محمد لكنيزي - قراءة في الإضمامة القصصية ( إن أباكم كان راميا) للدكتور احمد رزيق

القصّــة القصيـــرة هي نصٌّ إبداعيٌّ سردي ممتع، فيه يكون القاصّ في مواجهة مباشرة مع الآخرين، وعليه أن يتقن صنعته جيدًا. فالقصة الناجحة هي التي تصل إلى النّاس دون حواجز وعقبات.
أخذت القصّــة القصيــرة من القصيدة شعريتها وموسيقاها وقوتها، وأخذت من الرّواية الحدث والشخصيات، ومن المسرح الحوار والصراع.
فالقصّــة فن اللحظات المفصلية في الحياة؛ لا تتناول الحدث من خلال مساحته الواسعة وزمانه المطلق، بل تختطف اللّحظة كومضة، أو كسهم ينطلق سريعا إلى هدفه وبكل قوة.
تُعتبر المجموعة القصصيـــة "إِنَّ أَبَاكُـــمْ كَـــانَ رَامِـــيًا"، للدكتور "أحمــد رزيــق" والتي صدرت طبعتها الأولى سنة 1990م، عن دار قرطبة للطباعة والنشر -الدار البيضاء- من الأعمال السردية التي حِيكت أحداثها بطريقة إبداعية تنِمُّ عن حدس فنيّ راقي؛ سواء من حيث سرد الأحداث وتعاقبها، أو من حيث اختيار الشخوص وربطها بالفضاء الزمكاني المناسب.
فبمجرد إلقاء نظرة على فهرستِ المجموعة القصصيـة، يتضح أنها تعالج جملةً من النصوص الإبداعية التي تختلف مضامينها ودلالاتها؛ من قبيل: (مـن مذكـرات منجمـي، رحلـة الأرض، غربـاء، التواطـؤ، مواجهـة، حالـة توحـد مـع صهيـب، يـا شهـداء اسقـونا مـن كوثركـم، إن أباكـم كـان راميـا، ديـر البلـح والناهـب الأفعوانـي).
وإذ أدلي بقراءتي المتواضعة في القصـة القصيـرة الأولى من المجموعة والتي تحمل عنوان: "مـن مذكـرات منجمـي"؛ للدكتور الذي تتلمذت يومًا من الأيام على يده، وقطفت من ثمار علمه، فسيرة الرجل تتحدث عنه؛ سخي العطاء، محبّ لمهنته، ووفيّ لعاداته النبيلة [...].
من خلال ملاحظة العنوان؛ "مـن مذكـرات منجمـي"، المذكرة الأولى؛ يتضح جليًا أن القصّة ستتحدث عن مذكرات شخصية ما داخل منجم، وهذا ما نستشفه منذ الوهلة الأولى لقراءة افتتاحية القصّة، حيث يقول: "بعد أن نأخذ العدة، ونثبت خوذاتنا، نتحرك متوغلين في المنجم عبر نفق ضيق ..." ص: 13، بعد هذا الاستهلال يشرع القاصّ في وصف الخوف الذي يَعْتَريهِ وهو يلج ذلك النفق الطويل والمظلم من أجل الحصول على كسرة الخبز النقية.
بعد هذه الافتتاحية؛ يَبدأ الكاتب في وصف ظروف العمل والعُمّال، وصعوبات العمل التي تواجههم، لكونها تفتقر لأبسط شروط السّلامة الصّحيّة؛ إذ يقول: ".. لم نكن نرى ما مصدر الحبور الذي ينتابنا ونحن نسرع للخروج، أهو جذل الإفلات من فك الموت الذي يترصد كل عامل في الباطن؟ أهو جذل النجاة مما كان يخبئه لنا قلب المنجم؟ أهو الانتقال من الباطن إلى السطح حيث الأهل والأحباب...؟" ص: 15، كلّ هذه الأسئلة والتي لا يستطيع تحديد مصدرها، سيجيب عنها من خلال المذكرة الثانية؛ والتي شَكَلت مُنعرجًا في حياة تلك الشّخصيّة، فبعدما صوّر لنا الجانب المظلم والبائس من داخل المنجم، سينتقل لنوع أخر من الوصف؛ هذا الوصف مرتبط بمغامرات الشّخصيّة الرّئيسة وطاولة الشرب التي أضحى يَعْتَكفُ عليها بمعية رفقاء العمل، هنا تبرز جمالية الوصف؛ حين يتخلَّص السارد من القهر والاستبداد والتّعسّف والحزن الذي يعيشه بشيء أخر يُعطي لحياته قيمة مضافة، يقول: "أطلب جعة ثانية، أتفُلُ على الموضوعات والشكليات وأفرغ محتوى القنينة في الباطن، ... يتكرر الطّلب، تجتمع الشلّة، فندخل ومن جديد في جوّ الصخب والصّياح والضّحك المستمر..." ص – ص: 16 – 17، لقد أصبح الخمر رفيقه ورفيق مخيلته التي تراوده بمجموعة من الأحلام الوردية الزّائفة، فكيف ما كان الحال وجد ضالته في قنينة الجعة التي تخلصه من عذابه الذؤوب بالمنجم.
المذكرة الثالثة: استهلها بالحادثة الأولى، ربما قد تكون حادثة عمل داخل المنجم؟ وفِعلاً هي كذلك؛ فبعدما أخبرهم كبار المسؤولين بأن هناك جائزة مغرية رُصدت للأفراد الذين سيستخرجون أكبر كمية فوسفاط من المنجم، بدأت تتسارع حدة الحفر والنهش من أجل الحصول على تلك المكافأة، أو الحصول على رضا كبار المسؤولين، مما خلف حادثة لأحد العّمال بالمنجم، هنا يَكشِف الكاتب نوعًا آخر من الظلم والاستغلال الذي يعيشه عمال المناجم؛ يقول: "تأخرت سيارة الإسعاف، وربما لن تأتي أبدًا، التباطؤُ وغياب الإِمكانات ...، سلوك ألفناه منذ دخلنا زمن المغامرة بحثًا عن اللقمةِ المرَّة وصورة بشعة من الصور التي تطاردك في كلّ مكان، تُشعرك دومًا أنك الضّعيف أمام الأكابر لا حولَ لك ولا قوّةَ، الأعزل لا سلاح لك تجابه به تواطؤًا فضيعًا يستهدف كينونتك في كل ثانية." ص: 23، فهذا التهميش لم يتوقف عند حدود المنجم والعّمال، بل طال حتى حدود المستشفى من خلال تصوير الإهمال والعشوائية التي تُسَيرُ بها الأمور من طرف الأشخاص الساهرينَ على سلامة المواطنين وصحتهم، هنا ينفعل السارد بوصف تلك الطبقة الارستقراطية (النبلاء) التي سحقت نظيرتها البروليتارية الكادحة، من خلال اغتصاب حقوقها، وسلبها حريتها؛ يقول: "...كم من عاملٍ نقلوه لمنجم آخر، كم من عاملٍ أوقفوه يومين أو أكثر، كم من عاملٍ هددوه بالطرد حين يسعى لدى الكبار لمعرفة السبب، يُجيبه الوسيم وهو ينفث دخّان سيجارته الفاخرة، يطرد به رائحة الباطِنِ ويستفز به هذا الصاعد من القعر: ألا تعلم أن للحيطان آذانًا يا ...". ص: 24.
تنتهي المذكرة الثالثة على وقع حكاية من الهامشِ؛ تتضمن حوارًا خمريًا شيقًا بين شخصية "علال" الذي يقترح على "مصطفى" ممارسة طقوسهم الخمرية بعيدًا عن الهرج والضوضاء (الملهى / النّادي اللّيلّي)، والنزوح إلى الغابِ حيث هناك حفيف الأشجار ومناجاة العصافير وأنغام تنبعثُ من آلة التسجيل التي تنسيهم مرارة الاستغلال والقهر داخل المنجم، من خلال مقطوعات مجموعة "ناس الغيوان"، هنا يُصّور السارد لحظة الانتشاء والضّعف والنّشوة العالية التي جعلت "علال" يعترف "لمصطفى" بخيانة زوجته له؛ يقول: "لم أعد أطيق العيش في جو تنثه الخيانة، فالحياة هناك جحيم لا يطاق؛ خيانات في المنجم يا مصطفى، وخيانات في البيت، وخيانات وخيانات ... سأقتلها ابنة الكلب الحبس؟ الحبس لا يهم، المهم أن أقتلها وكفى ...". ص: 25 – 26 . وبهذا يُسلط القاصّ الضوء على القعر الدّاعر ويكشف بعض الطابوهات الاجتماعيّة من خيانة ودعارة ...إلخ، ومن هنا تبرز حكاية الهامش بقوله: "...علال غارق في هامشه، وأنا غارق في هامشي، ومن لم يغرق في الهامش غرق في الحاشيةِ". ص:29.
المذكرة الرابعة: ابتدأت كذلك بالحادثة رقم: 7؛ مما يُؤشر على أنها قد تتحدث كذلك عن حادثة. تُستهل هذه المذكرة بالمعاناة التي يقضيها العّمال في قلب الجبل وصراعهم المرير من أجل الحصول على لقمة العيش، يقول: "... كنا كدودة نهمة نفذت إلى جذع نبتة ضخمة، تبحث عما يكفيها ويحميها من يد مسغبة تدق المعدة وتطرق الأمعاء..." ص: 33، بعد برهةٍ؛ يحدث أمر لم يكن في الحسبان، فينهار الجبل، يقاوم السارد الموت باستماتة بالرغم من تصويره لهول المشهد وفظاعته، يقول: ... الأرجل لم تعد قادرة على حمل هذه الأجساد المرتعبة، ما أفظعه من إحساس يشعر به المرء وهو يفر من الموتِ راكضًا ..." ص: 34، يمكن أن نطلق على هذا المشهد الأخير عنوان: "نجاةٌ من موتٍ محقق"، فبعد أيام قضاها السارد في المستشفى مكسور العظام طريح الفراش، اقتنع بأن تكون هذه الحادثة منعرجا في حياته، من خلال رفض الخنوع والاستغلال والقهر مرة أخرى كيف ما كان الحال...؛ يقول: "...كانت منعرجا صفيت فيه حسابي مع عصر قميء، اسْتُحمرنَا فيه حتى النّخاع ولم نجرؤ على فتح فمنا ولو بصرخة احتجاج واحدة، كل ما قدرنا عليه هو أن نجثو على الركب، ونكرع كؤوس الجعة الرخيصة في شراهة الأغبياء، ونحكي ثم نحكي ... قلت يومها؛ من هنا ينبغي أن يبدأ الرفض، لَنْ يُغَيِّرَ الله مَا بنا حَتَّى نُغَيِّرَ مَا بِأَنْفُسِنَا..." ص: 35.
سلمت أناملك أستاذي؛ سواء من حيث كيفية توظيف تقنيتي الوصف والسرد، أو من حيث الاختيار الأنيق والمنمق للكلماتِ.



Aucune description de photo disponible.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى