د. سامي عبد العال - قصة الـ " ما بعد " The post

ليس هناك أبرز من تَعلُّق الإنسان بالجديدِ، دفعاً لوطأة المألوف أحياناً وكنوعٍ من احراز التّميُز في أحايين سواها. لكنَ لأنَّ الجديد قد يُمثلّ المفاهيم المنقُولة إلينا ( عبر النصوص الكبرى لفلاسفة الغرب)، فإنّه يضعنا تحت طائلةِ الاستفهام. حيث أمسينا نفكر داخل لغةٍ لم تُنحت مصطلحاتُّها المعاصرة من خلال الفلسفة والمعرفة الحية. وبخاصة إذا كانت المصطلحات هي كلمات وليدة العصر المتفجر كمُناخٍ لا نُجانِب انغماراً في تياراته ولو بشظف الكيان، حتى إذا استقرت هذه المصطلحات فلا تجد واقعاً إلاَّ بين عبارات التداول الشائع وحسب. إذ ليس من مرجعٍ ولا من سياقٍ تاريخي يأخذ الكلمات الجارية لأنْ ترسُو إلى شاطئ بعينه.

هكذا كان شتات المصطلحات عارماً في الثقافة العربية الراهنة، فصيّغُها تُردَّد على الألسُن بينما لا يقابلها حقلٌّ دلالي واضح، مما يدعونا للتساؤل: هل ستكون الكلمات المعاصرة لدينا رسائل لغوية دون عنوانٍ؟!

بهذا الصدد، ربما تُستعْمّل المصطلحات ثقافياً كطَّنْطَنَةٍ فكريةٍ وكقُماش مزركش إزاء المُعتاد. تكشف اللغة العربية ما وراء الجذر المعجمي للطَّنْطَنَة كظاهرة صوتية. تأتي بمدلول صوت الطُنْبور، ضرب العود ذي الأوتار وتستعمل إزاء الذُّباب وغيره. ويمتد الإطار الدلالي للكلمة مع أكثر من سياقٍ. يُقال: طَنْطَنَ طَنْطَنةً ودّنْدنَ دَنْدَنةً بمعنى واحدٍ، ورجلٌّ ذو طَنْطانٍ؛ أي ذو صخبٍ. الطَّنْطَنَةُ أيضاً الكلام الخفي(1). إنّها هَدرٌ سريٌ لمعانٍ لا تذهب بعيداً وراء الكلمات أكثر من النطق.

ينسحب ذلك على المقطع "ما بعد" post كحالة خاصةٍ في أغلب مجالات الفكر والثقافة. لقد أصبحَ لازمة لغويةً، كالزائدةً(الدودية) مع الآراء والدراسات دون أصالةٍ مفهوميةٍconceptual في السياقات الوارد فيها. على سبيل المثال تواترَ في الدراسات العربية القولُ كثيراً: ما بعد الشمولية السياسية، ما بعد الربيع العربي، ما بعد الإسلاموية، ما بعد الدين، ما بعد الثورات، ما بعد الدولة، ما بعد الاعتقاد، ما بعد الحقيقة. وبتنوع التخصصات المعرفية، انتشر هذا المقطع( ما- بعد) كالنيران في الهشيم. هكذا رُبَّ طَّنْطَنَةٍ لغويةٍ - بهذه الشاكلة- هي رطانة ترتبط بالأفكار التي تخفي قضايا أعمق.

إنها تُظْهِر بعضَّ الغسق حيث نمُر مروراً بكائياً على ما تهدّم؛ أي ظاهرة الأطلال بالنحت العربي القديم. تلك الكلمة المُشبّعة بأطياف نفسيةٍ ووجوديةٍ. الأطلال تسري في مجتمعاتنا العربية حُباً وشعراً وميراثاً ضائعاً وسلفاً صالحاً وعصراً ذهبياً وحياة مفقودةً.

الطَّلَل ما تبقى شاخصاً من آثار الديار(2) ، محلّاً لِطّيْفٍ نفسي يرسم خيالنا رغبةً في العودة والحنين. وهو موطن عاطفي لزرف الدموع على ما مضى. أمّا الجانب الانساني منه فيُعدُّ جزءاً من وجودنا الحميم إذ نعيش على امتداده داخلنا. كأنّنا نسترجع مستحيلاً: "ليت الزمان يعودُ يوماً"، على ذات المنوال قد نلْعقّ حاضراً مأسُوفاً عليه" ليت الشباب يعودُ يوماً". ودون المنوال تغني أم كلثوم" ... وعاوزنا نرجع زي زمان قول للزمان ارجع يا زمان"!!.

في ثقافتنا المتداولة تجاهلنا كل ذلك وقفزنا نحو الأمام مع( غيرنا الفلسفي)، وهُم ليسوا نحن بحالٍ من الأـحوال، حيث نشأ الـ" ما بعد" تأصيلياً في الفكر الغربي نتيجة الممارسة التاريخية والتراكم المعرفي. وإذا ورد المقطع ( ما بعد) فهو يستند إلى دلالة وسياق معروفين. فهناك "ما بعد التاريخ"post history عقب نهايته كما يعتقد فرنسيس فوكُوياما وبرنارد لويس، وتوجد "ما بعد الحداثة" post modernism عند جان بودريار وفرانسو ليوتار وريتشارد رورتي وجوديث بتلر وإيهاب حسن. هناك "ما بعد الدين" post religion مع فيورباخ وماركس وفردريك نيتشه، وهناك "ما بعد الواقع المادي" post material reality عبر العالم الافتراضي عند دون آيد وفلاسفة تكنولوجيا الديجيتال. وهناك "ما بعد الفعل"post action حيث العقل التواصلي في فلسفة هابرماس، و"ما بعد عنف الهُوية" post violence of identity في تحليل أمارتيا صن وجيتاري اسبيفاك و"ما بعد الكولونيالية" post colonialism لدى إدوارد سعيد و هُومي بابا وأعلام النقد الثقافي المعاصر.

والملاحظة اللافتة للنظر: هل هذه التقاسيم- بلغة الموسيقى-على الـ" ما بعد" تصبحُ واردة دون تمييز في مجالنا العربي؟! ولاسيما أننا مازلنا نعزف عزفاً منفرداً على أغلب المستويات، سواء أكنّا أفراداً أم طوائف أم جماعات. بتلك الزاوية نحن نمثل فعلاً نشازاً في تاريخ الإنسانية الراهن رغم تراثنا الروحي واللغوي الفريد. لم نُصِغ اختلافنا سلْميّاً عبر "لحنٍ عامٍ" هو دولة مدنية أو هو نظام سياسي متعدد الرؤى والممارسة أو غيرهما كإنتاج لمعارف متطورة. إذ أن المشكلات لدينا لا نعثر لها على حلٍ إنما الحلول نصنّع لها مشكلات، الدولة نضعها من حيث تنتهي إلى الاستئثار والطائفية. ندخل إلى التاريخ من نهايته مع أنَّ أبوابه ومقدماته معروفة. الـ "ما بعد" post في التداول الثقافي العربي هو بتر التواصل مع الواقع وتناقضاته. لهذا كثيراً ما يورطنا الخطابُ اليومي في اشتباكه الحواري مع الآخرين، حين نرفص انصاتاً رحباً للمتحدث لنصفَعه بعبارة: "هاتْ من الأْخِر"!!

إذا لم أكن متفائلاً، ربما لا يتوقف الـ" ما بعد" في الكتابات العربية عن التناسل إلى قيام الساعة. فيقال ما بعد القيامة، ما بعد الحساب والجنة والنار، دون حد فاصلٍ يوقف تناسل الـ "ما بعد". أهي عدوى المصطلحات العولمية والتي طغت على كل أنماط الخطاب والدراسات في المعرفة الإنسانية، كلما شاع إحداها نال ترديداً عربياً كأنّه لم يُطْلق إلا لنا؟ هل العقل عندما لا يجدُ فعلاً حقيقياً، يترّحل من موقعه باستعارة خطاب مغاير؟!

من جهةٍ أخرى، لم يعش الفكر العربي الـ "ما قبل" before كي يردد الـ "ما بعد" post بنبرته الغربية المُتداولة. ولم يخُض العرب تجارب المجتمعات الحديثة من تطور سياسي واجتماعي واقتصادي وفلسفي. وهو ليس كذلك حتى يعتبرها مصْلّاً شافياً لتجاوز أزماته العصرية، تلك الناتجة عن واقع راهنٍ ليس له فيه إلاّ انفعالاً عن بُعدٍ. وهو أيضاً لم ينْبُت حُراً خلال حقائق حية حتى ينزلق إلى ما بعدها. هكذا بضربة خاطفةٍ قد نعالج واقعنا المركب: لئن كان ثمة إرهاب ديني من الجماعات الإسلامية، يُقال ما بعد الحركات الدينية. ومتى وُجد استبداد سياسي واجتماعي تلُوك الألسن علامة الاستفهام: كيف سيأتي ما بعد الديكتاتورية. وعندما تدهسنا الدولة القومية أو الطائفية بإطاراتها البلهاء، نلهث بحثاً عن( ما بعد القومي)، ما بعد الطائفي.

أعني أنه قد يوجد هناك دول عربية تزعم كونها قومية، بينما تمثل تابوتاً لكلِّ من يختلف ومن يغاير توجهاتها. وأعني أنَّ الدولة العربية تسير في مُناخ ديني، لكنها بالوقت نفسه قد حجبت التاريخ الإنساني ومن خلاله يتم حجب تاريخها الخاص، مما أوقعها في حبائل وقضايا تأتي من الزمن القادم والماضي. وأعني كانت للدولة قوانين ودساتير بيد أنَّها عطلت فاعلية أي قانون وأي دستور. وبالتالي: كيف سيكون تعبير الـ" ما بعد" منطقياً؟ هل سنبدأ من جديد أم كانت تلك "الدول المرِحة" صحيحةً، فنطرح مصطلح (ماذا بعد) كأننا من هواة التزلق على الجليد؟

اللسان العربي المعاصر يُكْثر من الـ" ما بعد" على غرار المأثورات الدينية. وأخشى كون انتشار الـ "ما بعد" انزلاقاً لتجاوز الأطلال من غير معرفتها وسبر أغوارها بدقةٍ. حيث تجسد ثقافتنا العربية بكائيات مختبئة في اشكال اصطلاحية وسياسية ومعرفية. ذلك لتعميم نبرة المصالحة والندم والاستغفار الدنيوي. فحينما لا نستطيع إعادة الماضي، نهرب إلى المستقبل هروباً أخروياً، بنفس شعائر الحنين الماضوي إلى ما فات( أي نردد: وماذا بعد).

الظاهرة الجديرة بالاعتبار: كيف يفكر عقلٌ كهذا في ذاته اصطلاحياً، في قوانينه، في آلياته؟ إنْ لم يكن ثمة تاريخ معين لملابسات التفكير وظروفه سيكون هذا التفكير إمّا بكاءً على إطلالٍ هي مقابر لذواتنا، وإمّا ممارسة للعادة الرثائية لغة وثقافة في مستقبلٍ خُرافي التحقق. في الحالين ستكون الـ" ما بعد" مقطعاً لا مبرر له. فدونما أنْ نترجم ثقافتنا بإبداعات جديدةٍ وحرة مع كلِّ ترجمة للنصوص الوافدة لن نفهم أيَّ مصطلح!! أي ما لم نفكر بأصالة فلسفية سيكون الوافد لا محل له من الإعراب.

اختصاراً، المصطلحات هي سياق وتاريخ وتحول، كما أنها لا تُطلق عبر تراث الغرب الفلسفي اعتباطاً. فقد نشأت من رحم القضايا الفعلية وعبر سياقاته المتصلة والتي تنتقد مساراتها نقداً جذرياً. يؤكد عالِم اللغة إميل بنفينست إنَّ معنى أية صيغة لغوية يتحدد بمجموع استعمالاتها وبأنماط الارتباطات مع الصيغ الأخرى(3). فالحداثة كانت لها قضاياها السياسية والفكرية التي أفرزها التاريخ قبل إطلاق ما بعد الحداثة. لقد كان ثمة عصر للتنوير أحيى الآداب الكلاسيكية واعاد النظر في التراث الإنساني، وأخذ ينشر – كما يذهب ارنست كاسيرر- قيماً فلسفية مرتبطة بالإنسان والمجتمع والحقيقة، وتميز بالتجاور الدلالي لتعبيرات أخلاقية وسياسية وفلسفية للفكر. إن هذه العلاقة وذلك التجاور سمتان مميزتان لثقافة الرينيسانسRenaissance وموقفها العقلي الكلي(4).

ذلك بعد أنْ قاست أوروبا ويلات الصراعات الدينية والمذهبية. ولم يكن التسامح tolerance - مثلاً- وليد اصطلاح خارج سياقه الديني والاجتماعي، كما لم يكن موضوعاً هلامياً يُقارب أبعادّه دون الوقائع التي خلَّفت خراباً. إنَّه – أي التسامح- كان ضرورة حياتية لا ترفاً لغوياً(طَّنْطَنَة). ضمن هذا حلَّل جون لوك وفولتير معانيه واستعمالاته المتنوعة، تمشياً مع الظروف التاريخية للثقافة الأوروبية. وما جري على التسامح جري على فكرة القانون وبناء المجال التداولي والأخلاقيات العامة التي صاحبت ما هو حديث.

الأمر عينه مع الدولة– الأمة. فإلى أنْ تبلورت فكرتُها سياسياً، طرحت الفلسفات الأوروبية آفاقها وأُطرها على نحوٍ تأسيسي نقدي. ليس ممكنا التّقول-أيا كان القول- حول اسم الدولة وممارساتها بينما الواقع تغالبه قبيلةٌ أو طائفةٌ أو جماعةٌ أو نِحْلّة. جاء المجالُ العام للمفاهيم السياسية في أوروبا مضماراً لاختبار الآراء والأفعال وأنظمة الحكم. كان بمثابة المجال الواضح لكونه عصياً على الاحتواء والتملُّك. إنَّه أوروبياً ضربٌ من التقنيين الحقوقي الذي يخضع لمشاركة جميع أطياف الكل الجمعي دون تفرقةٍ( جميع عناصر المجتمع).

من ثم نشأت تصورات السيادة والسلطة والاختلاف والتنوع، فكانت الليبرالية تكملّة جينية (بحرفية الهندسة الوراثية) genetic supplement لجسد التطور السياسي. وما كان للمجتمع الأوروبي أن يقبلها خلافاً لما يتأقلم مع تاريخه. بالتالي سيصبح الأخيرُ، أي التاريخ الأوروبي، قابلاً للنمو مع مستقبله المنظور. الدولة حداثياً على خط متصل مع تمثُلات الذات والآخر والارادة بالسلب والإيجاب معاً. كل عسف متجسد في وضع سياسي ينفذ إلى الكيان الاجتماعي العام من هذه الناحية، وكل تطور سيصب في الاتجاه نفسه. وعليه سيكون معروفاً إين يكمن الخلل. إنَّه في مؤسسة السلطة التي قد يحتكرها الحكام، لذلك قامت الحداثة الغربية على عزل السلطة عن متناول الأفراد وعن تمثلاتِّهم الأكثر انفلاتاً.

عندئذ حينما نسمع مصطلح " مابعد الحداثة" postmodernism سندرك مبرراته وكيف سيُفهم من زاوية أو أخرى. سنعرف أنّه قائم على مهام تحويلية transformational معينة، على تاريخ يعبر تدريجياً عن نفسه. وأيُّ اسهامٍ فلسفي يُنّظْر له لا يقف في فراغٍ، بل يستند إلى تراث فلسفي وإنساني. وبالرغم من الانتاج المعرفي الذي يفسح دلالَّة ما بعد الحداثة في الفلسفة والأدب وفنون العمارة والسينما والأزياء والاقتصاد إلاّ أنَّه نال نقداً مستمراً إلى الآن. لقد قيل -على سبيل المثال- إنَّ "ما بعد الحداثة" مصطلح خادع وإنَّ تكراره المفرط وهم كما أشار كرستوفر نوريس أثناء مناقشته لآراء بودريار ورورتي في سياق السياسة والخطابات المصاحبة لها (5). وأكد هابرماس على عدم اعترافه به معتبراً إياه لوناً من العدمية الفكرية أساءت فهم آراء نيتشه وهيدجر، وأنَّ الفيلسوفين الأخيرين كان لهما دورٌ بارزٌ في تقويض مفاهيم العقل والميتافيزيقا الغربية(6). وأعلن هابرماس صراحةً أنَّ الحداثة مشروع في أطوار التشكُّل الغربي حتى اللحظة، فهي لم تكتمل بعد. وأنه من الخطأ القفز إلى الأمام معتبرين كون الحداثة قد استنفدت إمكانياتها المعرفية والفلسفية.

لنقْطع من ثمَّ أنَّ الـ" مابعد" ليس انتقالاً كما قد يتبادر إلى الأذهان. ليس انتقالاً من ... إلى، كما لو كانت ثمة قطيعة معرفية( فجوة فارغة) بين عصرين، بين مرحلتين(7). إنَّ استعمال الـ "مابعد" قد يشي بهذا الحذف البينيinterstitial deletion، ولكنه لا يُعتبر كذلك ولن يكون على الأقل بالنسبة لأسسه ومرجعياته. لأنَّه دوماً عبارة عن استنفاد لإمكانيات المرحلة السابقة بلا نهاية، استنفاد يعرفنا نقاط القوة وأوجه التحول تجاه المستقبل. في تاريخ الفكر الغربي ما برح التقدم تصاعدياً، شبكياً، افتراضياً. رغم مواقف الرفض لهذه الفلسفات أو غيرها التي تزعم هيمنة المثال أو الغاية على التاريخ.

وبحسب عقلانيته النقدية critical rationality، رأى كارل بوبر إزاء الموروث السياسي للغرب أنَّ الشمولية مبنية على مفاهيم الخطية والنزوع الكلي خارج التاريخ بدءاً من أفلاطون حتى هيجل مروراً بلاهوت السلطة في العصر الوسيط. ومع ذلك طرح اسهامّه كمحاولة لمعرفة: "تحول المجتمع الغربي بكل قواه السحريةmagical forces إلى مجتمع مفتوح open society يحرر القُوى النقدية للإنسان. فصدمة هذا التحول أحد العوامل التي تكشف الحركات الرجعية reactionary التي تهدد الحضارة والعودة إلى النزعة القبلّيّةtribalism . حتى أنَّ ما نسميه نزعة شمولية تنتمي إلى تقاليد اجتماعية وسياسية معينة، وأنّها بقدر ما هي قديمة تعتبر حديثة كحال الحضارة أيضاً"(8).

لقد أوضح بوبر معنى لطيفاً: أنَّ السياسية مضمار ممتد الجذور، ليست أزياؤه القشيبة بأكثر نقاءً من أسماله البالية. وأننا لن نفهم هذه بدون تلك مهما بلغ اتساع الهوة بينهما، فعلى أساس المقارنة ستبدو أوجُه التشابه والاختلاف واضحةً.

في حين أن مسارات الثقافة العربية تتماشى مع "عودٌ على بدءٍ" وليس الـ" ما بعد"، لأن كلَّ" ما بعد" يتمترس عبر ذاكرتنا في كل" ما قبل". هذا التعبير الأمني العنيف والخشن. والأمر هنا أعمق وعياً مما نتصور وأقرب تجلياً مما نتوقّع. ما لم نُراجع صور مقام الألوهية وتحولاته وسلطته التي توجد في السياسة وداخل أفق الفكر لن نستطيع تفسيراً للمسألة ولا تحولاً لها. وهو مقام تسرب في جميع تفاصيل الحياة لدي الإنسان العربي، من خيمته إلى امرأته، إلى كلامه حتى سلطانه ورموزه. يضع العربي نفسه سيداً للكون وإنْ كان جاهلاً، الحاكم بأمره، الوصي على العرش الإلهي في الأرض. يحتكر اتصاله بالله طفلاً وصبياً وكهلاً ونعيماً مُقيماً قبل الانتقال إلى جواره في السماء. هذه البصمة الوراثية واضحة، لكونه خليفة بموجب الجعل الأول مع بدء وجود الإنسان. وقد أجَجَ رجال الفقه وناصحو الملوك والسلاطين هذا النزوع( التبر المسبوك في نصيحة الملوك على حد عبارة الغزالي في كتابه الحامل للعنوان نفسه)، معتبرين أنفسهم الوسطاء وعاقدي المهمة التاريخية بين الخالق وخلفائه.

مع العلم أنَّ الجعل جاء بإنسان القرآن في اهاب المجهول. صيغة الغائب الذي لم يحضر حواراً بين الملائكة والله. لكنه أمسى مجعُولاً أرضياً وبالتالي يصح لكل الناس أن يتمتعوا بهذه المكانة التي لا يوجد بها تمايز بالضرورة. فظن العربي دون سواه كونَّه الجاعل الأول، المتقدم الأول، بواسطة أنماط حياته المختلفة. وإذا لم نقُم بتأويل جمعي لهذه الواقعة البدئية والنصية لن تُمْحى سرقة سلطة الإله من ذاكرة الثقافة العربية. ذلك كي نفكك التفاف التفكير وتفرِيد طياتّه التي تشبه طباقَ الزمن المتراكم في جميع المجالات.

والمصادفة هنا معبرة أكثر من الرأي الحاسم، كانت إشارةُ يوسف إدريس دالةً بعنوان إحدى رواياته" جمهورية فرحات". هذا الكائن البشري الهش الذي سكنته السلطة لمجرد كونِّه أحد أفرادها الممارسين لوظيفته المحدودة ولحياته العامة. إنَّه (فرحات) فرد أمن يعمل احتياطياً في البوليس، غير أنَّ إدريساً ككاتب مسرحي وقصصي يصف تجليات هذه السُكْنَى داخله كالتالي: " تحس أنَّه لا ينظر إلى الناس بقدر ما ينقُر ويلسّع"... حيث " حمل صوته ما لا يطيق وهو يشخطّ ويهدر بكلماتٍ غير مفهومة كأصوات الرصاص..."(9).

ثم ينتقل الخيالُ الروائي إلى الجذر التاريخي للمسألة" وضحتْ أمام عيني ملامحه التي كان يلفها ضباب الرهبة والسلطة، ورأيتها ... بأنفه الكبير كأنف رمسيس وجبهته الحادة العالية كجبهة منقرع، وشيخوخته التي تنم عن تاريخ حافل في خدمة البوليس إذ لابد قضى أجيالاً حتى يصل إلى رُتبة الصُول"(10).

إنْ كان هذ حال كائن احتياطي للسلطة، فكيف بحاكم أو خليفة للمسلمين؟ كيف لحاكم في عصر التحولات والتقنيات الديجيتال؟ إنّه ظلّ الله في أرضه يسوس الناس بسلطانه بلا حسيب ولا رقيب كما قال أبو جعفر المنصور(الخليفة العباسي) يوم الوقوف بعرفات. يوم القيامة النُسكية، يوم الحشر من كل عام أثناء تأدية مناسك الحج. ولا يفوتنا أحد التفسيرات وراء إطلاق اسم عرفات على هذا الجبل المقدس. قِيل هو مكان تعارف فيه" آدم وحواء" حينما نزلا إلى الأرض.

إذن الزمان العربي دائري عكس مسار التاريخ. مسألة البدء بالجعل الإلهي انصرفت إلى أشكال حدية ملتوية. لم يكن التدرُّج قانونَها إنما الإطلاق الوجودي والثقافي سياسةً ومعرفةً وممارسةً اجتماعية... فهل هناك من "ما بعد"؟!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- ابن منظور، لسان العرب، الجزء الثاني، تحقيق نخبة من الأساتذة، دار المعارف القاهرة، د.ت. ص2710.
2- المرجع السابق، الجزء الثاني، ص2697.
3- يوضح بنفينست: "أنه في حالة وجود مورفيمات(وحدات كتابية) متطابقة identical morphemes مع وجود معان مختلفة، لابد أن يسأل الإنسان نفسه ما إذا كان ثمة استعمال يدور حوله أيُ معنيين أم لا. ولن تُعْطى الإجابةُ مقدماً أبداً. تُطرَح الإجابةُ بعد دراسة دقيقة لكل السياقات التي قد تظهر فيها الصيغة اللغوية. ولا يحق لنا افتراض أية إجابة سلباً أو ايجاباً على أساس الاحتمال فقط".
Emile Benveniste, Problems in General Linguistics, University of Miami Press, 1971. P 249.
4- Ernst Cassirer, The Individual and the Cosmos in Renaissance philosophy, Translated with an Introduction by Mario Domandi, Dover Publication, Inc., Mineola, New York, 2001.
P 74.
5- كريستوفر نوريس، نظريات لا نقدية: ما بعد الحداثة، المثقفون، وحرب الخليج، ترجمة عابد اسماعيل، دار الكنوز الأدبية، بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1999. ص ص 71- 95.
6- Jurgen Habermas, The Philosophical discourse of Modernity: Twelve Lectures, Translated by Frederik Lawrence, Polity Press, 1998. P86.
7- مصطلح القطيعة المعرفية epistemological break ناقشه بتلك الخلفية كريستوفر نوريس عند باشلار وفوكو وأهم التحولات التي شهدها ضمن ما بعد الحداثة. Christopher Norris, Deconstruction, Postmodernism and Philosophy of Science: Some Epistemo- Critical Bearings, Cultural Values, Volume 2, Number 1 1998.PP 30-35
8- Karl R. Popper, The Open Society and Its Enemies(Volumes 1and 2), New York, Fifth edition 1966. P11.
9- يوسف إدريس، جمهورية فرحات، الأعمال الكاملة(الروايات) الجزء الأول، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى 1987. ص820.
10- المرجع السابق، ص 821.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى