أحمد رجب شلتوت - تأملات في ديستوبيا الحظر.. العزلة ليست هي الوحدة.. شهادة

يمثل وباء كورونا الديستوبيا في أنصع تجلياتها، ففجأة وجدت البشرية نفسها في كابوس، طوفان عارم يجرفها باتجاه نهاية تبدو وكأنها حتمية، ولا نجاة منه إلا بإحكام العزلة، ويا لها من مفارقة، يمسك الفيروس بتلابيب البشر كلهم في شمال العالم وجنوبه، في شرقه وغربه، يجمعهم في قبضته، وفي نفس الوقت يجبرهم على العزلة، يلزمهم بأن يحيا كل منهم بمفرده، دون أن يكون وحيدا، فالعزلة _ حتى وإن لم تكن خيارا شخصيا _ لا تعني الوحدة، إذ الوحدة شعور مؤلم، يعني افتقاد "الونس" ، والحاجة إلى شريك، وأنك مقطوع عن الآخرين، أو رافض لهم أو مشغول عنهم، فالوحدة كما يقول أستاذ التاريخ الاجتماعي ديفيد فنسنت في دراسته "تاريخ العزلة"، هي "عزلة فاشلة".
فإن كنت في وحدتك مشغولا بالآخرين وممتلئا بمشاعرك الطيبة تجاههم فأنت لست من الوحيدين، بل أنت في عزلة ناجحة، وهنا أستحضر مقولة جان بول سارتر «"إذا كنت تشعر بالوحدة عندما تكون وحدك، فأنت إذن في صحبة سيئة"، أما إذا لم تكن الصحبة سيئة، فستشعر بمثل ما شعرت به فرجينيا وولف، وهو ما حاولت تحليله في مذكراتها بقولها "إنه شعور سماع العالم الحقيقي، تأخذني إليه الوحدة والصمت".
والعزلة قد تبدو سجنا بالنسبة للإنسان العادي، إذ تجسد له الحرمان في أجلى معانيه، أما إذا كان الإنسان المضطر إلى العزلة محبا للقراءة معتادا عليها فسيجد في سجنه متنفسا تتيحه الكتب، أما عزلة المبدع فهي ليست كذلك، تكون فرصة للانفراد بالذات، والحوار معها، وكما قال محمود درويش في (أثر الفراشة): "العزلة هي انتقاء نوع الأَلم، والتدرّب على تصريف أفعال القلب بحريّة العصاميّ"..
أما بالنسبة لي فاستشعار الخطر الذي يمثله الوباء لا أراه كابوسا، كورونا قد تعني الموت، لكن أشياء أخرى غيرها تعنيه أيضا، ومن لم يمت بكورونا مات بغيرها، لذا فأنا أعيش حياة عادية إلا قليلا، فظروف الإعاقة الحركية التي تصاحبني منذ طفولتي وضعتني في حالة دائمة من العزلة، أو على الأقل حالة تشبهها، عايشتها، وتآلفت معها، وأحيانا أستعذبها، العزلة إذن ليست أمرا جديدا طرأ بالنسبة لي، ما استجد فقط مع الحظر هو عدم الذهاب إلى العمل، وخلو الذهن من مشاغل الوظيفة ، وبالتالي زيادة الوقت المتاح للقراءة، ولملاحظة فزع المفزوعين، والذي قد يتخذ شكل الاستهانة وادعاء اللامبالاة، كذلك أرجع لى فائض الوقت الأمل في العودة إلى مشروعات كتابة لم تكتمل، روايات لم تزل مبقورة البطن، تعاني وجع عدم الاكتمال وأتمنى لو تكتمل لتبرأ وأبرأ معها، قبل الحظر كنت أعاني من ضيق الوقت، بعده أصبحت معاناتي من وفرة الوقت، فمع القلق والترقب، وربما الإحباط لم تعد وفرة الوقت حلا، ربما الوقت المتاح فقط يجعل الزنزانة أكثر اتساعا، فيصبح الضيق تيها، وهكذا مازالت الصفحة التي شرعتها في أول إبريل عذراء .. لم يمسسها قلم..
لا أعرف إن كنت سأستطيع الكتابة مع القلق أم لا، لكن استمرار الحظر والعزلة، يجعلني أطيل من حواري مع الذات بالتأمل والمراجعة، ومع الآخرين بقراءة كتب تراكم بعضها على أرفف مكتبتي، وتراكم أغلبها في ملفات على حاسوبي، فقد اعتدت منذ سنوات على قراءة الكتب بصيغة بي دي إف، وهي الصيغة التي أصبحت صديقة حميمة للعزلة الناجحة فلا أشعر بالوحدة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى