د. سامي عبد العال - اللغة.. كيف نفكر؟!(2)

" أنّا مَسْؤولٌّ عَمَا أَقُوْله لكُّمْ...،
ولَكْنَنِي لسْتُ مَسْؤُولاً عَمّا تَسْمَعُونّهُ مِنْي..."


أحياناً قد نمسكُ الكلمات بين أناملنا ونقلبها ذات اليمين وذات الشمال، ولكن سرعان ما نكتشف - بطريقة سورة الكهف- أنَّ كلْبَنا هو الفكر الذي يبطّنها من الداخل، ".. وكلبهم باسطٌ ذراعيه بالوَصِيدِ.."... الوصيد هو الفناء، أي الفضاء الذي نتحرك، نتكلم فيه. هكذا الفكر هو دَيْدَن اللغة والعكس(اللغة دَيْدَن الفكر) في براحٍ فسيح أسمُه المعنى. فنقول عقب التقليب الشائك: هل نحن الذين نطقنا بهذه الحروف؟! أليست الكلمات بعد خروجها للحياة قد اصبحت غريبةً عنا؟!

حينئذ.. لو لم نكُن نحن الذين قد نطقنا بالعبارات تواً ما كنا لنتعجب مما تحوي!! لقد اغتربت الكلمات، لم تعد مألوفةً إلينا، خرجت دون عودة. ليست هكذا فقط، أنما أخذت تعاندنا وتناصبنا المراوغة والتّفلُت. السبب أنَّها قد تماهَتْ من حينها في أبنية الفكر وسياقاته، دارت دورات ثقافية بعمق التاريخ الذي تختمر به اللغة. لم يعد لنا عليها أدنى سيطرة، رغم كون المفارقة كاشفةً من حيث: أننا ننسبها إلى قائل محددٍ بينما هي تكتسب دلالات ومعاني أخرى. كلما ظلت العباراتُ سائرةً في فضاء اللغة، ستحمل دلالياً ما تنُوء به. فضاءُ اللغة- كالمجال المغناطيسي- تتحرك فيها الكلمات بقُوى "الجذب والطرد"، الكلمة تجذب معناها كقطعة المعدن حين تعلْق بعوالق أخرى، تلتصق بمعانٍ مختلفة أو تتنافر معها.

كأنّنا نحاول فهم العبارة الدالة( أنا مسؤول عما أقوله لكم... ولكنني لست مسؤولاً عما تسمعونه مني..). فالمقطع الخاص بمسؤولية المتحدث أنَّه ينطق كلمات هو يقولها لتوّه، يدرك ما يقول وقد يؤكد على الحروف وتوجيه الفكرة توجيها مقصوداً على افتراض ذلك بالطبع. لكن المشكلة ليست هنا بالتحديد، إنَّها تظهر حين تخرج الكلمات دون رجعةٍ، إذ تدخل اللغة كوسيط أكبر مما يحتمل حدث الكلام، عندئذ هي التي تهيمن على وضعية السماع وكيف يصل المعنى وبأية رواسب سيكون وما هي أبعاده وكيفية التأثير. اللغة هي التي تقننها وتحملها بخبرات ودلالات أخرى. فعل التكلم أو الكتابة ربما يتمُّ تلقائياً، لكن التلقي لن يجري سوى بأفعال اللغة الأكثر تدخلاً والتواءً. فالأخيرة قوة وسلطة مفتوحة لا يتم أي معنى بخلاف شهادتها الموثقّة فقط بحسب آلياتها وطرائق عملها ليس غير.

إنَّ كلمة الحقيقة مثلاً ليست كلمةً مفردةً كما نظن، لكنها مستويات وأخيلة وتراكم وهواجس وأبعاد وغموض حول ما يُسمى "حقيقةً" باختلاف درجاتها. حتى إذا كانت الحقيقة كذلك واقعاً أو فعلاً، فبالنسبة إلى أية أشياء تمثل الحقيقة وجودها؟ هل هي حقيقة بالنسبة لنا أم لسوانا أم لدلالة موضوعية؟ وبالتالي: ما الذي ليس بحقيقة في المقابل، وهل ذلك تجاه ذاتها أم تجاه شيءٍ آخر؟! الحقيقة هي اسم لوصف الأشياء والأفعال أكثر من أي معنى قد يلتصق بها. فلو أشرنا إلى شخصٍ بعينه على أنَّه هو المعروف والمشهور، فهو صورة من الحقيقة بحسب ما نراها وبقدر ما يتمثل لدينا خلال لحظةٍ بعينها. وكذا بصدد الأمور الأخرى، فالأحداث التاريخية تكتسب لفظة الحقيقة حينما تأخذ موضعها في الصورة الذهنية للمجتمعات. وهي الصورة المرتبطة بسياق تاريخي مرتهن بأبعاد دالةٍ على مستوى الوعي. والوعي ينغرس بعيداً حيث تشكيل السلطة التي تمارس دورها لتحديد أهمية الأزمنة والرموز.

من ثمَّ كانت اللغة هي جُماع ذلك كلِّه، وأنَّ استعمالاً مبدعاً للغةِ - كحال الإبداعات الأدبية والفلسفية والروحية- هو المحرك لكل البناء الضخم، إنَّه يعيده للظهور من جديدٍ. لم يكن الشاعر قديماً وحديثاً إلاَّ خالقاً للوجود بمعناه الرمزي. الشعر يخلق إمكانية الوجود عبر إيقاع الزمن التي يبدعه، الكشف والإظهار هما المعاني الواردة في عالمه الثري. يرى مارتن هيدجر أنَّ الشعراء يسمون الأشياء كما لو لم تسمَ من قبل، يعطونها مساحة انطولوجية للتجلي داخل اللغة، حيث لا فرق هنالك بين الإمكانية والفعل.

لو خبت الأفكار زمنياً كما رَقَدَ أهل الكهف، ستسهر اللغة عليها وستقلبها شمالاً ويساراً بحثاً عن استفاقتها. ولقد تقلبها حتى لا تتخثر كفريسة للجمود والسكون في عصور الظلام. المهم أنْ تجد كلماتُنا فضاءً واسعاً للحركة والتعبير عن معانيها. ومتى ضاقت الفكرةُ لدرجة التعصب والانغلاق، فلن تتمكن اللغة إلاَّ من كشفها وتعريتها للهواء الحُر. تلك المهمة يمارسها حتى الإنسان العادي في جوف الثقافة المترامية عندما يصوغ عباراته بشكل مختلفٍ في النكات والتأمل والمراجعة وطرح الأسئلة. حالة كهذه هي وليدة الوعي اليقظ إزاء تحولات الواقع واحداثه، لأن وعينا لا ينعدمُ إلى درجة الموت- أيضاً على طريقة أهل الكهف- بل يستفيق مع القدرة الذاتية على التحرر.

هذا معناه أنَّ اللغة بها مستويات من التعبير، وأنها لا تتوقف عن الحركة شريطة إيجاد المِعْول الذي يثير كوامنها، سواء أكان شعراً أم فلسفة أم تصوفاً أم أدباً، كل إبداع في هذه المجالات وسواها يؤكد قدرات اللغة على التعبير غير المألوف، هي تصنع تهيئة وانتظاراً لما يُستجد من أفكار. ولأنَّ اللغة تبقى متوحدةً بالفكر دون انفصالٍّ، فالتعبيرات تبشر بالجديد، وتوعز باستمرار إلى مواكبته، إنْ لم يكن من داخل التجربة النوعية له، فعلى الأقل ينبغي قراءتها بشكل خصبٍ.

المعضلة الرئيسة إذن تكمن في اللغة المؤرَّخة، تلك التي تمثل أبنيةً للتفكير بواسطة صور الاعتقاد كما أشرت. وهنا تتعدد المصادر التي تضخ اللغة (بلاغة، منطق، نصوص، عبارات، خطابات)، وجميعها تتورط بشكل أو آخر في مُناخ التقاليد الراسخة، لأنَّ اللغة بهذا الحال ستنقلبُ إلى نظامٍ شكليٍّ يستوعب الأنظمةَ الأخرى. وعلى أسئلة الفلسفة تبعاً لعلاقة الفكر واللغة أنْ تخترق هذا النظام الشكلي، ليمسي منزوعاً من قيوده ومعيناته الجزئية. وتعيد نقده بصورة ثوريةٍ، هذا النقد الداخلي الذي يكشفُ الأبنيةَ والأسس.

ولا سيما أنَّه ضمن التقاليد العقلية يحدث تبادل بين الشكليين النفسي واللغوي، بل هما في الواقع شكلٌّ واحدٌ بوجوه كثيرة. وعليه ستُبرِز الفلسفة التحديدات الكلية للفكر الذي تراه متراكماً حد الإرباك. فالفكر تكوين مركب يجمل داخله إمكانيات زمنيةً قابلة للقراءة، وعلى الفلسفة بما تملكه من أدوات أنْ تقرب الصور العامة لما هو قادم، وترسم خيالاً مختلفاً بدلالات لغوية جديدة. تتحدد على أثرها أساليب التواصل وأطر المفاهيم الكبرى حول اللغة ذاتها، الوجود، الانسان والمجتمع. ولذلك كانت الفلسفاتُ الكُّبرى خرائط لفهم الوضع ومساءلته في كل عصرٍ من العصور. هكذا كانت فلسفتا كانط ونيتشه خريطتين لكل مشكلات العصر كما كانت فلسفة الشرق وتوجهاته الروحية والفلسفية عند ابن عربي وابن عطاء الله السكندري وابن سينا والرازي.

شريطةَ أنْ يتم صياغة الوضع الجديد الذي تمَّ الافصاح عنه في حدود ما يقاربه من اهدافه، وبهذا، يساعده التفلسفُ على بلورة مفاهيمه داخل الصيغ الخاصة به. ولئن تمَّ التعبيرُ عن الأفكار المقترحة، فستُحدَّد وفقاً لمنطق التفلسف. والمعاني التي تعبر عنها حينذاك فاعلة بآليات مختلفةٍ، مناقضة لما هو جارٍ. حيث يحقق الفكر المغاير للسائد وجوده فلسفياً ولغوياً. كلُّ فلسفة تحتاج إلى صيغ ابداعية على ذات النطاق من الوعي.

الفلسفة بهذا الاتجاه هي فن التدقِيْق في المألوف وغربلته. وما لم تفْعل، فلن تكون أكثر من بُوق دعاية لما هو سائد، وإذ ذاك تتبنى الأنشطة الانسانية الأخرى بعضاً من معالمها. ولكن باتجاه الفلسفة المختلف تصبح اللغة تجربة فكرية تتجاوز الحقائق المتداولة، بل ربما ستكون تجربة ضرورية لوجود الإنسان خلال التواصل وحل شفرات الحياة(ثقافة/ معرفة/ مفاهيم). وهي بمضمون عام التجربة الفكرية المميزة للمجتمع، إذ يتحرر للتفكير النقدي خلالها، لينمو ويكتسب دلالات جد متفاعلة مع غيره.

تماشياً مع هذا التقاطع، نرصد كيف كانت الفلسفة تفكيراً لغوياً في قضايا العصر والحياة، حيث تعاملت مع مشكلات واقعية بالفعل. وغدت اللغة(التي هي موضوع التفلسف) واقعاً، والواقع لغةً في خطاب فلسفي له أدواته النوعية. بلغ هذا التقاطع درجة الوضوح منذ البدايات الأولى للتفلسف. فالسفسطائيون(بخلاف صورتهم السلبية والمروّج لها خطأً)اهتموا كثيراً بالبلاغة والصياغات الجدلية حتى تمكنوا من اصطناع استراتيجيات فلسفية تتكئ على اللغة وتناور بها. وفي وقتٍ مبكر جداً، استعملوا الاستراتيجيات لمناقشة قضايا تتخفى وراء سلطة الفكر الأفلاطوني الذي كان فكراً رسمياً للدولة، كان هو أيديولوجيا العنف في المجال العام بامتياز.

ولا ننسى أنْ صورة السوفسطائية قد رسمها أفلاطون من خلال محاوراته مما ألحق بهم تلك الأوصاف(البلبلة وإثارة الشكوك والتكلم المراوغ والسفسطة). برأي كارل بوبر، كانت فلسفة افلاطون السياسية نوعاً من "الهندسة الاجتماعية" social geometry التي خططت لممارسة الاستبداد وتكريس الطبقية في المجتمع.

ورغم اعتبار المؤرخين أنَّ نقض الواقع بواسطة اللغة عبثٌ، إلاَّ أنَّ السوفسطائية أبرز الاتجاهات التي كشفت أبعاد استخدام اللغة وتأثيرها. وصلت الفلسفة لديها إلى تكوين سياسات للخطاب وإعادة استعماله بطريقة ناقدة، حيث طرحت جوانب التلاعب بالألفاظ والحوارات حول القضايا المنطقية(براتراند رسل، تاريخ الفلسفة الغربية(الجزء الأول) ترجمة زكي نجيب محمود، لجنة الأليف والترجمة والنشر، القاهرة1957، ص48.). ففي الوقت الذي تُتاح فيه صياغة الخطاب بأسلوب مُحْكم، يمكن الوصول سوفسطائياً إلى حيلٍّ خطابية تُخلخل المعتقدات والافكار اليقينية لدى عامة الناس.

ليس اليقين هنا من أسس الفكر بقدر ما هو وليد سلطة المجتمع اليوناني، حيث كانت فلسفتا أفلاطون وأرسطو خادمتين للهيمنة على الواقع ورسم سياسات القمع والديكتاتورية. ولذلك لم يمس التفلسف السوفسطائي النُخب ولا أصحاب الرأي، لكنه كان موجهاً إلى الجمهور، إلى حيث مراقد الأفكار المتحكمة في العقول وتسييسها.

اختصاراً، فقد انتج تقاطع الفلسفة واللغة عدةَ أشياءٍ:
  • قد تغيرَ وجه الفلسفة حتى غدت خطاباً عقلانياً بلاغياً له طابع الكشف والتساؤل.
  • ظهرت وظيفة تثويرية للفلسفة، فأول خطوة هي خلخلة الطرائق الفلسفية القديمة وما يصاحبها من تقاليد ومعارفٍ وأساليب.لعبت البلاغة دوراً خطيراً في مجالات الحياة العامة. ولئن كانت البلاغة آتيةً من إبلاغ الكلام( أي مناسبة المقال لمقتضى الحال)، فالحقيقة تظل قرينة لها وحبيسة أساليبها، وأحد جوانبها كونها بلاغة فكر لا لفظ وحسب.
  • لا توجد حقيقةٌ واحدةٌ، بل هناك حقائق بقدر تعدد الخطابات والنصوص. إذن هي حقائق نسبية، فضلاً عن كونها تمتلئ بالتناقضات.
  • جرت عملية التفلسف بوصفها ظاهرة لغوية – أدائية، ويمكن اعتباره خطاباً موجهاً( التفكيك- التأويل- التحليل- التشذير) وبالتالي اجرائياً أيضاً.
  • إذا كانت الفلسفةُ خطاباً لغوياً، فهي قابلة للتوظيف السياسي(جمهورية أفلاطون نموذجاً). وعليه تعبر دوماً عن مصالح وأهداف وغايات صانع الخطاب.
  • يفتح التقاطع السوفسطائي(اللغة والفلسفة)مجالاً أمام فكرة القراءة التي ترسخت في الفلسفة المعاصرة.
  • التفلسف عملية تواصلية، تُطرح في اشكال لغوية كالحوار، المناقشة، الجدال والمناظرة والنقد والحجاج. فهو وليد التخصيب الحر والمتبادل أثناء طرح الأسئلة والأجوبة.
لعل ما تركه السوفسطائيون نقدياً إزاء الفلسفة: أنَّ الفيلسوف قد يظل حبيساً داخل المصطلحات والعبارات العامة. وعلى أساس جعل الحقيقة نسبيةً من إنسان لآخر، فلا يخرج المتأمل من أخيلته الكلية ولن يستطيع رؤية الأشياء بوضوح، لأنَّه يتحدث لغة ميتافيزيقية محيطة بأطراف الوجود. كما أكمل هذا الفكرة فلاسفة التحليل اللغوي الذين ناقشوها باستفاضة. وكان الأمر ذا دلالة في المجال السياسي مع قمع المجتمعات.
( Karl Popper, The Open society and Its Enemies, volume 1, Rout ledge& Kegan Paul, London, 1966, PP 33-36)

لقد غدت المفاهيم والقضايا المتعلقة بالميتافيزيقا مفاهيم لفظية، تتطلب تنظيراً فلسفياً من داخل مدلولها النسقي. وتلك المفاهيم تتخفى فيها السلطة بشكل ماكرٍ، فكل ميتافيزيقا لا تخلو من صدى بعيد لسلطة ما، وإنْ لم يكن صدى مباشراً، فهو يسدد أهدافها بشكل ملتوٍ. وقطعاً سيثير الموقفُ استفهامات تاليةً: هل لا يصح التفلسف إلاَّ داخل العبارات الكلية؟ ماذا لو كانت متناقضة فيما بينها، بل بين المصطلح الواحد وسياقه المفاهيمي؟
الآن سأطرح التفكير باعتباره قراءةً لنصوصٍ وخطابات طالما أننا نتحدث عن حضور اللغة. يتساوى في ذلك المصطلح والمفهوم لأنَّهما نصان وينتميان إلى تاريخ وتراث ما. فالسياسي أو الاعلامي أو الأديب أو المفكر إذْ يجيد قراءة الأحداث والرؤى بإمكانه طرح شيء مغايرٍ. إذن كيف نفكر(أي نقرأ)على نحو مختلفٍ؟! السؤال ينقض الخطابات المتطرفة والنصوص الأيديولوجية والسياسية التقليدية.

أولاً: يأتي التفكير بدلالة الفعلِ "فكّرَ"،" تأمل"،" تساءل". في تلك الحالة يُضاف هكذا: فَكّرْ(أيا أنت) مغامراً حُراً. دوماً القراءة عبارة عن تلقٍ دون تماثل مع آخرين بالضرورة، ذلك مهما يكُّن النص المقروء. والكاتب الذي يطرح تلك الإمكانية بين نصه وبين القارئ، فليتبوّأ مقعده من النسيان. المفاجأة أنَّ الكاتب لو أراد ذلك لن يستطيع، لأنَّ القراءة بطبيعتها عمل مُراوغ وقاتل للمؤلف كما يقول فلاسفة ما بعد الحداثة. كما أنَّ اللغة لا تسمح بامتلاكها من الناص(الكاتب) ولا من القارئ. فهل سيقرأ المتلقي نصاً دون إنتاج لمعنى مغاير؟ الاجابة طبعاً بالنفي القاطع.

ثانياً: يأتي التفكيرُ بمعنى: "فِكْرٌ مختلفٌ". لأنَّ منطلقاتَّه مغايرةٌ رؤيةً وتحليلاً بحيث يكشف ما هو متماثل. والموقع الذي يعبر عنه النص لن يكون سهلَ المنال. ليس ذلك تتبعاً للغريب، ولا تفلتاً من المألوف فقط، إنما تقليباً للمسألةِ عبر تجليات اللغة كذلك. فحينما نحاول تفكيراً إزاء القضايا لم يكن تراث اللغة والخطابات المتداولة بعيداً إلاَّ أنْ يتوسط بشكل ما. الوعي بهذا يجعل الفكرَ أكثر انفتاحاً لغيريةٍ ما.

ثالثاً: التفكير هو طرح صور الآخر المتنوعة. فاللغة ليست حيادية ولا واحدية ولن تكون. وطالما توجد لغة بشرية نخط بها أفكارنا، فهي خطاب الآخر المتعدد على الدوام. الآخر يتسرب إلينا - ليلاً ونهاراً- كما تتسرب المياه من صنبور غير محكم الإغلاق. إنَّه ينبوعٌ سحيقٌ من قاع التاريخ الثقافي والتداول الحواري للآراء.

رابعاً: ليكُّن التّوجُه الفكري خصيباً، قادراً على ابداع الأفكار. القراءة بمثابة فضاء ينمو فيه المعني ويورَّق ويشتد على عوده كالأشجار. والكاتبُ حين يتصور أنَّه يعطي المتلقي محتوى فهذا خطأ ما بعده خطأ إلاَّ اعتقاده بامتلاك المعنى. فالمحتوى يتبخر مستقراً في احشاء الكلمات وشذرات التعبير والجمل المنقوصة والمقولات.

خامساً: سيذهب المعنى الضيق لو وُجِدَ إلى اللاعنوان أياً كان، حتى وإنْ كان مقصوداً لمتلقٍ بعينه. ففضاء المعنى يتسع إلى ما لا نهاية. وفي الوقت ذاته لا تكف اللغة عن التداخل مع غيرها في شبكات وحفريات ثقافية تتردد على هيئة أصداءٍ وأطيافٍ.

سادساً: التفكير دعوةٌ لكرنفال حواري بكافة الأقنعة البراقة والمموهة والمتنوعة. إنَّه احتفال لا يكف عن التقلُّب والإبهار. كلُّ تفكيرٍ هو ثقةٌ ممنوحة مجاناً لدعوةٍ تصل لدرجة الالتزام بلا مقابل. وفوق ذلك هو العمل الأكثر صرامة وجديةً مما يتبادر للأذهان.

سابعاً: التفكير يختلف عن القضايا المسكوت عنها. فقد تكون قضايا الفكر معروفة، لكن يجب بلورتها بشكل غير معروفٍ، أو بالأحرى إعادة موقعتها من جديدٍ في السياق الذي توجد فيه. وهي ما تُسمى بالقضايا الاشكالية التي تتشعب وترتبط بمسائل أخرى، أبرز الأمثلة قضايا الدين، السياسة، الديمقراطية، التاريخ، الفلسفة.. وغيرها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى