ناصر سالم المقرحي - أجمل الشعر أقصره

على ذات النسق الذي اعتاده ومعه قارئه يطالعنا الشاعر فرج أبو شينة في أضمومته الشعرية الأخيرة التي تجيء بعد مجموعة دواوين أو – أرتكابات وفقاً للشاعر نفسه وكما يحلو له أن يسميها – هي , الصعود إلى أسفل ويستبدل العالم ثيابه ونزاهة السم واهتداءات غزال يركض وأخذتني ومرافعة ضد النوم , وعبر مجموعته الأخيرة التي نحن بصددها والتي مهرها بأسم . . لأن السرة محكمة الغلق . . يطالعنا بحزمة من القصائد القصيرة جدا والتي هي عبارة عن خلاصة أو عصارة تأمل عميق في الحياة وتدبر في الأشياء من حولنا , الأشياء التي تلتقطها عين الشاعر اليقِظة , والتفاصيل الدقيقة والعابرة سريعة التحول التي تقتنصها قريحته في حين يغفل عنها الآخرون ويتجاوزونها , ذلك التأمل المفتوح على كافة الأحتمالات والسُبل وليس التأمل الممنهج والمرتبط بنسق معين , حيثُ صاغ الشاعر هاته العُصارات والأقتناصات في عبارات نقية وجُمل شعرية رائقة ومفردات بسيطة وبأسطر قليلة منكمشة حتى أن بعضها لا يحمل إلا كلمة واحدة بل أن الشاعر جنح إلى أبعد من ذلك عندما خصَّ كل سطر بحرف وحيد عن طريق تقطيع الكلمة الواحدة , مُحملاً جُمله وكلماته بالعديد من الأفكار والمقاصد والرؤى والمضامين والدلالات الإنسانية , تارة بصوت جهور عالٍ وتارة بصوت مضمر , وفي كل الأحوال بجُمل بسيطة , موحية ومُكثفة ورائعة تمتح من شعرية غامرة وأرضية حسَّاسة .
وتأتي هذه المجموعة الفقيرة في كلماتها والغنية في معانيها والتي كُتبت ما بين عامي 2003 – 2005 كي تؤرخ لمرحلة من مراحل تجربة الشاعر , ضمن منشورات مجلس الثقافة العام .
هيَ إذن ومضات يطلقها الشاعر وشرارات يقدحها ويمضي في حال سبيله , غير أنها لا تدع من يقرأها يمضي لحال سبيله عندما تشتبك معه وتشغل حيز من تفكيره وتوقظ في ذهنه أسئلته الهاجعة والمؤجلة , فعلى قصرها الشديد تختزل القصائد معاني واسعة ومقاصد إنسانية وأفكار تنويرية مجالها الذي تتحرك فيه وبراحها الذي تجوسه هو العدالة والحرية والخير والمساواة والأنتصار للجمال , ولأنها كذلك لابد من أن تأسر القارئ وتشده إليها باهتماماتها الواسعة .
قطرة وراء قطرة يتشكل نهر الديوان وغير بعيد عن خصائص الحكمة تتحرك هذه الألتقاطات متخذة من القول والصياغة الصوفية طريقا لبلوغ القارئ الذي يعول عليه الشاعر كثيرا ولا يتجاهله كشأن بعض الشعراء الآخرين ولا يتعالى عليه إذ يلمِّح إلى فطنته التي قد تتفوق على فطنة الشاعر نفسه بأكثر من مناسبة فها هو يقول مثلا في قطرة بعد أن يُعدد جملة من الأنتظارات مثل .
جميعهم ينتظر
الوردة
أنف الشاعر
المتهم شفاء العدالة
والفتاة
استثمار جسدها
وأنا أنتظر
قارئا جيداً .

فالشاعر دائم البحث عن قارئ يشركه في مشروعه الذي يباشره ويتقاسم معه زاده .
ومثلما احتوت القصائد على صور شعرية طريفة وغير مطروقة واستثمار جيد لآلية التشبيه والمجاز , انطوت على جُرأة وتجريب لغوي , هذا إن لم نقُل لعباً , تمثَّلّ أساساً في المزاوجة البكر وغير المسبوقة ما بين المفردات بغاية اقتناص معنى جديد وتعبير مغاير تقف وراءه مخيلة نشطة , أو ذاك ما نُطلق عليه اصطلاحا , تفجير اللغة , واستخراج إمكاناته الكامنة فيها كمون النار في الحطب , والذهاب بها إلى أقصى ما تحتمل مثل , تتلعثم الصورة وتشهق الحقيقة واللحظة مكللة بالثقوب , تاركاً للقارئ تصور كيفية تلعثم الصورة والطريقة التي تشهق بها الحقيقة وتخيل اللحظة وهي مكللة بالثقوب .
وفي الوقت الذي ألقت فيه بعض الومضات بحمولتها كاملة لمَّا اتخذت من الوضوح والتقريرية التي لا تخلو من الشعر وسيلة لمخاطبة المتلقي , أنحاز بعضها الآخر إلى ما نستطيع أن نطلق عليه , التشفير اللغوي والرمزية العالية عبر تكتيكات شعرية وبواسطة بعض الإمكانات التي تُتيحها الأبجدية مثل التورية والمجاز والأستعارات بشكل لا يدع للقارئ مجالا للتكاسل , إذ لابد لهُ للفوز بالمعنى غير منقوص وناضجا كرغيف يخرج لتوه من الفرن أن يفكك ما تم تدوينه بالحبر السري ما بين السطور وإلا لن يحظى إلا بالقشور من المعاني والسطحي من الدلالات .
ويُفصح الشاعر عن هدفه منذ البداية من خلال التوطئة التي جاءت على لسان . . سي جي يونغ وهو حكيم صيني على ما نتصور مع أن الشاعر لم يُعرِّف بهذه الشخصية التي تقول . . إنَ الهدف الأساسي من الوجود الإنساني هو إضرام النور في عتمة الوجود الفسيح .
من هذه المقولة كانَ المنطلق ومبتدأ الرحلة التي لن تتوقف قبل أن يُفرغ الشاعر كل ما يؤرقه من أفكار وأسئلة ونتائج تأملات لعله بذلك يؤدي واجبه المنوط بهِ كإنسان ويُنير ولو ركنا صغيراً من أركان هذا الوجود المظلم – بحسب الحكيم الصيني – حيثُ ترد لفظة النور في متن القصائد بأشكال مختلفة , فحيناً هي النور وحينا هي الشعاع وحينا هي الشروق أو اللمعان .
وفي مجال الكلمة السابحة في فضاء الحكمة والتصوف نقرأ جُملاً مثل ثمة وصف لا يوصف , و واحد يغريه القلم , آخر تغريه الممحاة , و تعبت الأشياء \ من الأشياء \ تعبَ الجميع \ من الجميع \ ولم يتعب الموت , و لأن الفكرة نفحة \ يستنشقها الجميع , و ثمة هواء آخر \ تُعلق عليه الرئة آمالها .
ومن المقاطع التي لا يمكن أن ندرجها تحت مسمى الحكمة ولا النزعة الصوفية ولا نجد لها وصفا محايدا ولا نستطيع إلا أن نُسبغ عليها صفة الشعر الخالص الذي لا يخالطه شيء ولا تشوبه شائبة نقرأ .
لأن السماء غيمة
الديانات تهطل
لأن الطفل سؤال
لا يكف عن السؤال
لأن اللحظة مكللة بالثقوب
الزمن يخر
لأن السُرة مُحكمة الغلق
لا يمكننا الأعتماد على أمهاتنا
أي يستحيل العودة والرجوع إلى حيث الطمأنينة والأمان , وهو المقطع – أي الجملة الأخيرة في النص – الذي اتخذه الديوان عنواناً لهُ , والذي يبدو غريبا دون شطره الآخر المكمل له .
أخيراً وفيما يُشبه الدعوة المفتوحة للتفكير والتمعن والغوص في ما وراء الظواهر وقبل أن يودعنا , يتحفنا الشاعر بأضمومة من الأقوال التي تؤطرها كلمة . . لنفكر . . التي تم تثبيتها ببداية النصّ .
لنفكر . .
في وسيلة
تحمي القطط
من الجرذان
في مرآة ناصعة
ينقشع فيها
ظلام الأقنعة
في حفنة ود
تطمر الهوة التي بيننا .

ودعونا هنا كقُراء لا نغفل عن المعنى الباطن الذي ذهب إليه الشاعر عبر هذه المقاطع النثرية التي كان من الممكن أن تستثمر القافية والغنائية مثل الرباعيات والثنائيات التي ينتجها بعض الشعراء ولكنها لم تفعل ألا مع كتابات الشاعر مؤخراً ولكن دون جرس أو قافية .

عبر هذه المقاطع تسرب ما أراد الشاعر توصيله إلى قارئه , ذاك القابع في الجانب الآخر من العملية الإبداعية التي لا تكتمل دائرتها ولا تنغلق إلا باجتماع عناصرها الثلاثة وهي المرسل والمستقبل والخطاب الذي يتوسطهما , وبغير اكتمال واجتماع هذه العناصر والشروط من المتعذر أن تتحقق العملية التواصلية , هذا إذا ما أستثنينا بالطبع الوسيلة الإعلامية سواء كانت مسموعة أو مرئية أو مقروءة التي تصهر كل هذه العناصر في بوتقتها.


أعلى