بيرا كُرَّا - زريبة الفلسفة

ليس الفحم والحطب، بل الكتب النادرة والقيمة. ليست أغلاط البيع والشراء وإنما الحوار في الفلسفة والمنطق والفكر. ليست كتل الأخشاب، بل ديكارت وفوكو وابن سينا ونيتشه.
الزريبة، يا له من اسم، غريب، وغير مُتوقَّع، بالنسبة لمنتدى فلسفي؛ فماذا وراء هذه التسمية؟
إنه عصر أحد أيام نهاية العام 2016، وها أنا على بعد دقائق من اكتشاف هذا المنتدى الذي يحمل هذا الاسم الغامض، كأنَّ الفلسفة ليست غامضة كفاية!
انتهى بي الوصفُ إلى زرائب الحطب، في حي العباسية الأمدرماني وأدركتُ مغزى الاسم. تساءلتُ في نفسي: “ أما كان بالإمكان العثور على مُسمَّى آخر؟ ولماذا يعمد هؤلاء إلى إقامة منتدى فلسفي في هذا المكان من الأساس؟”.
روائحُ الحطب، الدروب المُتعرَّجة حملتني لـ ( زريبة الأستاذ). المحاضرة على وشك أن تبدأ، عنوانها (السياقات التاريخية لنشأة الدين).
يا له من مكان لإقامة منتدى فلسفي، بسيط، مفتوح، ومُدهش، مُدهش بالأخص، الدهشة هي الدافع الأقوى للتفلسف. لم يكن الحضور أقلَّ إدهاشاً عن المكان، ولا أقلَّ بساطةً وانفتاحاً، لا يجمعهم شيءٌ سوى حُبِّ الحكمة. بينما كان الأستاذ، بترحابه الفيَّاض، يُضفي على المنتدى طابعاً عائلياً: “ الابن خالد تورين، رجاءً، قدم المحاضرة”.

إرهاصات البداية
بعد هذه المُحاضرة بنحو أربعة أعوام جلستُ للأستاذ متوكل علي محمدين، صاحب الزريبة ومؤسس المنتدى، خريج الفلسفة بجامعة الخرطوم، والذي بدأ العمل في الزريبة بعد استقالته من وكالة سونا للأنباء في بداية عهد النظام البائد. ناولَني الشاي وقال: “في البدء كان اسم المنتدى (نادي الكتاب). عقدنا الاجتماع التأسيسي منذ العام 2014م، وحاولنا تسجيله لدى مُسجِّل الجمعيات الثقافية، ولكن كعادة النظام البائد، لم يكن ليسمح بتسجيل جمعية كهذه. لذلك، لجأنا إلى اتخاذ زريبة الحطب خاصتي مقرَّاً لإقامة الندوات. أقمنا ندوات فلسفية وفكرية مساء كلِّ سبت، ومن ثم عُرف المنتدى بزريبة الأستاذ. في السنوات الستِّ الماضية قدَّمنا ما لا يقل عن مائتين وأربعين محاضرة، في الفلسفة بشكل أساسي، وفي العلوم الإنسانية الأخرى والطبيعية. عرضنا أفلاماً وليالي موسيقية، وسواها من المناشط، ما أكسب الزريبة شهرة طيبة داخل السودان وخارجه”.
يقول محمدين: “بعد الثورة، عُدنا نُرتِّب أوراقنا لتسجيل المنتدى، ونطمح إلى تأسيس مكتبة تُناسب قيمة الزريبة باسم (نهلة)”، ويضيف: “لدينا مقترحات ومشاريع كبيرة لكنها في رحم المستقبل”.
الفردوس المفقود
قلت لعبد الله إدريس المتخرج في فلسفة النيلين: ماذا وجدت هنا؟
أجابني بفرح غامر: “كل شيء. هنا تجد ما لا تجده في الجامعات، نيتشه بتمرُّده، إدوارد سعيد بنقده المُر للسلطة وموقف المثقف منها، هايدغر، فوكو وغيرهم من الفلاسفة. الزريبة هي فردوسي المفقود. فيها أدركتُ أنّ في الحرية والفكر الحر يكمن الوجود”.
غموض وإثارة
كان عطا برشم خريج الخرطوم يقلب أوراقاً، ربما سيقدم محاضرة اليوم. قال لي: “زيارتي الأولى للزريبة كانت مختلجة بالغموض، والإثارة، ما سمعته كوّن في ذهني تصوراً مُسبقاً لها، أستاذ الفلسفة والسايكولوجي، ومؤلف خمسة كتب، في زريبة لبيع الفحم؟! تسللنا وسط تلال الأخشاب، عبر دروب صغيرة، متعرجة، على حافة خور أبو عنجة، وبعد أن عبرنا عدداً من الزرائب وجدنا زريبة الأستاذ. فضاء المعرفة الرحب والنقاش المتبادل بين الجميع الذين لا تشغلهم سوى الحقيقة”.
منصَّة
لاحظت حضوراً للمرأة أيضاً، وكانت (فاطمة صبي) تُرتِّبُ المكان. علَّقَتْ: “تعرَّفْتُ على الزريبة بواسطة أحد أصدقائي. أعتبرها منصَّة حُرَّة للنقاش والحوار حول الفلسفة والنظريات الأخرى. تمثل أيضاً حراكاً معرفياً مفقوداً. مثَّلت لي إضافة كبيرة ومحفزاً لمزيدٍ من الاطلاع”. هناك أيضاً البساطة: (زير الموية، العنقريب، حلة العدس) وفرادة أستاذ مُتوكل وتواضعه.
تحليق
في زيارة تالية قابلتُ (خالد تورين) الذي أكد أن الزريبة ليست تجربة عادية؛ فهي اندماج كياني مع التجربة نفسها. من الصعب فصل الذات عن الموضوع، وأي حديث عن هذه التجربة هو مجرد تمثل لها. الزريبة ليست مجرد منتدى عادي تُقدَّم فيه محاضرة أسبوعية، إنما هي فضاء كامل وممتلئ، سديم من مُركب ومتشابك من علاقات الصداقة والحب والحوارات والأحلام الممزوجة بالفكر والفلسفة والفن والشعر والنقد، فضاء حرٌ وتلقائي يسبح ويحلق فيه الجميع بطريقة حرة وتلقائية، إنه البيت الآمن لكل من يريد السفر والترحال إلى الذات واكتشاف دروبه ومكنوناته. مكان حيث يصير ممكناً كسر القيود والحدود والركض فكرياً والرقص فلسفياً وفنياً.
أمسكت يُسرى أحمد، طالبة الطب والمهتمة بالنسوية، بالكلام: “يتيح منتدى الزريبة مناقشة قضايا المرأة ودورها الفكري وواقعها الاجتماعي، ويتبنى رؤية نقدية لراهن المرأة. يتجلى حضور المرأة في الزريبة بعدد المحاضرات التي تناولت موضوع النسوية. منتدى الزريبة بسبب استقلاليته الواضحة أصبح أقوى منتدى فكري موجود حالياً. المواضيع التي يتم طرحها في الزريبة لا تُطرَح في المنصات الأخرى”.
ملجأ
هنا تدخلت (مُنى حمدي) بعد أن انضمَّت إلينا: “كنتُ أبحث عن مكان ألجا إليه يضيف إليَّ معرفة، دون جدل بلا طائل، في أحد الأيام اصطحبتني إحدى صديقاتي للمنتدى، وقد أدهشتني بساطة المكان وتواضعه. لكنني انخرطتُّ في ذلك الطقس لأنني شعرت بأنني وجدت ما كنت أنشده. في الزريبة، هناك المعرفة والمزيد من المعرفة. أعتقد أن ما يُميِّز المنتدى هو البساطة، وأعتقد أنه يحتاج إلى مكتبة كبيرة. هذا ما ينقصه”.
ولادة عسيرة
أغلق (يس السوار بخيت) جهازه الرقمي وفتح قلبه للكلام: “وسط هذه الأجواء الملغمة بكراهية الفلسفة، رسمياً، بسبب الحرب التي كانت تشنُّها الدولة على مشروعية السؤال، وشعبياً، كمحصلة لسيادة أنماط التفكير الديني، وُلِدَتْ الزريبة”. وأضاف: “التحاقي بها من أهم الأحداث الحياتية في تاريخي العقلي. وجدت فيها الواحة الوريفة التي يمكن لأفكاري أن تزدهر. وأرى أن ذلك يعود لسببين: أولاً، أن الزريبة رفضت أن ترهن نفسها للدولة وتكون أحد أجهزتها الأيديولوجية، والثانيً، أن الزريبة نجحت في جعل الفلسفة وسيلة تمدّ الإنسان العادي مثلي بوسائل تساعده على مقاربة إشكاليات حياته اليومية فلسفياً، بعكس النمط السائد في التفكير الذي ساهم في تكريس الفلسفة باعتبارها حقلاً يخصُّ الأكاديميين”.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى