوان، مما يدل على أهميته السيميائية التي تستدعي طاقة التأويل لدى المتلقي؛ إنها مفاتيح النصوص، فكأن تلك الصفحة التي تحمل العنوان بمثابة باب؛ أي عتبة ينبغي إيلاؤها ما تستحقه من عناية؛ فالعنوان ليس حلية فقط، بل طاقة تختزن الكثير من الدلالات، وتمنح القارئ فرصة ولوج النصوص من دون الشعور بالغربة؛ العنوان يذيب تلك الغربة ويحقق الألفة، وفي الوقت نفسه، يثير الرغبة في المعرفة.
تعالج المجموعة العديد من القضايا ذات الأبعاد الأسرية، والاجتماعية، والسياسية، والقومية، والإنسانية. كما تطرح أسئلة وجودية عميقة ك( أنا من أكون ؟) التي تكررت غير ما مرة ، فضلا عن توظيف الحلم، لمناقشة قضية الانتحار وعلاقات الناس الثقافية فيما بينهم
ويمكن استقدام قصص أخرى تؤكد بعد تخييب أفق انتظار القارئ المادي للعمل، من ذلك، على سبيل المثال، نص "احتراق" ص15، فاحتراق السيارة وصورة العشيق تمنح فرصة للقارئ ليفهم الخيانة؛ إنها لحظة تنوير تعيد لهذا القارئ توازنه هو الذي انتظر نهاية مغايرة وراهن عليها.
تعكس المجموعة اهتمام القاص بالحياة اليومية للناس، يصوغها شكلا ومضمونا في قصصه، لكن يبث فيها من أدب الصدمة ما يجعل القارئ يعيد بداية القراءة والتأويل بمجرد الوقوف على فعل الخيانة، فيبحث عن كيف حدث هذا الفعل. وهذه السمة القرائية تعتبر سمة الكتابة عند القاص بوعزة الفرحان الذي يعتمد على خيبة أفق انتظار القارئ، كما تحدد في نظريات التقبل للعمل الأدبي. فالقارئ لا يتوقع أن فعل القراءة التي يمارسها هي نوع من التنويم، ولا يتوقف إلا بيقظة مفزعة، فيختلط سحر الحلم في السرد بنهاية غير متوقعة. إنها لعبة في الكتابة لا تكشف عن نفسها إلا وقد خلقت توترا في القارئ على قدر ما تعيشه الشخوص من حالة درامية.
إن القاص بوعزة الفرحان يؤسس قصصه على فعل الصدمة. من صدمة البداية المبتورة إلى صدمة النهاية التي تعود بالقارئ إلى المنشأ، ليعيد القراءة من جديد لما اعتمل فيه أثناء القراءة. إذ نجد أنفسنا، ونحن نلج عوالم النصوص، مقذوفين في أتونها دون سابق تمهيد، ولا توطئة، فالأحداث تنطلق قبل انطلاق فعل الكتابة، ويتابع السارد ملاحقتها كتابيا، ويطلب القاص من القارئ أن يتخيل البدايات. 2
هكذا، نجد أن السرد عند القاص الفرحان كان ذا أسلحة موجهةٍ نحو القارئ، وكأنه أراد قارئا قويا في التحليل والفهم، ليحوله إلى كائن لديه لوثة البحث والتقصي عما يريد الوصول إليه، وهو إدخاله في لعبة الغموض للمعرفة القصدية من نصه الروائي، ليصبح مع قارئه كلا واحدا. 3 وإذا كانت الخيانة تيمة مهمة في العمل، فإننا نجد السارد يعرض علينا صورتها من منظور المرأة المهدورة الكرامة، ومن خلال منظور الرجل مهدور الكرامة هو أيضا، مما يعني أن الخيانة لا تقتصر على طرف دون الآخر.كما قلت سابقا. لا يميل السارد ومن خلاله القاص إلى اتهام طرف دون الآخر، فالخيانة قد تأتي من المرأة كما من الرجل؛ وهذا ميزان عدل يقيمه السارد ولا يفرط فيه، ولا يميل إلى الذكور على حساب الإناث كما يفعل البعض الذي خص المرأة بالخيانة وبرأ الرجل منها. وليست الخيانة غير اغتصاب لقيم الإنسانية التي تناهض الاستعباد والاستغلال ، مما يجعل من كرامة الإنسان مطلبا أساسا في حرية العيش والتعبير والمساواة وحقوق الإنسان الوطنية والدولية ...وكلها موضوعات تحضر في قصص بوعزة الفرحان، يصوغها بكثير من الدقة والفنية الأدبية. 4
من الأمور المثيرة للانتباه في العمل، أيضا، حضور عتبة النافذة، أو ما يقوم مقامها ويلعب دورها، كزجاج المقاهي؛ إنها عتبة فاصلة بين عالمين، عالم الداخل وعالم الخارج، وحيث أن الداخل يتابع ما يجري بالخارج ويدونه، أي أن الانطلاق في رسم الأحداث يكون من زاوية داخلية ضيقة. تمثل النافذة ذلك العبور بين العالم الحميمي والعالم الخارجي الذي يمثل العدوانية أحيانا نظرا لما يحفل به من عنف مادي ومعنوي، عالم حافل بالصراع بين أطراف متناقضة المصالح والمطامح. النافذة تلك العين التي تلتقط ما يمور به الواقع من أحداث متلاحقة ومتتابعة، وفي الوقت نفسه، متناقضة ومتعارضة.
في نص "جسر الشك" ص11، نتابع الزوجة وهي تطل من النافذة منتظرة عودة زوجها وقد هيأت نفسها أحسن تهييئ لاستقباله، غير أن هواجس انتابتها فنغصت عليها حلاوة الانتظار وجمال الوصال: في الطابق العلوي، وقفت مدة خلف ستار النافذة تنتظر عودته والهواجس تأكل ذاكرتها. عمود كهرباء يتيم ينشر نوره من بعيد بمقدار عبر زقاق ضيق. رأت في ظلاله شبح رجل يصارع خطواته وهو يزرع أنغاما باهتة في الهواء. على التو تدحرجت عبر الدرج، أطلت من ثقب الباب...ص 12 و13. في المقطع السالف نتابع صور الزوجة وهي تعيش قلقا ورغبة، تتناوشها اللذة والألم، الترقب والخوف، لتحصد في النهاية خيبة مرة بفعل دخول زوجها إلى منزل جارتها. النافذة هي مجال الزوجة الحيوي، يخرجها من ضيق المكان الذي حشرت فيه، وبقيت تلك الدمية التي يأتيها الرجل متى شاء، ويغادرها متى شاء. عالم ضيق يعبر عن ضيق العلاقة بين الزوجين، وفساد علاقتهما. المرأة حركاتها محصورة بالمكان الضيق بينما الزوج يتحرك في رقعة واسعة، يمتلك حرية التصرف بخلاف زوجته السجينة.
وتحضر النافذة في نص "احتراق" ص15، إذ منها تتابع ما يحدث بالخارج، تابع زوجها وهي تحمل كما من الحزن؛ حزن نابع من إحساس الزوجة بذنبها تجاه زوجها الذي علم بخيانتها. لقد خرجت، وخروجها كأنه ارتكاب لإثم ومعصية، إنه خرق للمنع، فبدل أن تظل محمية في منزلها، تجرأت على الخروج فارتكبت ذنب الخرق وذنب الخيانة.
ويأتي نص "نحو السراب" ص19، ليؤكد هذا المنحى، فعويشة خرجت من بيت أبويها إلى عالم مغاير فكانت خيبتها؛ فزوجها لم يراع قداسة العلاقة الزوجية لكونه كان يضمر خبث استغلال سذاجة زوجته واعتقادها أنها ستعيش حياة أجمل وأحسن، فحولها راقصة بيع عريها وجسدها للأغيار، النتيجة هي السقوط المعنوي والمادي معا. فهل البيت هو مآل الزوجات؟ هل هو مجالهن الحيوي الذي ينبغي ألا يغادرنه وإلا كان السقوط بانتظارهن؟ لا يأتي من الخارج سوى الحزن والألم، يصفعان الزوجة سواء أكانت الجانية أم المجني عليها.
تتميز الإضمامة بخصوبتها؛ خصوبة تحض المتلقي على التأمل والتفكير. كما تتميز بالتسريع السردي، والرشاقة حيث لا لغو ولا حشو. فكل عبارة تحمل دلالة تقذفك لأخرى، فتتحصل على بناء لواقع اجتماعي، أغلب شخوصه من القرية مما سمح بحالات البؤس غشاء ينقدح في القارئ. تحقق قصص بوعزة الفرحان للمتلقي الكثير من المتعة الفنية، فهي ترحل به في كل اتجاه، كما تخلق من شخصياتها أنواعا سردية متحركة ضمن مجال ثقافي يحدد هوية هويتها. إنها شخصيات إنسانية في جلها تتخذ من العقل أداة لتدبر المواقف وإيجاد الحلول في مجتمع إنساني يعُج بالقيم المتدهورة من مثل الخيانة بمختلِف تجلياتها، الأسرية والاجتماعية والسياسية.5
تجدر الإشارة إلى ملاحظة مهمة؛ وهي أن مجموعة من النصوص جاءت أقرب إلى القصة القصيرة جدا منها إلى القصة القصيرة، بفعل التكثيف وقصر الحجم رغم بعض الإضافات التي لم تخرجها من هذا اللون التعبيري.

ـــــ بوعزة الفرحان، الظلال الخفية، مجموعة قصصية، مكتبة ووراقة بلال، فاس، سنة 2018

1 و2 و4 و5_ إدريس زايدي، تجليات الخيانة في "الظلال الخفية" لبوعزة الفرحان
_ 3 منار يزبك، أنا سليم بركات الساردة، ، القدس العربي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى