والت ويتمان - النائمون.. ترجمة: اسكندر حبش

1

في خيالي أطوف طوال المساء،

أخطو خفيفا ، هادئا ومسارعا أخطو .. أقف .

أنحني وعيوني تحدق في الأعين المغمضة للنائمين

أتجول مرتبكا ، فاقدا حالتي ، غير متسق ، متناف

لحظة أتوقف .. أنظر مندهشا.. أنحني وأقف.

الكآبة تحتلهم وقد انبسطوا جامدين،

والسكون يرافق أنفاسهم ، رضعٌ في مهودهم .

القسمات القبيحة للضجرين ، الملامح البيضاء للجثث،

الوجوه الشاحبة للسكيرين ، الوجوه المريضة للمستمنين ،

الأجساد المضرجة في ميادين القتال ، المجانين

في عنابرهم الموصدة ، الحمقى المتدينين ، الرضع الخارجون

من الأبواب ، والمحتضرون الخارجون من الأبواب

يعتريهم الليل ويضمهم تحت جناحه .

بهدوء ينام الزوجان في سريرهما ، يده على فخذ زوجته

ويدها على فخذ زوجها،

بحنان تنام الشقيقات جنبا إلى جنب في أسرتهن ،

وبحب ينام الرجال بجانب بعضهم في أسرتهم ،

وتنام وفي حضنها طفلها الأم وتكلؤه بالحنان .

الضرير ينام ، والأصم ينام ،والأبكم ينام،

السجين ينام في سجنه ، والابن الهارب ينام،

والقاتل الذي سيشنق في غده .. كيف ينام؟

والقتيل كيف ينام؟

التي تعشق من طرف واحد تنام،

والذي يعشق من طرف واحد ينام،

والذي كان طول النهار يدير النقود ينام،

الساخطون والخائنون كلهم، كلهم ينامون.

واقفا في الظلام تدلت عيوني من أبشع الألم ،

ومن أعظم القلق،

بهدوء أمرر كفي في ذهاب وجيئة بالقرب منهم،

المتململون يغرقون في أسرتهم وبعمق ينامون.

الآن أخترق الظلام ، تتراءى لي كائنات جديدة ،

ترتد عني الأرض نحو الليل،

أبصرها جميلة ،

وأرى بأن ما لم يكن أرضا جميل.

أتحرك من جانب للسرير إلى جانب آخر ، وأنام قريبا من النائمين

تباعا،

وأحلم في حلمي كل أحلام الحالمين الآخرين ،

وأصبح الحالمين الآخرين .

فأنا رقصة .. أتبدى هناك ! إعصار سيعصف بي !

وأنا الضاحك الأبدي ، هلالٌ وشفق،

أبصر الرشوات الخفية ، وأرى كيف تبدو الطيوف الرشيقة ،

تختفي .. تختفي ثانية في البحار وفي الأرض ، وبأي مكان

ليس أرضا وليس ببحر.

حسنا ، هل يؤدون أدوارهم أولئك الكهنة ،

أنا فقط لا شيء يخفوه عني ، ولن يفعلوا لو اقدروا،

وأؤمن أني سيدهم ، وهم يجعلوني الحبيب المدلل،

فيحيطون بي ويقودونني وأمامي يجرون حين مشيت،

وأنزع أقنعتهم المراوغة كي يروني بأذرع ممتدة ،

ونستأنف الطريق؛

قدما نسير ، شرذمة شواذ وقحين ! يتعالى صخب موسيقى النشوة

وبطيش ترفرف رايات البهجة.

الممثل أنا .. والممثلة أنا .. والناخب والسياسي أنا

والمهاجر والمنفي أنا ، والمجرم الذي وقف في صندوق أنا،

والذي كان مشهورا أنا ، والذي سيكون بعد اليوم مشهورا أنا ،

والذي فيه فأفأة ، والذي حسن الخلّق ، والهزيل والضعيف.. كلهم أنا.

وأنا هي الـتي تزينت ولفت شعرها ترتقب،

حبيبي الغائب قد وصل في الظلمة.

توسعي واتسعي لي يا ظلمة.

اتسعي لي ولخلي معا ، فلن يدعني أذهب بدونه.

أتلوى عليك كما أتلوى على جنبات سرير ، وأسلم نفسي للظلمة.

من أنادي يجيب ندائي ويحل محل حبيبي،

وبصمت يقوم معي من السرير،

إيه يا ظلمة!

أنت عندي ألطف ممن أحب ، عرقا ولهفة قد تبلل جسده

وشعرت بنار نداي ، وبرغم هذا تركني.

خطوطي تتصاعد في كل الاتجاهات،

سأصرخ للشاطئ المظلم الذي إليه تسافر.

احترسي أيتها الظلمة! ما الذي مسني آنفا،

قد ظننت بأن حبيبي رحل ، وإلا فهو والظلمة واحد،

أسمع نبض قلب ، أتبعه ، أختفي .

2

اتخذ سبيلي الغربيّ ، خائر القوى،

الشباب والشذا يجريان منيّ وأنا الأثر.

ليس وجه العجوز ، تجعد واصفر لكنه وجهي أنا،

وعلى مقعد القش أجلس أرفو جوارب حفيدي.

وأنا أيضا الأرملة الـ يهجرها النوم، في ليلة برد تترقب ،

أرى وميض أنجم على الأرض الجليدية الشاحبة.

كفنا أرى .. وأنا الكفن ، جسدا أكفن ثم في التابوت أجثو،

هنا ظلام تحت جلد الأرض ، لا شر ولا ألم هنا،

هنا الفراغ .

يظهر لي بأن كل شيء في الضياء والهواء ينبغي بأن يكون سعيدا

وكل من ليس في نعشه تخبره وحشة المثوى

بأن ما فيه يكفي.

3

وأرى سباحا جذابا ،ضخما يتقلب في لجة البحر عاريا ،

شعره البنيُّ منساب على رأسه، بأذرع

شجاعة يقاتل ، ويحث قواه بساقيه ،

أرى جسده الأبيض ، وأرى عينيه الباسلتين ،

أكره لجج البحر الغضبى الـ تضرب جبهته

في الصخرة.

ماذا ترتكبين أيتها الموجات الوحشية؟

هل تغتالين العملاق الأشوس؟ هل تقتلينه

في ريعان شبابه؟

ثابتا وطويلا يناضل

يُصد ويضربُ.. يحرجُ ،

يصمد إذ تصمد قوته ،

تتلطخ من دمه الأمواج .. بعيدا تقذفه ،

وتلفه وتهزه وتقلبه،

على أكتاف الأمواج يحمل جسده الجميل ،

وباستمرار تضرب به في الصخور،

وسريعا تُخفى الجثة الشجاعة .

4

أستدير ولكنني لا أخلص نفسي ،

قلقا ، غامضا ، ثانيا ، غير أني لا زلت في كنف الظلمة.

الرياح الجليدية الحادة تجرح الشاطئ ، صوت إطلاق نار يؤذن بالخراب،

هدأة العاصفة ، القمر عاثرا يتقدم بين العباب.

أتمعن حيث السفينة تسعى إلى حتفها يائسة، أسمع الانفجار

بينما تحترق ، أسمع ولولة الرعب، ثم تخفت شيئا فشيئا.

لا حول لأصابعي الملوية

ليس بوسعي سوى الاندفاع إلى الموجة المتكسرة

وأدعها ترشني وتتجمد فوقي.

في الحشد أبحث ، لا أحد جاءت به الأمواج حيا نحونا ،

وفي الصباح نلملم الموتى ونصفهم في مأوى.

5

الآن من أزمنة الحروب القديمة ، ومن هزيمة ( بروكلن ) ،

يقف (واشنطون )بين الصفوف، يقف على الهضاب المحصنة

وسط حشد من الضباط.

وجهه بارد وكئيب ، فليس بإمكانه قمع فيض الدموع،

دائما يشد نظارته إلى عينيه ،فيشحب اللون

من وجنتيه،

يرى مقتل الأقوياء الجنوبيين الذين

عهد بهم آباؤهم إليه.

هو نفس الذي في النهاية يحدث عندما يعلن السلم،

ينتصب في غرفة في الخان القديم بينما الجنود الذين يحبهم الناس

يمرون أمامه ،

الضباط بصمت وبطء يجرون أنفسهم في أدوارهم،

الرئيس يسور أعناقهم بذراعه ويقبلهم

على وجناتهم ،

بخفة يقبل الوجنات الندية واحد بعد الآخر ،ويصافحهم

ويودع الجيش.

6

الآن ما قالته أمي ذات يوم إذ قعدنا للعشاء،

عن حين كانت آنسة طفر الشباب بها ..وكانت في رعاية والديها

في منزل الأسرة العتيق.

هندية حمراء جاءت ذات إفطار لمسكننا القديم ،

وعلى ظهرها حزمة من أسل للكراسي،

شعرها المستقيم ، الصقيل ، القوي ، الأسود ، الكثيف

يغطي نصف وجهها،

مرن خطوها ورشيق ، فاتن صوتها كلما نطقت.

بسرور ودهشة تحدق أمي في الآتية الغريبة،

نظرت إلى نضارة وجهها وإلى نعومة جسمها ،

كلما ازداد تحديقها زاد إعجابها،

لم تقع عينها قط من قبل على مثل هذا الجمال وهذا النقاء،

أجلستها على مقعد في جوار المدفأة ، وأعدت طعاما لها،

لم تفتش لها عن عمل ، بل أغرقتها بالترحيب والحنان.

أمضت المرأة كل الضحى، وغادرت في وسط الظهيرة،

لم تدم عين الرضا في وجه أمي ، كرهت هذا الرحيل،

ولأسبوع تفكر ، ولشهر تنتظر،

وبصيف وشتاء تتذكر،

غير أن الهندية الحمراء لم تعد، ولم يسمع بها أحد ثانية .

7

عرض لاعتدال الصيف .. احتكاك بما لا يرى ،

علاقة حب بين الضياء وبين الهواء،

غيور أنا ومغرورق بالوداد،

بنفسي سأخرج لأجامع الضياء والهواء.

أيها الحب والصيف ، أنتما في الأحلام وفـيّ،

الخريف والشتاء في الأحلام ، يخرج الفلاح بقواه،

فتتكاثر القطعان والمحاصيل ، وتملأ البيادر.

العناصر تتحد في الليل ، البواخر تمخر ظهر العباب في الأحلام،

الملاح يغادر ، المنفي يعود إلى وطنه،

الطريد يعود دون أذى ، المهاجر يرجع خلف الشهور وخلف السنين،

الفقير الأيرلندي يستقر ببيت طفولته البسيط

بين جيرانه والأقربين ،

بحرارة يرحبون به ، ويعود حافي القدمين ، ينسى أنه كان ثريا،

الهولندي يعود إلى موطنه ،والاسكتلندي يعود إلى موطنه ، والويلزي يعود إلى موطنه ، والمواطن الشرق أوسطي يعود إلى موطنه،

وإلى كل منفذ من إنجلترا وفرنسا وأسبانيا تدخل السفن المحملة،

السويسري يخطو بها إلى تلاله ، والبروسيّ يذهب في دربه،

والمجريّ يذهب في دربه ، والبولندي في دربه ، السويديّ يعود ،

والدانمركيّ يعود ، والنرويجيّ يعود.

الداخلي مكبل والخارجي مكبل،

السباح الوسيم المفقود ، والكئيب ، والمستمني ، والمرأة التي

تعشق من طرف واحد، والرأس ماليّ ،

والممثل ، والممثلة ، والذين يؤدون أدوارهم

والذين هم في انتظار البداية،

والصبيّ الرقيق ، والزوج والزوجة ، والناخب، والمرشح

الذي فاز بالانتخاب ، والمرشح الذي لم ينتخب،

والعظيم الذي هو من قبل هذا عظيم ، والعظيم الذي سوف يضحي بأي زمان عظيم ،

والمفأفئ ، والمريض ، والذي أحسنت خلقته ، والقبيح ،

والمجرم الذي وقف في صندوق ، والقاضي الذي جلس

وحكم عليه ، والمحامون الفصحاء ، والمحلفون ، والحضور ،

والضاحك والباكيّ ، والراقصة ، وأرملة منتصف الليل ، والهندية الحمراء ، والمصاب بالسل ، والمتقرح جلده ، والمعتوه ،والذي أعتدي عليه ظلما ،

والذين يسكنون في النصف الآخر للأرض ،وكل واحد بين هذا وبينهم في الظلام ،

أقسم أنهم متساويين الآن .. لا فضل لأحدهم على الآخر،

ساواهم الليل والنوم وعدل بينهم .

وأقسم أنهم رائعين جميعا،

لأن كل نائم جميل ، وكل شيء في الضوء الخافت جميل،

الوحشي انقضى والدموي أفل ، وكل ما هنا سلام.

دائما السلام جميل،

وقول الإله يشير إلى الليل والسلام،

وقول الإله يشير إلى الروح،

والروح دائما جميلة ، تظهر أكثر أو تتبدى أقل ،

تجيء أو لا تجيء،

تجيء من جنتها الظليلة وتبدو سارة في نفسها

وتطوق الكون،

الأعضاء الكاملة الطاهرة تتدفق ،

والأرحام الكاملة الطاهرة تلتحم ،

الرأس متسق وتام ، والأحشاء

والمفاصل متسقة وتامة.

الروح دائما جميلة ،

والكون كامل نظامه ، وكل شيء في مكانه ،

فما أتى يقبع في مكانه ، وما سيأتي سيكون في مكانه ،

العقل المستدير ينتظر ، والدم المائي أو الفاسد ينتظر،

وطفل الشره أو الجليل طويلا ينتظر ، وطفل

السكير طويلا ينتظر، والسكير نفسه طويلا ينتظر،

النائمون الذين عاشوا وماتوا ينتظرون ، المتقدمون جدا

سيسيرون في أدوارهم ، والمتأخرون جدا ستأتي أدوارهم،

الاختلاف لن يكون أقل اختلافا ، لكنهم سوف يفيضون ويتحدون.

هم الآن يتحدون.

8

النائمون جميلون جدا وقد اضطجعوا عراة ،

يتدفقون على جميع الأرض من شرق إلى غرب يدا بيد

وقد رقدوا عراة،

يد الآسيوي في يد الأفريقي ،

ويد الأوروبي في يد الأمريكي،

ويد المتعلم في يد الأمي ،

ويد الذكر في يد الأنثى ،

ذراع الفتاة العاري يتوسد صدر حبيبها العاري ،

يضمان بعضهما من غير شهوة ، شفتاه تلامس رقبتها،

الوالد يعانق ابنه البالغ أو غير البالغ بحب لا حدود له،

الابن يعانق والده بحب لا حدود له

الشعر الأبيض للأم يلمع على معصم ابنتها الأبيض،

نفس الصبي يذوب في نفس الرجل ،

الصاحب يحضن صاحبه،

يقبل المعلمَ الطالبُ ويقبل الطالبَ المعلمُ،

الخطأ يكون صوابا،

العبد يصرّخ للسيد ، والسيد يصغي للعبد،

المجرم يخرج من سجنه ، المجنون يصبح عاقلا،

المريض يتعافى ،

تتلاشى الحمى والرشح، الحنجرة الخرسى تنطق،

رئتا المسلول تبرأ، رأس الفقير المكروب يخلو،

مفاصل المصاب بالروماتيزم تتحرك من غير ألم ،تتحرك أكثر

دون ألم ،

المخنوق يتنفس ، والمشلول يتحرك ،

المتورم والمتشنج والمحتقن يستيقظون بصحة جيدة،

يتجاوزون منشطات الليل وكيمياء الليل ويصحون.

وأنا أيضا أجتاز الليل ،

سوف أبعد عنك قليلا أيا ليل ،

لكنني سأعود إليك ، وسوف أحبك.

لماذا أخاف بأني سأودع نفسي إليك؟

لن أخاف، فلقد ربيتني جيدا ،

أحب النهار الغني السريع ، ولكنني لست أهجره فيما اضطجعت فيه طويلا،

لست أعرف كيف منك أتيت ، ولا أين أمضي معك،

ولكني أعرف أني أتيت تماما وتماما سأرحل.

لمرة واحدة فقط سأبيت مع الليل ، وباكرا سأنهض،

وسوف أجتاز النهار في حينه يا أمي ثم في حين أعود إليك .

*

ترجمة الشاعر / حسن الصلهبي

******

(ترجمة أخرى للقصيدة)

-1-

أهيم في رؤياي طوال الليل

رائحا بخطى ناعمه ، بسرعة وبلا ضجة أروح ،

وأتوقف

أنحني ، عيناي مفتوحتان على عيون النائمين المغلقة

هائما وبلا يقين ، هاربا من نفسي ، مشوشا، متناقضا

مع ذاتي

أطيل العامل ، أنحني ، أتوقف فجأة

أية وجوه احتفالية لديهم ، مبسوطة أيضا، بكماء

كم أن الأطفال الصغار يتنفسون بدعة في أسرتهم .

ملامح السئمين مثيرة الشفقة ، وجوه الجثث

البيضاء ، وجوه

السكيرين الكابية ، وجه المستمني الرمادي

و السقيم ،

الأجساد المشوهة في ساحات المعركة، المجانين في أجنحتهم ذات

الأبواب المدعمة، المخبولون الجليلون ،

الوليدون الذين اجتازوا لتوهم الأبواب ،

المحتضرون الذين سيجتازون الأبواب .

يلجهم الليل ويغلفهم ،

ينام المتزوجون بسكينة في أسرتهم ، هو يده على ورك

زوجته ،

هي ، يدها على ورك زوجها

تنام الأخوات جنبا الى جنب ، بحنان ، في أسرتهن

ينام الرجال جنبا الى جنب ، بحنان ، في أسرتهم ،

وتنام الأم مع طفلها الملفوف بقماطه بعناية.

ينام الأعمى، ينام الأطرش - ا لأخرس

ينام السجين في زنزانته جيدا، والابن الذي هرب من

منزل ذويه ينام ،

كيف سينام القاتل الذي سيشنق غدا

كيف يناكل الذي قتل ؟

وتنام المراة التي تحب من دون أن تحب

وينام الرجل الذي يحب من دون أن يحب

ودماغ رجل الأعمال ، الذي خطط طوال النهار ينام

وأولئك الذين يملكون روح العنف أو الخيانة،

جميعهم ينامون كلهم

أقف في السواد، خافضا عيني ، بالقرب من أولئك

الذين يتألمون

أكثر ، الاكثر اضطرابا،

أمرر يدي تكرارا على أيديهم ، بحركة ترتجي الهدوء

قليلا

يعود المضطربون ليسقطوا في أسرتهم وينامون

أثقب الظل ، الان ، تظهر لي كائنات جديدة

في الليل ، تسحب الأرض نفسها من أمامي

رأيت أنها كانت جميلة، وأرى أن هذا الشيء الذي لم

يعد أيضا جميلا هو أيضا

أذهب من سرير الى اخر، أنام قريبا جدا من النائمين

الآخرين الواحد بعد الآخر

أحلم بأحلام الحالمين الاخرين

وأصبح الحالمين الاخرين جميعهم .

لم أعد سوى رقص ، هيا اعزفوا ، تنتابني الحمى

وتدخلني في اعصارها

أنا الضحكة الابدية، انه

الشفق والقمر الجديد

أرى الحلوى التي يخبئونها أرى

اذهانا متوقدة ، أينما نظرت

أواريها ، وأواريها أيضا أعماق الأرض والبحر ، وهنا

حيث لم يعد أرضا أو بحرا

بالطبع ، يتقنون عملهم ، هؤلاء الميامون الالهية

لكنهم لم يستطيعوا أن يخفوا عني شيئا، لا يرغبون في

ذلك . لو كانوا يستطيعونه .

اعتقد انني رئيسهم ، وبذلك جعلوني صديقا

ويحيطونني ويقودنني ، ويركضون أمامي حين أمشي ،

ونتقدم الى الامام ، عصابة خسيسين جشعين في

موسيقى صرخات فرحنا. اصطفاق بهجتنا المجنون .

انني الممثل ، الممثلة ، الناخب السياسي

المهاجر والمنفي ، المجرم الذي مثل على كرسي الاتهام

الرجل الذي عرف الشهرة والذي سيعرفها غدا

انني اللجاج ، الرجل السوي ، الرجل الضيف أو

المنهك

أنا تلك التي تزينت والتى عقدت شعرها في الرغبة

وفى الانتظار

جأء عشيقي المتشرد ، وكان ليل

أيها الليل ، اجعل نفسك أكثف مرتين

استقبلني وعشيقي معي ، لأنه لا يرغب في أن

يتركني أرسل بدونه.

اتقلب عليك كما على سرير انقطع للظلمات

تجيبني تلك التي أناديها، وتأخذ مكان عشيقي

تنهض معي بصمت ، من السرير حيث كنا ممدين

أيها الليل ،آنت أكثر انسا من عشيقي ، كان جسده

مملا ولاهثا

لا أزال أشعر بالنداوة الحارة التي تركها .

أمررهما في الاتجاهات كلها

أرغب في لمس الضفة المعتمة التي تتابع سيرك في

اتجاهها

احترس أيها الليل ما الذي لمسني ؟

كنت أعتقد أن عشيقي كان رحل ، أم أنه والليل

شخص واحد،

أسمع خفقان قلب أرتمي وراءه أتلاشى في البعاد.

(2)

أنا قوس انحنائي الهابط نحو الغرب ، مرتخية

عضلاتي

يجتازني عطر وشباب وامتزج في أثرهما .

انه وجهي - اصفر ومجعد - الذي يرث وجه المرأة

العجوز

جالسة على كرسي من القش الواطيء ، وأرتق بعناية

جوارب حفيدي

أنا أيضا الأرملة التي لا تستطيع أن تنام ، والتي

تنتظر خارجا في ليلة الشتاء.

أرى وميض شرارات النجوم على الأرض الشاحبة

والمتجمدة

أرى كفنا ، أنا هو الكفن ، أكفن جثة وأنام فى النعش ،

أنه الظلام ، هنا تحت الأرض ، ما من شر أو ألم هنا،

انه العدم هنا. ثمة أسباب لذلك

(يتراءى لي أن كل ما في الهواء والضوء عليه ان يكون

سعيدا، من ليس في نعشه أو في ضريحه المظلم ، ليعلم

انه يملك ما يكفي )

(3)

أرى سباحا جميلا عملاقا يجدف بين الأمواج

شعره الداكن ملتصق ومملس على رأسه ، يمخر

العباب بباع جسور، يدفع نفسه بقدميه

أرى بياض جسده ، أرى عينيه الجسورتين ،

أحتقر الأمواج العنيفة التي تقذفه على الصخور.

ماذا تفعلين اذن أيتها الموجات الفظة المثلمة بالأحمر؟

أستقتلين الجسور العملاق ، أستقتلينه في بأس سن

رجولته ؟

يناضل طويلا ، بلا خور.

تتوارى الأمواج تحته ، تزعزعه ، تجرسه ، انه يقاوم

مادامت قوته باقية،

تلطخت الأمواج المرهقة بدمه ، تحمله ، تدحرجه ،

تؤرجحه ، تقلبه ، جسده الجميل مجذوب بالدوامة

المزوبعة، ممزق دوما على الصخور وعما قريب ،

ستختفي جثة البطل ، بعيدا عن الانظار.

(4)

استدير ، لكنى لا أنجح في النجاة

شيء مريب ، أحجية ، متغيرة الشكل ، لكن بدون أن

تصبح أوضح .

الهواء الثلجي المسنون كشفرة، يقطع الضفة ، تجلجل

مدافع الانذار

تغفو العاصفة ، يتقدم القمر مرتجا الى وسط اندحار

الغيوم .

انظر الى الباخرة الواهنة التي تصارع ، تلتوي

مقدمتها نحو الشاطيء ، أسمع انفجار الهيكل حين

تمسه

أسمع عويل الرعب ، تصبح ضعيفة شيئا فشيئا

لا تقدم أصابعي المتشنجة اية مساعدة

لا أستطيع سوى الركض عكس ، الأمواج

أدعها تغطيني ، وأدعها تتجمد فوقي

أستكشف مع الحشد الشاطيء ، من المسافرين كلهم

لم تجلب لنا الموجة واحدا عل قيد الحياة

وفي الصبإح ، أساعد على لم الموتى، وعلى تمديدهم في

صفوف محت احدى الحظائر.

(5)

اليوم ، هو زمن الحرب القديمة وهزيمة بروكلين

يقف واشنطن داخل الخطوط ، ينتصب وسط

التلال المحصنة، تحوط به مجموعة من ضباطه

وجهه بارد ومتعرق ، لا يستطيع منع دموعه المنهمرة

يقرب منظاره من عينيه باستمرار، خداه كامدان

يشاهد مذبحة شجعان الجنوب ، الذين عهد بهم

أهلهم إليه

واشنطن أيضا، في نهاية الأشياء كلها، عندما وقع

السلام ،

كان في صالة الفندق القديم ، ومن أمامه ، يمر

جنوده المحبوبون كلهم

اقترب الضباط ببط ،، الواحد بعد الاخر، من دون

أية كلمة

يمرر القائد ذراعيه حول أعناقهم ،يقبلهم على الخد .

يقبل الخدود الندية بسرعة، الواحد بعد الاخر،

يصافح الأيدي ويقول وداعا للجيش .

(6)

سأخبركم الآن ما روته لي أمي ذات مساء ونحن

نتناول طعام العشاء سوية

عن زمن كانت فيه ، تقريبا شابة، حين كانت تعيش

مع أهلها في بيت العائلة القديم

ذات يوم ، ساعة الغداء جاءت فتاة هندية حمراء الى

المنزل القديم

كانت تحمل على ظهرها حزمة من الأسل(**)

لاصلاح الكراسي ،

كان شعرها المتصلب ، اللامع ، القاسي ، الأسود ،

المنتشر بكثرة، يغطي نصف وجهها

كانت مشيتها طليقة ومرنة، وحين تتكلم يرن صوتها

بشجو

كانت أمي تنظر ببهجة وعجب الى الغريبة

كانت تتأمل نضارة وجهها، الذي يحملها

عاليا،كذلك أعضاءها المستديرة والملساء

وكلما نظرت إليها، أحبتها

لم تكن انئذ قد شاهدت جمالا وطهارة أكثر سحرا.

أجلستها على مقعد بالقرب من دعامة المدخنة،

وبدأت تطهو الطعام من أجلها

لم يكن لديها ما تعطيه لها، لكنها ستهبها ذكراها

وحنانها .

بقيت الهندية الحمراء الصبيحة بأكملها ، وذهبت

نحو منتصف ما بعد الظهيرة

أه، بدت أمي حزينة، لأنها تركتها تغادر

فكرت بها الأسبوع بأكمله ، وانتظرتها خلال أشهر

عدة

تذكرتها خلال شتاءات كثيرة، وخلال كذا صيف

لكن الهندية الحمراء لم تعد أبدا ، ولم نعد نسمع

سيرتها في البلاد كلها.

(7)

لحظة من حلاوة صيفية : ملامسة شيء لامرئي ،

مكيدة عاشقة بين الهواء والضوء

أحسد الحنو، مغمور به

وأرغب في أن أمتزج في غرام الهواء والضوء

أيها الحب أيها الصيف ،أنتما في الأحلام ، وانتما في ذاتي

الخريف والشتاء في أحلامي ، يعمل المزارع ليثري

تنمو القطعان والمواسم ، وتمتليء الاهراءات

تغوص العناصر في الليل ، تركض بواخر في الأحلام

البحار في البحر، يعود المنفي الى المنزل

يرجع الهارب سالما سليما ، يعود المهاجر بعد أشهر

وسنين

يحيا الايرلندي الفقير في منزل طفولته البسيط ، مع

الجيران الذين يعرف وجوههم جيدا

يستقبل بحرارة ، ومن جديد يذهب حافي القدمين ،

ينسى انه كدس ثروة

يعود الهولندي الى منزله ، والاسكتلندي والغالي

والذي ولد على ضفة المتوسط ، يعودون الى بلادهم

تدخل السفينة المحملة الى مرافيء انجلترا وفرنسا

وأسبانيا

يعود السويسري سيرا على قدميه نحو جباله ، ويعود

البروسي الى دياره ، والمجري والبولندي

يعود السويدي الى دياره ، يعود الدانماركي

والنرويجي ، المارون الذين يدخلون

والذين يرحلون

السباح الجميل التائه ، السئم ، المستنمي ، المرأة التي

تعشق غير المعشوقة، رجل الأعمال

الممثل والممثلة، اللذان ألقيا دوريهما واللذان ينتظران

دوريهما كى يبدآ

الصبي ، اتشاب ذو القلب المحب ، الرجل والمرأة ،

الناخب ، المرشح المنتخب والمرشح الخاسر.

الرجل الكبير الذي استشهد وذاك الذي سيكون

كبيرا، في أي يوم بعد يوم

اللجلاج ، المريض ، المخلوق السليم ، القبيحة

المتهم الجالس على كرسي الاعتراف ، القاضي الذي

قاضاه والذي لفظ القرار، المحامون الكثيرون ، هيئة

المحلفين ، الجمهور

الضاحك والباكي ، الراقصة، أرملة منتصف الليل

الهندية الحمراء

المسلول ، المصاب بالحصباء، المخبول ، الرجل الذي

خطأ

القبطان وكل من يجد نفسه بين النقطة هذه وهؤلاء

الذين في الظلمات

أقسم أنهم تعادلوا الان : لا يساوي الواحد أكثر من

الثاني

الليل والنعاس جعلاهما متشابهين وقد أصلحهما

أؤكد أنهم جميلون جميعا

كل نائم جميل ، كل شيء جميل في الوضوح الغامض

انتهت كل الأمور العنيفة والدموية. كل شيء سلام

السلام دائما جميل

ان معنى السماوات النهائي : سلام وليل

ان معنى السماوات النهائي : الروح

الروح جميلة دوما، تظهر تقريبا، تجيء أو تعود الى

الوراء ،

تخرج من الحدائق ذات آلاف الأجمة، وتعتبر نفسها،

ذاتها ببهجة وتفهم الكون بنفسها

كاملة وطاهرة هي الخصيات التي قذفت البذار

كامل وطاهر هو الرحم الذي تلقفها

نما الرأس بحسب النسب العادلة ، بتوازن جيد

والاحشاء والمفاصل متناسبتان جيدا، وبتوازن

الروح جميلة دوما

الكون في نظام مناسب ،كل شيء في مكانه

الذي وصل صار في مكانه ، والذي ينتظر سيأخذ

مكانه

تنتظر الجمجمة السيئة التشكل ، ينتظر الدم الضعيف

أو الفاسد

ينتظر الطفل النهم أو المسفلس طويلا، وطفل

السكير والسكير نفسه ، ينتظران طويلا

النائمون الذين عاشوا أو الذين ماتوا ينتظرون ،

والذين يقفون في الامام ، سيتقدمون عند حلول

دورهم ، والذين هم في الخلف سيتقدمون عند

دورهم

الاختلافات لن تصبح أقل اختلافا، لكنها ستنهار

وستتحد، إتها تتحد في هذه اللحظة بالذات .

(8)

النائمون جميلون جدا، يتمددون في عريهم

ينحدرون ، أياديهم متشابكة ، ينزلقون على سطح

الأرض بأسرها من الشرق الى الغرب

يتمددون في عريهم

الآسيوي والأفريقي يذهبان يدا بيد، الأروربي

والأمريكي يذهبان يدا بيد، العالم والجاهل يذهبان

يحمل الأب طفله ، صغيرا كان أم كبيرا، بين ذراعيه

بحب بلا حدود

تلمع جديلة الأم البيضاء على ساعد ابنتها الأبيض

أصلح ما أفسده الأيام

يمتزج صوت العبد بصوت سيده ، ويحيي السيد

مخدومه

يخطو المجرم خطواته الأولى خارج السجن ، يعود

المعتوه سليما، تهدأ آلام المرضى

يتوقف التعرق والحرارة ، تشفى الحنجرة التي كانت

مريضة

تشفى رئتا المسلول ، يحرر الدماغ الهزيل الذي كان في

شدة

تنثني مفاصل المصاب بالروماتيزم بسهولة، أكثر من

ذي قبل ، بسهولة جدا

تخف الضغوطات وتمضي الافرازات بحرية، تلين

أعضاء المشلول

كل الذين يتألمون من التورم والتشنج ومن عسر

الهضم ، يستيقظون وحدهم بصحة جيدة .

يمرون من خلال عزم الليل ومن خلال كيميائه

ويستيقظون

وأنا أيضا أخرج من الليل

أبتعد لوقت قصير.أيها الليل ، لكنني أعود إليك

وأحبك

لماذا أخاف أن أعترف لك إذن ؟

لست خائفا . لقدشكلت جيدا من خلالك .

بدون شك أحب نهر النهار الكريم ، لكنني لا أحمل

تلك التي سكنتها طويلا

لست أعرف كيف خرجت منك ، ولست أعرف

أين سأذهب معك ، لكنني أعرف أنني جئت سهلا

وسأرحل منك بخير

أرغب في أن أمضى لحظة مع الليل ، وسأستيقظ في

الساعة المحددة أرغب في ان أمفي النهار كما يجب ،

يا أمي وأن أعود إليك كما ينبغي .

*

ترجمة: اسكندر حبش
أعلى