عبد النبي حجازي - ثرثرة العجـــــــائز

أتيح لي وأنا في المرحلة الإعدادية (أواسط الخمسينات) أن أدخل عالم الكاتب المسرحي الساخر برنارد شو (1) من خلال مسرحيته الشهيرة "الميجور باربرا"(2) وأكثر ماشدني إليه "سيرة حياته" التي يمتزج فيها الجد بالسخرية وبخاصة أقواله التي كانت تتردد على الألسنة للتندر والتفكهة . وقد استوقفني قوله : "تعلمت الحياة من الكتاب المقدس وثرثرة العجائز" وتخيَّلت عجوزين تجلسان حول الموقد في ردهة بيت واسع تنسجان الصوف وتتبادلان الأحاديث و"شو" يسترق السمع ويتلقى الدروس من تجاربهن الطويلة وخبراتهن العميقة التي تتدحرج على ألسنتهن تلقائياً .

قررت أن أقتفي آثار "شو" وأنا أعدّ نفسي لأكون مشروع كاتب فرأيت عجوزين تتشمسان في زاوية الحارة تضع كل منهما رأس حفيدها على ركبتها تفلّيه من القمل والصئبان مكشرة متشفية . أصخت السمع وإذا بإحداهن تقول: كثر القمل ولم يعد لنا شغل سواه . قالت الأخرى : نتسلى . قالت الأولى : لا . بل سأقضي عليه بـ "زيت الكاز والـ "دي دي تي"(3) حتى لا أرى واحدة منه في دارنا . قالت الأخرى بحماسة ولهفة : الله لا(يُخْليه) من ديارنا . أدهشتني الإجابة فسألت أستاذ العلوم الطبيعية قال : القمل والنمل والبرغش وسائر الحشرات مظهر حيوي من مظاهر الحياة في الطبيعة . فأدركت أن الحكمة في ثرثرة العجائز تشمل كل زمان وكل مكان ومن الحكم والأمثال السائرة المعبرة التي تتردّد على ألسنتهن : "حبّ حبيبك ولو كان عبداً أسود" "الغزّالة تغزل على عود ، والعفنة يَنْـتَعها القرود" "أحلى مني الله خلقها أشطر مني دم فلقها"
ولقد فطن الجاحظ (4) منذ مايزيد على ألف ومئتي عام إلى تلك "الحكم" فأوردها في البيان والتبيين منها : سئلت أعرابية عن الجمال فقالت : "أن يكون الرجل رحب الشدقين ، عريض مابين المنكبين ، طويل القامة ، كبير الهامة ، جهْوَريَّ الصوت" ومنها ماقالته إحداهن لأحد الخلفاء : "كبتَ الله كل عدوٍّ لك إلا نفسك"

بين عامي (1971ـ 1975) تسنى لنا أن نجتمع في الجزائر مدرسين عرباً من بلاد مختلفة إضافة إلى زملاء من جنسيات متعدِّدة : أوروبية غربية وشرقية وكندية ترافقهم زوجاتهم ومعظمهن من العاملات في التدريس . وقد أقرّ العرب أن السيدة السورية تتميز بجمالها ، وثقتها بنفسها ، ووفائها لزوجها وأطفالها ، ومهارتها في ترتيب بيتها ، وقدرتها على إعداد الطعام اللذيذ (5) وهذا بفضل الأمهات والجدات في تربية بناتهن ، وإعدادهن أن يكنّ زوجات صالحات رغم متابعتهن الدراسة .

بيد أن فاطمة النجار وهي أم لتسعة أبناء وجدة لثلاثين حفيداً فإنها كانت الأبلغ والأفصح بثرثرتها الصامتة الخلاقة وكان عندها القول الفصل . إنها من ذالكم النوع الذي قال عنه "ابراهيم طوقان" (6)

صامت لو تكلمـا لفظ النار والدما

قل لمن عاب صمته خلق الحزم أبكما

ضاقت الدنيا بفاطمة واعتصر الأسى قلبها وهي تتلفّتُ حواليها . ترى الجميع ساهين عن فظائع إسرائيل : العرب ، والمجتمع الدولي الذي يلعب به "دبليوبوش" ويساند إسرائيل ـ على بياض ـ فتزنرت بحزام ناسف ، ووضعت في عنقها بندقية (ام ـ 16) وفجرت نفسها في دورية اسرائيلية .لم تقل فاطمة سوى كلمات قليلة :

"أهدت استشهادها للسجناء الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية ، ولرئيس الوزراء (اسماعيل هنية) ولله والوطن" ومايزال "دبليوبوش" و"توني بلير" وإسرائيل والغرب عموماً يندّدون بالإرهاب فيما يجيزون لأنفسهم دمار الشعوب .

1ـ جورج برناردشو (1856 – 1950 ) كاتب مسرحي إنكليزي ايرلندي المولد . تزخر أعماله بالظرف والسخرية . نال في العام 1925جائزة نوبل للآداب فقبل التكريم ورفض الجائزة المالية .
2ـ نشرت في العام (1905) وترجمت إلى العربية في أواسط الخمسينات , ثم ترجمت فيما بعد بعنوان "الرائد باربرا"
3ـ الـ(DDT) مبيد حشرات كان معروفاً في الخمسينات , وكان محظوراً بسبب خطورة استعماله .
4ـ الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر (776م ـ 159هـ/869م ـ 255هـ)
5ـ نسبة الزواج في سورية (30) سنة بين الذكور و(26) سنة بين الإناث
6ـ ابراهيم طوقان ولد في نابلس عام (1323هـ 1905م) وعمل في التدريس والصحافة ورغم أن المرض أنهكه أفنى عمره في مواجهة الاستعمار البريطاني والغزو الإسرائيلي وتوفي عام (1360هـ 1941م)
أعلى