عبد الرحيم التدلاوي - أهمية الحكي في رواية "الثائر" لمحمد الغربي عمران .

يمكن القول: إن رواية "الثائر" لمحمد الغربي عمران، في طبعتها الأولى عن دار مركز عبادي للدراسات والنشر سنة 2014 في 398 صفحة ، باليمن، هي:
رواية رحلة بحث.
رواية مغامرات عجيبة.
رواية حرب.
رواية انتقام.
رواية اعتقال سياسي.
وهي رواية تعرية بالأساس.
إنها جماع كل هذا مادام أنها تنشد الحرية.

قمر الشخصية الأساسية، ومصفاة السرد، ومحور الحكي، شخصية ملتبسة، تعيش في المنطقة الفاصلة بين الذكورة والأنوثة، فهي لا رجل ولا أنثى، إنها خنثى كما خبرها شيخه، ونطق بها يوم أزهق روحه، وعلمتها الأرملة المطلقة حين وضعت يدها على عانته فأذركت أنها تحمل لسانا مقطوعا. التباسها يخلق فوضى التجنيس، وفي الوقت ذاته، نراها تتثور على وضعها بثورتها على منظومة قيم عجفاء في زمن حرب هي الأخرى ملتبسة؛ فهي حرب ضد الاستعمار، وفي الوقت نفسه، هي صراع بين طرفين متناقضين، يحملان مشروعين مختلفين، نتائجه المتبدية في النص، كارثية على الإنسان المسالم والأعزل، لأنه ليس سوى حطب لها. فكل طرف، رجعي أو تقدمي، لا يهتم بالإنسان، بل جل اهتمامه منصب على الانتصار؛ وليحقق ذلك، يقذف بالجميع في نار الحرب المستعرة، ويظل هو في منأى من لهيبها.

وترتسم ثورتها انطلاقا من صورة الغلاف الذي يقدم لنا صورتين لذات واحدة وقد مزق سيف بعف ذلك الوجه الجميل فشطره نصفين: نصف أنثوي، ونصف ذكري، مما يدل على الشرخ الذي ظل قمر يحمله طوال أحداث الرواية، وخلال مسيرة خوض تجارب أرغم عليها، وقذف في أتونها مكرها؛ وكان في كل ذلك، يسعى إلى إثبات حضوره، وبصم خصوصيته.

وقبل الحديث عن الحكي وأهميته في خلق التواصل، أشير إلى أن الرواية قد محتنا فرصة تلمس جسد اليمن، بقراءة مرتفعاته ومنخفضاته، بشم نسيم وديانه وعبق غاباته، بسماع هدير بحره وسمائه، لقد جعلتنا نتلمس خريطة هذا الوطن بالتعرف على مدنه، وبالأخص: صنعاء وعدت، وتعز، والتعرف على قراه وصحرائه وسواحله. وكانت لصعاء الحضور الأقوى، فقد كان جسدها شبيها بجسد امر’ تتعرى شيئا فشيئا.

ولأن الحياة هي تواصل مستمر، فإن الرواية لا يمكن أن تكون إلا من خلال هذا التفاعل البناء بين طرفي العملية التواصلية، الحاكي والمستقبل.
ولأنها رواية متعددة الأصوات، فإننا نجدها بوليفونية، ينهض بالحكي فيها أشخاص كثر، وإن كانت شخصية قمر هي المحور.
تقول الرواية في الصفحة 290: كيف يكون الإنسان إنسانا دون سماعه لغيره؟ ما نحن إن لم نسمع ما يعتمل حولنا؟ أن تفقد صديقا معناه أن تفقد طعم الحياة، ما طعم الحياة دون حكايات؟
لا تستقيم الحياة دون حكي، فقد خلقنا لنحكي، لأن الحكي تعبير عن إنسانيتنا، تعبير عن حضورنا في ها العالم، تأكيد على كينونتنا وحقنا في الحياة الكريمة الحرة والعادلة.

وفي الصفحة 309، يعود الحديث عن الحكي من جديد: ترى من اخترع الحكي؟ماذا لو أن الناس لم يتعلموا اصواتهم؟ كيف ستكون الحياة ؟!او أن الجميع يهجرون أصواتهم أو يفقدونها، ما جدوى العيش بدون صوت؟!
هي أسئلة حارقة ومهمة، فلا حياة دون حكي، ولا قيمة لها دون صوت، وما التواصل إلا أصوات تؤكد على حضور الإنسان، ومشاركة أخيه في هذه الحياة.

إن الحكي هو بمثابة تعر، وكشف للدات، بغاية بلوغ حالة التماهي مع الآخر، لكن الخداع يقتله، فالسارد حين يكتشف أن المستمع غشاش يحس بالندم، لأن فعل التعري لم يكن مناسبا؛ بمعنى أنه لم يحقق الهدف الأسمى المتمثل في الاندماج مع المتلقي، لأنه صار فضحا وفضيحة، فضحا للمستور، وفضيحة أخلاقية وسياسية وثقافية، لكونها تقود إلى كشف المتخفي لمن يترصده. فقمر بحسن نية قام بإعطاء قائة أسماء من يقفون ضد المستعمر، لقد خدعه المتلقي، ولم يكن يعرف أنه أذن المستعمر البريطاني إلا بعد فوات الأوان. ثم إنه أدرك هذه الحقيقة بواسطة الحكي، فقد أخبره أحد بحقيقة الجاسوس الذي لا يفارق السجن، ينتقل من عنبر إلى آخر، لجمع المعلومات من أفواه السذج.

رواية التعرية:
لا نقصد تعرية الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي عاشته اليمن طوال سنوات حروبها ضد المستعمر والرجعية، والذي نراه مازال متواصلا حتى اليوم، بل قصد تعرية واقع الدوائر المغلقة، والتي دخلها قمر مكرها لضعفه أو لهروبه من مخاطر محدقة؛ فواقع تلك الدوائر مفجع حقا، لأنه يحمل مؤشرات نفاق المجتمع ككل؛ هذا المجتمع الذي يظهر غير ما يبطن؛ يظهر ورعه، ويخفي فسقه، فالقصور كما عنابر المدارس والسجون، تكشف شذوذ روادها، وما قمر، وهو اسم يحمل الذكورة والأنوثة معا، إلا ضحية هذا الواقع العفن، كان من نتائجه، ضياع فحولته، فشيخه الذي التقطه من الجامع، مارس عليه شذوذه، وجعله يحمل بصمة الاغتصاب طوال حياته، ومن هنا مبرر ثورة شخصيتنا التي انخرطت في حروبها بكل جموح، وكأنها تريد الانتقام من الكل.

كما أنه كشف وقع النساء من خلال معايشته لانشغالاتهن، وبوحهن، إذ كشف ميولات البعض منهن السحاقية، كتلك الأرملة التي عبرت لقمر عن ميلها له كامرأة، وعشقته كأنثى لا غير.
قمر، إذن، من الأبطال الذين شوهتهم الطبيعة وأيدي البشر ورسمت بهم عاهات تحملوا وزرها كل حياتهم وقاسوا منها الأمرين حتى أنهم من فرط معاناتهم حاولوا الهروب منها بالانتقام والانتحار.

رواية الانتقام:
ما عاشته شخصية "قمر" من أحداث مؤلمة، تسببت في ضياع هويتها متعددة الأبعاد، دفعها إلى محور آثاره، بالتطهر منها عبر قتل المتسببين فيها، ومنهم: صاحب السوط، وشيخ القبيلة، وشيخ المدرسة، والصديق، وكل من تسبب في أذى، وما انخراطها في الحرب إلا رغبة مضمرة في الانتحار، لم تسع إلى بطولة، ولا إلى نيل أوسمة، وما الخطبة التي ألقتها يوم تتويجها، والتي جاءت في الفصل الأخير من الرواية، لخير معبر عن ذلك، لقد كانت خطبة تطهر، والتخلص من أدران ما لحق بها من أوساخ.

ويمكن عد الفصل المعنون ب: "حامل السوط" ص68 مثالا للتخطيط والتصميم والعزم مع التنفيذ للثأر، ففيه أحداث مشوقة زاد من حدتها الطقس الذي ساهم في نجاح المهمة. كما أن سيور الحذاء ذات أهمية في تصفية الخصوم، وبخاصة الشيخ والعظمي.

رواية بحث:
يقف شيخ القبيلة وراء تشرد قمر، وضياع أسرته، فبعل تسلطه، ونسج الحكايات عن الأم، وإضرام النار في البيت، كانت الرواية، وكانت أحداثها المتعاقبة والمشوقة، والغريبة.
فقد عاش قمر، نتيجة ذلك، مغامرات كثيرة، وتقلب في أمكان كثيرة، وعاش ظروفا قاسية، وخبر الحياة، وأدرك كنهها، وتذوق مرارتها، وأحس بخيانتها له، وهي في كل ذلك كان كأنه يعيش لعنة عدم استجابته لنداء بنت الصحراء التي دعته إلى البقاء صحبة جماعتها المتلائمة والسعيدة.
بحثه عن أسرته لم يسفر عن نتائج ليظل متنقلا بين الأمكنة، يتذوق تجارب مختلفة، ولن يكون اللقاء بالأم إلا في نهاية العمل الروائي، وكأنه نهاية لرحلة العذاب، وبلسم للجراح النفسية والجسدية التي ألمت به، ووشمته بحضورها اللاينسى.

رواية حرب:
في كثير من محطات العمل نجد أنفسنا أما قاموس حربي يشمل العتاد، والخطط، والتنفيذ. وهو أمر طبيعي، نظرا لكون الرواية ترصد مما ترصده، حياة اليمنيين إبان الاستقلال، والصراع الدائر بين الملكيين والجمهوريين، كل طرف يستنجد بمن يتلاءم وأيديولوجيته. وقمر عاش في خضم هذه الأحداث الجسام، وكان له دور مهم في دحر الملكيين بالرغم من أنه عانى لعنة السجن من طرف الجمهوريين الذين اتهموه بموالاة الملكيين.

رواية سجن:
عاش قمر ظروفا مأساوية وهو يبحث عن أسرته، لكن أفظع ما عاشته يتمثل في تجربة السجن. لقد رصد معاناته، وسجل طرق التعذيب التي تعرض لها، وسلوك السجانين في الحط من كرامة السجناء وسعيهم إلى تحطيم إراداتهم، بهدف إركاعهم. وقد سعى قمر إلى الهروب من هذا الجحيم، ونجح في المرة الثانية، وكانت أحداث الهروب في مستوى أفلام الهروب السينمائية، من مثل: الهروب الكبير.
تمكن قمر من النجاة من جحيم التعذيب ليدخل منطقة الأحداث الغريبة، والمغامرات العجيبة.

رواية مغامرات عجيبة:

يعد الحكي حياة ثانية تمكن المرء من إدراكسر الحياة، وإغناء الرصيد المعرفي بشأن غموض الكائن البشري. وقد عملت إحدى المومسات المتقاعدات من ري ظمأ قمر بهذا الخصوص، مرة بطريقة غير مباشرة، وأخرى بطريقة مباشرة بعد أن سهل عليه الأمر أحد أصدقائه؛ هكذا نقرأ عبره، حكايات ذات أو لكونها وق المعتاد، من مثل قصة المرأة الشهوانية التي تتحول إلى كائن جامح لحظة تحرك شبقها.

كما أن قمر عاش حكاية غريبة تتمثل في تجمع صحراوي يعيش بعيدا عن الحضارة بهدف تشكيل جيش من المتعاطفين القادرين على زرع المحبة في النفوس، جيل جديد يحمل فكرة سامية تتطلب الكثير من الوقت وطول النفس. يتزوج أفرادها من كائنات الريح، ليلدوا هذا الجيل الجديد. بيد أن قمر سيفضل عيش المغامرات رغم ما تحمله من قسوة ومفاجآت.

على سبيل الختم:
تحمل الرواية عناوين تناسب احداث فصولها المتعاقبة، وقد نسجت بطريقة محكمة البناء، فكانت قوية السرد، تخللتها نصيصات من حقول معرفية مختلفة، معتمدة على اللغة العربية الفصيحة، واللغة المحكية وبخاصة في الحوار، معتمدة على معجم يتلون بتلون الأحداث والمواقف، بلغة تميل إلى الشاعرية دون أن تفقد لغتها القصصية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى