مروة أميرة الجبال - أدب الفكاهة في التراث العربي

أدب الفكاهة من الآداب الشيّقة والممتعة فهي (نزهة النفس وربيع القلب ومرتع السمع ومجلب الراحة ومعدن السرور) ولا يمكن أن نتصور العالم من دون فكاهة أو نتصور الحياة عابسة مقطبة الجبين مكفهرة المظهر وإذا كان هذا مستطاعاً فمن الذي يطيقها ويرضاها. أن الحياة بغير ضحك عبء ثقيل لا يحتمل وكما قال الرسول (ص): (روحوا القلوب ساعة بعد ساعة فإن القلوب إذا كلّت عميت). فالفكاهة انتشرت علي مر العصور والتاريخ الأدبي لكل شعوب الأرض، وبينت ما لحاجة الفرد والمجتمع من أدب كهذا. ولأهميته في حياة الناس شغل العلماء والمثقفون بله الأدباء والشعراء، فهذا مكدوجل يقول: (إن الضحك يستخدم الأعصاب والعضلات فهو غريزة مهمة)، والضحك حسب ما توصل إليه العلم الحديث يعيد للإنسان أنسه وأمله وطبيعته، بل انه يسهم في شفاء بعض الأمراض التي أصابت عالمنا المعاصر، ولذلك كانت الفكاهة تطغي عقب المحن التي تمر بها الشعوب، فينتشر المسرح الكوميدي والشعر الساخر والمواقف الضاحكة مثل (البشاشة، البهجة، الجذل، السرور، الضحك، الطرب، الظرف، المزحة،.. الخ)، بل إنهم وسعوا من ألفاظ الضحك وأكثروها لتستوعب كل حالاته، فالابتسامة أول مراتب الضحك ثم الاهلاس ثم الهنوف ثم الافترار ثم الكتكتة ثم القرقرة ثم الطخطخة ثم الهزق ثم الهرزقة وهو أسوأ الضحك. وقد اشتهر كتّاب بالأسلوب الساخر كالجاحظ وأبي دلامة ومن مواقفه الساخرة دخوله علي المهدي بوجود وزيره حين وضعه المهدي في موقف حرج فقال له: (أبا دلامة لا تبرح مكانك حتى تهجو أحد الثلاثة) أي أما المهدي أو وزيره أو نفسه، فإن هجاء نفسه أقل ضرراً، فقال:

ألا أبـلغ أبـا دلامــة فليس = من الكرام ولا كرامة
إذا لبس العمامة كان قرداً = وخنزيراً إذا وضع العمامة
وإن لزم العمامة كان فيها = كقردٍ ما تفارقـه الدمامـة

بل إن الفكاهة كانت تفرض نفسها حتى علي الكتاب الذين التزموا بالجد وتناولوا موضوعات في غاية الجدية، كـ(عيون الأخبار لابن قتيبة)، (والإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي) كما أفردت كتب للفكاهة كـ(البخلاء للجاحظ) و(الظراف والمتماجنون لابن الجوزي) و(الفاشوش في حكم قراقوش لابن مماتي) واشتهرت قصائد في الهجاء كـ (القصيدة الدبدبية لعلي المغربي):

أي دبدبا تدبدبـي أنـا علـي المـغربـي

أنا الذي أسد الثري في الحرب لا تحتفل بي
ولا عرفت النحـو غير الجر بالمـنتصـب
ولا عرفت من عروض الشعـر غيـر السـبب

إلا الفكاهة لم تجر علي طبيعتها دائماً بل كانت أحياناً تستخدم للأغراض غير الترفيهية عن النفس، كأن تكون لأغراض الشكوى أو التهكم والسخرية اجتماعياً أو سياسياً، فمن الشعر الذي نظم للشكوى في إطار الفكاهة للشكوى من الفاقة والتخلف كقول الشاعر المصري الشهير بابن الأعمى:

دار سكـنت بها أقل صفاتهـا = أن تكثر الحشرات في جنباتها
وبها ذباب كالضباب يسد عين = الشمس ما طربي سوي غناتها
وبها من الجرذان ما قد قصرت = عنه العتاق الجرد في حملاتها

وفي مجال الفكاهة الاجتماعية كثر الأدب الفكاهي وحمل علي عاتقه إبراز عيوب حالات اجتماعية أو طبقات اجتماعية معينة، مسلطاً عليها الأضواء. كما نجد في المسرح الموليري الذي أبرز التصرفات المعيبة للبرجوازية في (البرجوازي النبيل) وسخر من نسائهم (المتحذلقات) ومن طبقة علماء الدين المنافقين في (طرطوف). ونجد الهجاء يقوم عند العرب بإبراز عيوبهم الخلقية وأشهرها البخل، وأشعار البخل كثيرة وطريفة منها قول ابن الرومي:

يقـتر عيسي علي نفسـه وليس بباقٍ ولا خالد
ولو يستطيع لتقتيره تنفس من منخرٍ واحد

وقول الآخر: سيان كسر رغيفه أو كسر عظم من عظامه

والشعر السياسي يحفل بالفكاهة، إذ إن الشاعر يهرب من بطش حاكمه باستخدام الفكاهة التي تصل أحياناً إلي حد السخرية والتهكم، فيطرح قضاياه طرحاً يدعو إلي الضحك. وليس يخفي علي السامع ألم الشاعر الممض:

خليفة مات لم يحزن له أحد وآخر جاء لم يفرح به أحد
ومن ذلك قول البهاء زهير هاجياً ابن صاعد الفائزي:
لعن الله صاعـداً وأباه فصاعـداً وبنيـه فنـازلاً واحداً ثم واحداً

ولم تقف الفكاهة عند حد الأدب الراقي الذي تكتبه الطبقة المثقفة أو الطبقة الأولي في المجتمع- كما يقولون- بل إن الفكاهة لتأصلها وتغلغلها في بنية كل المجتمعات أصبحت ضمير الأمة ولسان حال الناس البسطاء، فتكلمت عن همومهم اليومية ومعاناتهم الصميمية، فكانت شخصية المضحك الذي يصنع المفارقات. وتدور حكايات البطل الشعبي الأكبر جحا في إطار المعاناة من الفقر ولوم الزوجة دائماً، وسيطرتها علي كثير من المواقف، وجحا شخصية مركبة وليست بسيطة. وقد طرحت شخصية جحا لتتكلم عن هموم العالم، وهي متكررة في كل الأمم والشعوب كالترك والفرس وحتى الغرب، فإن المهرج (جوكر) إنما كانت من اشتقاقات جحا أو بديلاته، وقد عنيت الدراسات المقارنة بهذا عناية كبيرة.

وبعد، فإن أدب الفكاهة من الآداب المهمة والحية في حياة الإنسان، وهي تفرض علينا أن نرفدها وننميها لأنها شكل سامٍ من أشكال التعبير عن هموم الناس والترويح عنهم وتخليصهم من الهموم وأعباء النكسات.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى