جعفر كمال - حوارية المعنى والصورة / الفصل الثاني

2-
المعيون في مراتب النسق:
الذي يثير القارئ في نصوص يونس هو تمعنه في تحديث السرد المقارن، بواسطة بيان ضبط الصورة التي تعكس تأثيرها الواضح على سقاء جمانة تخيلّها، حيث يتفق المجاز والتشبيه في بنية تلامس تقنية تعلي من شأن تراتبية منزلتها، كما نتبين الفارق بين التشبيه والاستعارة في أغلب أعماله، وبهذا الخلق الجديد يضمن بعدا مؤثرا في ذاكرة زمن التلقي، وفي تحقيق ذلك يكون خليقاً بتوجهه بالإفادة من الفصاحة المعنوية المولدة لعلم المعاني، المتضمنة الحوارية اللفظية بتفاوت جناسي لا ينكس مزايا ومراتب المذهب الذي اعتمده، لأن كل الفروع تنتمي إلى الأصل وإن اختلفت في السبك، فقد جعل نصه واردا على حوارية تؤسس لضبط أحكامه، التي تمد خيوط المبنى بينهُ وبينَ أبطاله سواء أكان المُصلح، أو المُعذب، أو المنبوذ، وبهذه المعالجات نجده يعيد تقويم العلاقة من وارد تسلسلها المعنوي إلى بنيتها المتقدمة على سائر الكثير من النصوص القصصية عند البعض الآخر، وهذا ما يمهد لتميّز بلاغة الكلام عنده في نظامٍ يجعل من الحكاية القصصية أو الروائية يساق الاعجاز بمضمونها على قدر كبير من المقبولية، بحكم تسلسل مفاهيم المنصوص عليه في أعماله، تلك الأعمال القابلة لشرطين مؤثرين في البنية الباطنة للحكاية بمعطي الخلاف:

أحدهما: أمَّا أنْ تكون الحكاية حلوةَ المذاق، وصافية من حيث جودة تركيب الإيماء والإيجاز، بشروط تثبت تصرف واقع الكاتب بقدرته على أن لا يمس نظامهُ الغث والرداءة والاستبهام.
الوجه الثاني: وأمَّا ما قد يكون في التفصيل الآخر- أن لا يكون النظم مشوها ومموها، فيقبح حاله لِمَا فيه من التكلف المستنكر لركته، بصيغ ليس لها منظومة فكرية أو أدبية أو فنية عالية الدقة بحاستها الملبية لتقنية ما.

ومن أجل هذا نجده وعبر مرتكزاته التشخيصية حدد مواطن جمالية تشذيب النظم من حيث التجلي والمشاهدة، وفي الوقت ذاته أبان مكامن القبح فتجاوزه. وفي ذات السياق أعلى من المكننة الذكية في مضمونة السرد التي تتلاءم فرضياتها بمنزلة تنسجم فيها الأوجه كلٍ بتأويلها، بالشرط الذي يداني من تغليب ناظم مساق الكلام على بعضه البعض، وذلك بالتركيز على أداء علم المعاني بوارد تناسقها المعنوي، فكل علم من هذه العلوم قياس تستسقي منه منزلة الأحداث مقدار جموح المؤالفة بما تَتَزيَّدْ به الأخيلة الروائية حاجتها من رتب بالغة الأهمية، بالتساوي في منشدها الذي لا يختلف في جوهره، حتى تُبَرِز الغرض المقصود من طبيعة الحكاية بإظهار غايات الصورة على أنها تداعيات تبدأ بمعالجة العقد المجتمعية على الحد الذي يؤهل الكاتب المثقف أن يضع بصماته الناظرة على ضبط المقصود من تحرير ما كان دالاً على وصف مدلوله، وهذا يساعد الكاتب على أن يقوم بدوره المعرفي الذي يؤهله على حل تلك المشكلات الحيوية بتقديم نصوص مثمرة غاياتها.
وعلاوة على ما تقدم يمكن اعتبار الممكنات الموصوفة بالمجد والعظمة منافاة لواقعية أظهرت أعيانها، وفي هذا الخصوص ينشط دور الكاتب بالكشف عن غايات أوجه حقيقية المكايدة من غرضها ونزاهتها، حتى تتشكل عنده مادة خصبة تتزود بها أعماله السردية، الروائية منها والقصصية، خاصة تلك الأفعال التي تؤسس لأسباب مباشرة في إثارة النعرات الغيبية بواسطة الدين، أو تلك الإيماءات المتمثلة بمعطى ما تقع به "المعرفة" بين الله والإنسان"، إذ نجدها تظهر على السطح وهي تحرض على صراعات الإيمان غير المبنية على مبدأ اعتباري علمي، وهذا الالتباس في المدارك العلمية يشكل ظاهرة مرة تمثل انحطاطا واضحا يقوم على عدوانية همها الوحيد قتل الإنسان بواسطة الذبح المستورد، فبدلاً من أن يتفرغ الإنسان العربي ويجتهد بتوليد الاختراعات العلمية لصناعة مجتمع تنويري في جميع حالاته، وايجاد خلق تسابقي يتبارى على أسسه الإبداع التفاعلي على مستوى صناعة حياة تفيض تزدهر بالمودة والاحترام بين الشعوب، باتجاه اقامة حالة تطورية تضاهي إنتاج بقية شعوب العالم. لكن وللأسف نجد الإنسان العربي مع مرور الزمن يغرق حتى هامته في عيوب ومتاهات ومستكرهات قل نظيرها على امتداد أحداث التاريخ.
الجانب الآخر الذي أود أن أبينه في أدب يونس أنه قضى برفع النكرات من أعماله، فأجاد توصيل قوة محاكاة العوامل البلاغية الظاهرة في اللفظ، بواسطة المرتكز الايجابي في إقناع المتلقي فيما يفيد من المعاني الراجحة لمتطلباته، خاصةعندما أسلم القارئ العام نصا فرض وقوعه الايجابي في النفس، فالنص العلمي في هذه الحلقة الإبداعية لا يضمر لأن الإضمار على خلاف المنصوص المُجَمَلْ بإيعازات تعلي من شأن المجاز التثويري المتضمن الدالة في حكايته، مع أن التوليف الفني ليس إجمالاً لأن الإجمال مطلق، ونصوص الكاتب أي كان لا يمكن أن تكون على حال واحدة، ففيها القمة، والوسط، والمتدني، والإشارة هنا مردها أن يونس تصالح مع هكذا مفهوم، فملقح الرؤية المتخيلة بناتج فضاءات امتلأت عطاءً، لأنه منح الكلام مساقات تجمح التقييد والمشاكلة في الوضع اللغوي المحقق للزوم الذي يتضح بمذياع كتاباته، وفي الوقت ذاته حذف العوامل الشاذة من منظومته الفكرية، التي اختلفت بصورتها على بعض النصوص في الكتابات الأدبية عند الآخرين، ولأجل هذا زاد إلى فنيته السردية الاختصار والإيجاز في مراتب الجمل الحاكية لصورتها، فضخ في تراكبيها المكثفة مضمونا تناسق مع طبائع النحو والتصريف بما تستوفيه كتاباته.
ولهذا نجد فصاحة نصوصه قد تميزت بوعيها لما فيها من الألفة الناظرة بوازع محسوستها التقنية الواضحة، لأن القصة القصيرة هي ابنة الروايةبتناصب دلالي معين، بمعنى أن تكون الحكاية القصصية الأقصر مضغوطة أكثر مما هي عليه في السرد الروائي، أمّا في جانبها التخيّلي نجد أن سياقها المعنوي يقترب بتوليفته من تصريف الجمل قربها من القصيدة الشعرية، لكن لا خلاف في مغالبة تعاين درجة الوعي بين الشاعر والقاص من الناحية الثقافية في القدرات الجامعة للمعرفة، لأنه يمكن أن يكون القاص أو الروائي أكثر اجتهادا في علوم اللغة ونصابها النحوي من الشاعر، والعكس صحيح، وما عداها فهو مباح بينهما في تلاقي الآراء واختلاف المبادئ، لذا نجد يونس أخذ هذا المأخذ وتعامل معه من مبتغى التراكيب اللغوية والبنيوية الفنية في أعماله، وفي المخصوص منها شد من أزر الجملة الملبية لأسرار المناقحة الفنية في الصورة المحكية، فجعل القارئ هو المفتاح المبصر للمعاني ومدى قوة تأثيرها عليه، مع أنَّ القراءة بعمومها تفضل استواء النص المتطبع بسهولة المصبات المندلقة مفاهيمه من الأصل الذي يصاحب مسجوع الكلام الملبي للفهم من مقدار مقروء قيمته، ومثال ذلك وأنت تقرأ تجد أنك إذا تصوّرت في نفسك صيغاً معقدة وأبعاداً ليس لها أول ولا آخر، تتمنى لو أنَّ النص لا يستغفلك بأسلوبيته المشتتة، ولذا نقول ان الكاتب يونس ابتعد عن التشويه والتمويه والركاكة والإسهاب، واحتفظ بأن تكون الألفاظ واردة على قياسات القوة والمناعة والمشاهدة، فتكون تابعة بالمقدارية اللغوية لمفهومها الحسي، وليس العكس، عندها ستكون الصورة أمَّا مراعية لبلاغتها من مسار توليفها عند المبدع، أو مشوهة بجانبها النحوي عند المقلد. خاصة بحساب النص الشرعي المحمول على التغيير الانفصامي لحظة دخوله زمن الإبداع.
من خلال هذه النظرة التي أساقت مرتكزي النقدي إلى حقيقة محايدة، أدرت مقود المفعولات الادراكية الواضحة في أعمال د. محمد عبدالرحمن يونس أْن تتيح لي إبانة تضئ مقدمتي للفصل الثاني من تناولي لهذه الشخصية العربية الساردة والمؤثرة بوعيها الأكاديمي والفني الأدبي، وقد بينت في الفصل الأول أنني أطلعت على كل مؤلفاته الروائية والقصصية والنقدية وكنت في حومة صراع نشب في نفسي بما أحدثته تلك المؤلفات الوجدانية من وعي مختلف في توازني النقدي، فلم أزل أسائل قلمي هل نستطيع العبور إلى الطرف الأغر من مصوغات يونس الأدبية، أم يا ترى سنتعثر؟

القصة القصيرة، والقصيرة جداً:
أحلام مليكة بنت الأخضر في وهران
"على أشرعة الموجة أحزم حقائبي، وأقطع ضوء الأفق . تشدّني الآمال البعيدة وأضواء النجوم الشاحبة ومنارات الميناء. لم أسافر منذ مدة.. بدأت تضعف عزيمتي . وحده شاطئ الأمان بعيد مهجور. أيها الشاطئ الحلم متى تقترب ؟
سماء مارس شاحبة صامتة.. أبواق سيارات أمريكا الفاخرة تدغدغ أحلام نساء مدينتي، الشارع طويل ضيق ، قلب المدينة أسود يتخبّط ملدوغاً بدمائه المسمومة . يأتي مارس محتضناً ضبابه وسماءه السوداء المطيرة.. صوت مطربة شابة تغني وهي منفوشة من جميع أطرافها : "حبينا وتحبينا"، يمزّق الصوت وحشة المساء تزداد وحدانية. تتأمل مليكة ضباب المدينة، تصرخ في وجهها : أوقفي عربدتك أيتها الماجنة ، فأنا بحاجة ماسة إلى حذاء فرنسي وعطور وفساتين، ولا بدّ من أن أحتفل بالأعياد القوميّة والوطنية" .
في البدء نجد القاص أهتم بأسلوبية التعريض المثالي، حيث نجده يحاكي استراقا يبصر في أرض تطلها قدمه فتلك تلمسان، يصفها بالرفعة والشرف والشهرة، وفي معالجة أخرى يظهر أنه أسند عنوان قصته باسم مدينة وهران، مع أن تلمسان أخذت حصة الأسد في المكان، فجعل من ميزتها متحولة تصطاد حقب التاريخ بتوظيف استمرارية أحداثها المؤثرة ايجابا على تطورات الحياة نحو الأفضل. فأفاض بمعلومات عدة حيث أعطيت تلمسان اسماء عديدة ومنها "غرناطة " هكذا بدت المدينة لزائرها من الوهلة الأولى بأثر موقعها الجمالي، بما يحيط بها من أشجار الكروم والزيتون واشجار السنديان، والرمان، والأعناب، تتوسط شوارعها الداخلية، وهي بهذا الوصف وكأنها تشابه مدينة لندن، فتلمسان مرئية باختلاف آراء المؤرخين في تسميتها. ومن هذه الآراء رأي المؤرخ "يحيى بو عزيز" حيث يقول: "يتكون اسم المدينة من كلمتين: "تلم" ومعناها تجمع، و"سان" ومعناها أثنان". أمَّا المؤرخ جورج مارصي يقول: "يعود الاسم إلى الأمازيغية: "تالا" ومعناها المنبع، و "يمسان" ومعناها الجاف، فتكون الكلمة: المنبع الجاف. والرأي الثالث غير معروف حيث وجدنا وثائقه تفتقر إلى السند العلمي والتاريخي، يقول ان اسم المدينة الحقيقي هو "تلمسين" وقد يكون المعنى "جيب منبع".
ولأهمية تلمسان نجد عشرات من أعلام الأدب والفن من المؤرخين والشعراء والكتاب والمغنين والفلاسفة والرسامين استوطنوا هذه المدينة ومنهم:
المغني الفرنسي أوجيني بوفيه، والمؤرخ والأديب الفرنسي بول بن يشو، وتشارلز تواني فيلسوف فرنسي، وواسني الأعرج الكاتب الجزائري، وباتريك بريال مغني وممثل فرنسي، ومسلي شكري رسام جزائري، وعبد العزيز زناقوي أديب شمولي، معروف وهو أستاذ اللغة العربية بجامعة السربون، ومحمد ديب كاتب معروف كل مؤلفاته كتبها باللغة الفرنسية، ومصالح الحاج أحد أهم قادة الثورة الجزائرية، وآخرين.
توسع القاص باستعراض مراتب شرائع الملَّة الخمسة في المدينة بقصد أو بدون قصد، فإن كان قد أشار لها بمعرفته فتلك ثقافة فيها الكثير من العطاء الايجابي، وإن لم يكن هكذا فذاك يعود إلى تجليات الكاتب التي تنده الذات المبدعة أن يساق وعيَّها من منشأ الإحساس الإبداعي في الرؤية المثقفة، وتلك الشرائع هي.. "العقل، الدين، المال، السلطة، والجنس". لذلك نجده وقد أحاط الحكاية بمعطيات تاريخية باقية بقاء الزمن، بطبعها الجاري على أصلها المتوارث من حصاد واقعها المألوف، مع أنه خالط الواقع بالمجاز للضرورة السردية، معتمدا على أن وصف المدينة حاصل على اعتبار الإنجاز الملموس، فيصبح المكان إبداعاً وليس الغاءً للحضارة المتجددة، وعلى أسس هذا الوصف لاقح الكاتب فنيته لتختزل طبائع توالف إضاءات المجاز المحاكي باختلاف المقاصد ذاتية الحكمة بمسعيَّها: الوصفي و جذر المدينة التاريخي، وفي هذا الانجاز نجد الكاتب قد ضخ مسار "الميلو درامي" من مبنى محتواها بقوله: "على أشرعة الموجة أحزم حقائبي" وجملة أخرى: "أقطع ضوء الأفق"، وجمل تتوالى تصب في معالجات المتخيل النوعي بقوله: " تشدني الآمال البعيدة" إذن فاللغة رُسِمَتْ بسياق يوثق تُمَحور ضرورة مستند فعل السرد الفصيح المكثر لغاياته المبلغة للمفاهيم الجامعة للتكميل والتتميم لرغبات يودها القارئ، بقوله: "على أشرعة الموجة".
ولم يقل أشرعة الموج، أي أنه أعتمد المفرد "الموجة" والجمع في الأشرعة على الموجة الواحدة، وهو ما نسميه بالاطّراد كون السبك لا تعسف أو ضعف فيه، فالحقائب تستدعي المشبهة بالسفر، ولهذا فقد حقق تلاقي جناس الرحلة بعاملين هما: الموجة وتعني السفر، والحقائب ترمز إلى الرحيل، وعلى أساس قيمة هذا الترميز أعطى له مكانة تحقق سلطة المجاز على الايضاح والتثبيت. على اعتبار أن سياق اللغة بهذا الخصوص معني بعصامية أدوات القاص، بالقياس الحاصل في ماهية الوصف التعبيري الناتج عن خصوبة الرؤيا الحاكية، التي هي أشبه بجمهرة موضوعات تتفاوت في فنيتها تفاوتا ارشاديا يخصب من قيمة الهجين النوعي المعني بفعل الوصف، خاصة إذا كانت فلسفة الكاتب تخلق إضاءة تستثير تجليات الذات بتفعيل مسرحة الصورة، على أنْ تمنح القارئ مقدارية تستوعب المعاني من وارد مبغاها ومنشدها، بواسطة التحولات النظمية التي أسندت تداعيات المجاز، بما يصح أن يكون الكلام مولداً للذوق، وبهذا يحتسب المجاز نافعا من جهة توليفات ذاتية الكاتب، لا من جهة التأليف، فالجواب يخضع إلى ما بينهما من فرق محسوس بمعية الاستحقاق والاختصاص، ولولا قدرة الكاتب البلاغية على توظيف الصورة الصوتية توظيفا حسياً لمّا تصورنا بالمعيون الملموس أن يكون هذا السبق موفقا بمقدار الحبكة واللغة والمساق، لماذا؟ لأن الاستحقاق القادر على صناعة مصوغات الكلام، هو من يحقق التراكيب الجمالية التي تثبت النقلات الفنية إلى حوارية أكثر مذاقا، عندما يجري الوصف على شيء توضع له المستحقات الملموسة أن لا تخرج عن الأصول الموضوعة لأجلها.

"ردت مليكة أحلامها العريضة وتأملت مدينتها الأثرية العريقة التي مرّ عليها الغزاة فرادى وجماعات هي ذي تلمسان التي تحبّها وتخبئها في شغاف القلب والروح. تلمسان الحصن التي يمرّ عليها الزمان شامخا بهامته ممتطىً ألف جواد لا تعرف كبوة، وعندما يصل إلى ضريح سيدي مسعود يرخي لجياده أعنّتها لتغفو قليلا على وقع انتصاراتها, ولينحني إجلالا وتقديرا لزعيم تلمسان الروحي الولي سيدي مسعود الذي يؤكّد التلمسانيون أنّ الملائكة تزوره مساء كل جمعة وفي جميع الأعياد والمناسبات الدينية المقدّسة. وتلمسان تنزع عظمتها الأسطورية وأبهتها المكللة بنياشين الزمن وأوسمته لتتسربل بباذلات الدرك الوطني السوداء الداكنة، وعصي رجال الشرطة الغليظة المدببة".

مليكة بنت الأخضر البطلة في حكاية يونس، هي سيدة عنوان القصة التي نحن نتواصل في تناولها بالنقد والتحليل والمعاينة، وهي ابنة تلمسان المدينة الساحرة بمناخها وأجوائها التاريخية مازالت تتمثل بالعادات والتقاليد المتأصلة في روحانيتها، مع أن الموروثات الظنية مازالت بغالبها تصورات وتخاريف بالية كقول القاص: "يؤكّد التلمساني أنّ الملائكة تزوره مساء كل جمعة وفي جميع الأعياد والمناسبات الدينية المقدّسة." والمقصود هنا في هذه المعالجة "ضريح سيدي مسعود" وهذا يأتي من قناعة راسخة في عقول توارثت بالإيمان بأن الوالي أو الشيخ أو السيد، سواء كانوا في الحياة أو الممات، والتقدير أن هؤلاء قوم معصومون من الخطأ والرذيلة، لذا فهم محروسون من الملائكة تقيهم شر الشيطان أن لا يوسوس لهم، تجنبا من الأعداء الذين يطمعون بالسيطرة على سلطتهم، وبالتالي فهذه أساطير تداول على تناولها الكثير من الكتاب والقصاصين وحتى الشعراء، ومع هذا تبقى في زوايا الرؤية حجج واختلافات تضيق وتتسع في مقدارية مثل هكذا تصوّرات، وفي المعاينة الايجابية نجد أن بعض نصوصهم أخذت تنشد التباين في سياق الحكاية الموروثة، فما كان طريقا يختلف عليه النص الأدبي إلاَّ في اختلاف تلك التصورات في مفهوم المعالجة، حتى لا تكون محاكاة السلف حاضرة على الدوام في أدواتهم، وعليه وجب وضع منفذ يمهد لاختيار نمط يعزز من أصل النص مع اختلاف التجاذب في مكانة التصور للمرامي التحررية التي تبتعد بأدواتها نحو استقلالية منيعة، ولأنني كنت وما زلت حريصا على أن اتبنى حكم المعاينة والمخالفة والتبيين من أجل الغاية التي نودها من القاص أياً كان في حال تناوله الموروث الأسطوري، وهو أن يجعل من المضمون نبعا يزرعه هو ويسقيه بوعيّه المشبع بالعلوم اللغوية التي توجب أن تحتل المكانة الأهم بكونها الطعم الجاذب للتلقي.

"وسرحت في الفضاء البعيد وفردت أحلامها الشفيفة. وهمست : يا سيدي مسعود، أيها الولي العظيم أستحلفك بمنزلتك عند مولاك العظيم. أستحلفك بأحلام البسطاء والشرفاء وبصلوات الثكالى والمقهورين أن تطلق سراح عبد الله العمروش من قبضة فقيه عسكر الرباط وواليها وزعيم الحشاشين فيها."

لقد أكدتُ في مناسبات عديدة أن سياق النص الفني يكمن في وضوح بيان أصل جذره الجمالي، المُنصَب بمقدار تَمَيّزْ ابانتهُ النحوية ورؤية معالمه الواضحة، والعمل على إقامة الدلالة على المناسب بالقياس المفيد بتفضيل المجاز العقلي على المجاز اللغوي، لأن العقل له السبق في وضع البيان من مبدأ تناول العلوم والأحكام العلمية على اختلاف سياقاتها، لذلك يستدير العقل على ما حوله دلالياً فيعالج المغلق من الأمور المستعصية على المتلقي، ليضع التصورات القابلة لفتح التأويلات والظنون، ومن أجل هذا فالسبق يعود لمَلَكَة الكاتب التحليلية، إذا ما تكلمنا بدواع خلق الإبداع وتفاعله مع اللغة واستنطاق مفاتيحها، وعليه فمن مبدأ هذه الخصوصية نجد يونس قد ألحَ على أن يجعل بطله مجازيا بأحكامه المفيدة للتلقي، عندما منحه تفرده ببديهية تجمع الشواهد البحثية في سلته، فتكون لازمة الحكمة والبأس والبسالة، باعتبارها منفتحة على الوعي المنتج للبنى الأدبية بالمعاينة والتحليل. إذن من مبدأ هذا التشريع جعل البطل شاهدا على أن يستبدلَ صورته الواقعية بالصورة التي عَيّنها الكاتب، وهو أن يجعل من بطله يوصف بالإنسان المجازي لقدرته على نقل المعنى من صورته التي كان بها، إلى حكم ليس بحقيقته. لأن أسلوب مليكة بنت الأخضر تَمَيّزَ بعقلها أولاً على مساقها اللغوي، فكان لابد لها من أنْ تنحو نحو ملاينة أشبه بأطروفة، لعلها تخفف من تسلط "فقيه عسكر الرباط" ربما يفيد في طلبها، وهو أن يطلق سراح "عبدالله عمروش"، وكأن لها فيه مقام يصون قضيته وهي تحاكي الذات من منظور مرآتها في قولها: " وسرحت في الفضاء البعيد وفردت أحلامها الشفيفة. وهمست : يا سيدي مسعود، أيها الولي العظيم أستحلفك بمنزلتك عند مولاك العظيم. أستحلفك بأحلام البسطاء والشرفاء وبصلوات الثكالى والمقهورين أن تطلق سراح عبد الله العمروش من قبضة فقيه عسكر الرباط وواليها وزعيم الحشاشين فيها." إذن من هو عبدالله عمروش؟ سنأتي لاحقا على تبيان هذه الشخصية المهمة عند مليكة.

"تحسست مليكة تذكرة السفر صفراء ملتوية تتأهب لقطار العاشرة. فتحت مجلة "باري ماتش" أخبار سيدات المجتمع المخملي وفضائحهنّ تتصدر الصفحات الأمامية بخطوط عريضة برّاقة. فجأة هبطت ذكرى خطيبها عبد الله العمروش الذي اختطفه جلاوزة مولانا الباشا أعزّه الله وأطال عمره ؛ فعانقتها بصمت وأنشدت لها عشرين موشحا وتوسلت : فرّج الله كربتك أيها الحبيب.
بدا حذاؤها قذرا وكأنَ وسخ العالم وفئرانه وبعوضه وطينه توطن فيه، وأخرجت منديلا من "هاي فاين " ومسحت الحذاء وشكرت الشركة الوطنية الجزائرية للنسيج والملبوسات القطنية لأنها لم تزد بعد في أسعار مناديلها.. ثمّة بقع بيضاء عليه . وفكّرت : كيف يمكن تلميع الحذاء جيدا ؟ فوهران الحلم بعيدة ، ولا بدّ أن يبدو حذاؤها أحمر مقبولا حتى يليق بوجوه نساء وهران المشعّات ألقا وشبابا، اللواتي يجبن شوارع العربي بن مهيدي, وديدوش مراد، وجميلة بوحريد، ليل نهار، ولا تهدأ لقاماتهنّ الممشوقة صارية ولا سفينة ولا ريح. وأخرجت أحمر شفتيها، قرّرت أن تطلي بقاع البياض في وجهه."

تعددت المدن وتداخلت على ما جرى عليه الوصف إمَّا تشبيهاً، وإمَّا لصلة البطلة مليكة بالانتماء المعنوي لمّا للمدن فيها من معنى معنوي، أو لمّا لمليكة في المدن من ذكريات، هذا لأن وصف المدن من حيث هي لا يصحُّ رَدُّها إلى التقنية المبهرة الهادفة لموقعها، فهي مدن قصية بأمكنتها باعتبار بعدها عن قانونية السرد، فيكون الربط المكاني ليس له علاقة في سبك المضمون للحكاية، والمدن هي: "الرباط، مراكش، وفاس" وهذا قد يؤدي إلى الركاكة باعتبار أن الكاتب ذكر الحكم ولم يبنه، ولكنه وفي اتجاه مغاير للصورة حيث جعل من القطار الثيمته الأكثر تجانسا بتداولها المكاني بين الكتاب من وارد مفهومها الدلالي في الشعر والقصة القصيرة والرواية. ومليكة في مقعدها في القطار أحتل تفكيرها موضوعة خطيبها المسجون عبدالله عمروش، وكأي مسافرة تحسست وجود التذكرة الصفراء "الملتوية"، وذلك لو أن التذكرة ملتوية بشكلها العادي لأصبح لدينا يقينا أن القاص يونس أخل في تحديث البنية السردية التي حماها من الخلل المكروه، أمَّا إذا كان القصد إكثار الثرثرة عند المرأة بإشارة إلى كونها ترمز إلى اتجاه أسلوب النظام الملتوي بسياسته مع شعبه، فأصبح لدينا المشار إليه ان سياق البنية في حديث مليكة، باعتبارها ذات شأن تميزت به فردانيتها بالحكمة والتعقل وكشف المستور الذي تتمناه أن يكون معيوناً، نحو أن تجعل حكمتها منظورة دائما في تصوراتها المجازية، وكأنما أصبح لزوما عليها أن تعول بطريقة أو بأخرى على أن لا تكثر من المبالغة في نظرتها للأشياء المحيطة بها، لأن التكثّر في حولها يفسد من حلاوة الرأي.
وهنا يُبَرزُ الكاتب إثبات أمرٌ يحصلُ بقصد المتكلم "مليكة" تأويل معنى الملتوي بمصطلحٍ يعتني بالتفاصيل وغاياتها الخبيثة، وعليه من الناحية السياسية أصبح معلوما قصد الذات الراوية في صورة مليكة، بقي أنْ نقول إنَّ الدلالة اللغوية حصنت تطور نضوج الرؤية الفنية المعبرة عن ذكاء ملحوظ، فالقاص أَوْمَأَ إلى البطلة أنْ تحاكي الطبائع المذمومة في رباط قولهِ: "بدا حذاؤها قذراً وكأن وسخ العالم وفئرانه وبعوضه وطينه توطن فيه" إذا سلمنا جدلا أن معلومة الحذاء تؤل الاستعارة بدلا من المجاز فهذا يجوز من حيث المعقول لا من حيث اللغة، لأن اللغة مطردة هنا في هذه الصيغة، على اعتبار أن النقد الذاتي المتحول خاطب المجاز من وازع تعبيره الذاتي، ولهذا فهو مجاز عقلي ساخر، خاصة وأنه جانس الحذاء الوسخ بالمكروهات من الحشرات وقذارة الطرق، فأدى ذلك بوازع مفهوم الكاتب أن يحرر مرامي سهام القصد من المعنى، فظاهرهُ يكون مقبولا، وباطنه يذم، فيعد هذا على اعتباره مصدرا من مصادر الحقيقة الظاهرة بالدال عليه في البنية الضامنة للسياق، مع أن مليكة والراوي ابتعدا أو تعمدا إخفاء اشتقاق الكنى المعروفة عند العرب على اعتبارها يتوالف الاعتقاد بها مع مضمون البنية الاجتماعية العربية، لأن الشأن المكاني تحدد مفخرته وسلطته ببسط قوة سعة هيبة النَّسب، لذا فالمشبه به في هذه اللازمة هو الرمز الذي يحاكي منشد الاستعارة بلون التذكرة "صفراء ملتوية" ومن ثم " الحذاء الوسخ" و "الحشرات" والفارق العيني المنقوص في حالة التشبيه هو المرسل بواسطة الذات الحاكية، خاصة في حالات السفر، أي أن كل الأمور واردة، فالنشال موجود باحترافية كبيرة، والتائه الذي يبحث عن أنيس، خاصة في المغرب العربي كونها بلدان فقيرة وإن كثرت مواردها النفطية وغيرها.

"يا لله كيف يهبط مارس كل عام ضبابيا غولا يفترس شغاف القلب ، ويلدغ الأماني , ويسمّمها بالأفيون والكوكائين ورمال الصحراء! . وشدّت حزام معطفها الذي بدأ يرتجف لوقع صقيع مارس، لو أنّ مولانا الباشا يطلق سراح خطيبها عبد الله العمروش لأسرعت وطلبت منه أن يشتري لها معطفا وواقيات مطرية تقيها من أمطار مارس الطينية . آه .. أين أنت يا ( العمروش ) .. تركت قلبي يمامة مذبوحة على أرصفة تلمسان وأزقتها الضيقة ، وها أنت تستلذّ سجنك , وتعاقر الشمّا والأفيون , وتلعب الدومينو، وتراهن على أحصنة الأحزاب النافقة.. كم قلت لك إنّ هذه الأحصنة لا خيار فيها ولن تصحو من كبوتها أبدا، لكنّك لم تصدّقني ، وها أنت ترقد وحيدا ثملا بالفاجعة القاتمة، و رفاقك الأشاوس في الأحزاب يبنون الفيلات، ويستوردون الكاديلاك، ويبتنون الإماء والسراري، ويصنعون الدفوف والمفرقعات الملوّنة . تبا للبوليتيكا الخامجة (1) فما أورثتنا إلاّ الفقر وذلّ الحاجة وسيوف السجانين."

تستمر البطلة مليكة تواصل روحانيتها المجروحة بالتمني الموهم للحقيقة، الذي بدى لها واقعا مؤلماً غير ملب لقرارات كثيرة تمنت لو أنها تحققشيئاً منها بقولها: "لو أن مولانا الباشا يطلق سرا خطيبها عبدالله العمروش لأسرعت وطلبت منه أن يشتري لها معطفا وواقيات مطرية تقييها من الأمطار" فلم تزل مليكة تنعي أفعال العمروش ما جنت يداه من النواهي، فشهادتها مجروحة من جهة معصيته قوانين الباشا الباطلة، ومن جهة إلهاب قلبها عليه وتمنياتها ان يطلق سراحه من السجن لعرت له عاطفتها كما يشتهي، لكنه ما زال هناك يعاقر المخدرات، منشغلا بالمعاصي المهلكات وهي "مذبوحة" على أرصفة تلمسان، إذا أردنا الرجوع إلى رأي يحيى بن حمزة حول "مرامي البلاغة المسددة" نجد أن كلمة "مذبوحة" التي تذكر القارئ بالذبح أو التهييج القبيح للموت ودواعيه المؤذية خاصة في عصرنا، كون الكلمة "مذبوح" قد تجوز بالشيء في موضعه وأصله، لكن لا تأتي بالمخلص المنقول لها من أصلها، إنما نجدها تعمل على خلخلة الجناس الملبي لتسهيل النحو الشائق بوصفه، فأجدني لا أتفق مع القاص في اختيار بعض الألفاظ الضعيفة غير القابلة لتوصيل مقاصد مباهجها، فيكون اللفظ فيها مؤذيا سماعه أو تلقيه، فلو اختار بدلا من ثيمة "مذبوحة" من بعض ثيم دالة بجناس معناها مثل: ضائعة، أو منسية، أو مُهمَلَةٌ، لأصبح اللفظ تستوي قراراته المعنوية بيسر وإقناع، كونه الأصح في إبانة النظائر وهي تتلاقى في تأدية القول الحكيم.
فالكاتب العليم يفترض أن يرد الكلام إلى فصيحه وبليغه، خاصة في قرارات نظمه أي أنْ لا يروم موقع التعريف على جهة التصوير، فيقوم بتسليط وعيه الخاص في إثبات الاعجاز حتى يستمر الكلام نافعا على جهة الاستقامة، لا يفتر عن نظمه قارئ، ولا يتصوره ناقد في خلاف، لأن ورود الفصاحة تعتمد إبانة السجال المرن فيما سيق في الحديث، فتكون دلالة المفاهيم واضحة وقد حازت على المواصلة، فأستقر فهمها على جهة المقبولية الخارجة عن المبالغة والاطناب، هذا لأن سلوك البطلة دال على ذاتها العرفانية المتحولة بسجالها الباطني وما تكنه لحبيبها بالمقرر العاطفي دون إنكار، فأصل المشاعر تعنيها ولا تعني غيرها حتى وإنْ أظهرت الخديعة والمكر للحاكم الباشا، ولذا فهي تستطرد احتساب المعنى المحتسب بجواز استمرارية ملامة حظها الكؤود، أمّا ما نود أن نؤكده أنَّ اللفظ البليغ ينتج المعنى الفصيح، كما عبر عن هذا يحيى بن حمزة العلوي، لأن البرهان المقصود يقوم على أساس تأويل الظواهر القائمة على بيان الاحتمال، وليس للتأكيد على بيان دلالة غير ملموسة كما هو الحال عندما يكون الحبيب مُغِّيّباً، ومع هذا فهي تستذكر نصائحها له وهي، وجوب الانكفاف عن السياسة ومضمراتها الخبيثة، والنتيجة القائمة بواقعها هو في السجن، وهي تطاردها الأوهام والعوز والملامة.

"وهران الجميلة بعيدة، يقابلها البحر وحمامات السونا ومقصورات نساء العسكر العظماء، وشاطئ السانية يفترش الرمال مراقباً السماء، ونوارس البحر، وفي الطرف الآخر تشعّ منائر "أليكانت" الإسبانية البيضاء التي اغتصبها الجنود الأسبان يوم كان وزراء الطوائف يتعاركون على غنائم الحروب وسباياها الحسان. قالت مليكة- خذني أيها النورس إلى ( أليكانت )، خذني أيها النورس أغني لك أجمل ما قالته العرب، وأجمل ما لحّنه الأجداد، وأبدع ما غنّته جواريهم الحسان .
لكنّ النورس تأمّلها جيدا، وقال : أيتها الفاتنة الحسناء ، أنا أكره الأحزاب السياسية.
وهمست مليكة- يا للغبي من قال له أني أحبّ الأحزاب السياسية .
ــ أيها النورس ها هي جدائلي وقلبي.. اربطني بجناحيك.. أشعلني وجدي وتوقي، ومسامات قلبي امتلأت بأضرحة الأجداد، ونخيلهم، وهاماتهم السمر.
فقال النورس- خذي نصف هذه السمكة ولا تثرثري.. ألا تعرفن إلاّ الثرثرة ، وتهريب الحشيش يا نسوة تلمسان ؟
وأقسمت مليكة برأس والدها , وضريح سيدي مسعود أنّها لم تهرّب جرعة حشيش طوال حياتها. وهزّ النورس رأسه ممتعضا : هل تعتقدين أني مغفّل حتى أصدّقك، تموتين شريدة في تلمسان، تنبح عليك الكلاب، تتعفّن عظامك، لا كفن ولا سرو تظللك.. مليكة بنت الأخضر.. هنا نور الشمس والمقبرة ، وقاذورات المدينة، وصفصاف تلمسان، تخرجين من رحم الأرض مرتين: يوم ولدتك أمك ويوم تدخلين المقبرة .
ــ أيها النورس ...
ــ أنت تسببين لي صداعا، اسكتي أو كلي نصف هذه السمكة .
ــ أيها النورس.. خذ رسالة إلى حبيبي ( العمروش ) ، بحقّ الأسماء الحسنى, وبجميع نقوش خاتم سيدنا سليمان وطلاسمه، وبالعرش وأسماء العرش، وحملة العرش .
ــ وأين هذا العمروش الأحمق ؟
ـ في سجن سيدي يعقوب المنصور .
ــ أيتها الحمقاء .. من قال لك إني أتدخل في سياسة مولانا ؟
ــ ومن قال لك أيها الجاهل أن تتدخل في سياسة مولانا ؟ مجرد رسالة عادية , ولن تضيرك في شيء .
أنهى النورس نصف السمكة , وطلب من مليكة أن تأكل النصف الآخر , وما إن شمّتها حتى قذفتها إلى قاع الموجة .
وقال النورس ممتعضا : نساء تلمسان يجحدن نعمة ربي . لماذا هذه المدينة جاحدة بطرة ؟ أطعمها سمكة .. تقذفها في وجه الموجة . مليكة أيتها الجاحدة الفاتنة ، هنا مقبرتك ومنفاك , وأرضك الطامثة أبدا . وطفق النورس يمتطي ظهر الموجة آخذاً في الابتعاد".

في هذا المكان بالذات من قصة "أحلام مليكة بنت الأخضر" نجد أنَّ الراوي يحسس انفتاح المجاز على ما أراد تناوله من تغيير في أسلوبية مقادير نسق الكلام، فجاء بحوار يظهر الدلالة على الإعجاب من قلب الحكاية، وكأنه يؤاخي المعقول بغير المعقول بتفعيل قرار مؤثرات المجاز،بعد أن جعل من مشهد المحادثة بين مليكة والنورس يستدعي الحوار بإطلاق آراء تعالج الصورة الخيالية، خاصة ما يتطلب التمثيل انفتاح على ما يوقع تصوير مبنيات الفنتازيا، ليعلي من شأن المستحسن المعيون بمعية الإثبات القائم على التأملات الحاصلة بصيغ الحديث، المُقاربْ من توليف السرد لكن باتجاه تسجيلي، أي أنه حَمّلَ الكلام مجرى خاصا باستخدامه علماً مهماً من العلوم اللغوية، الذي يتبنى تثبيت مجرى الحديث أن يكون أقرب للتصديق، فالمجاز هنا واقع في مناقشةظريفة بين حالتين: العاقل، وغير العاقل. لكن بدون إثبات علمي لأن التطبيق خارج عن قدرات الطير، لكن ذكاء الكاتب تناص مع من سبقوه في هذا الموضوع، لأن العلم يثبت أن هكذا حوار يقترب من التشبيه بالشيء بين العاقل وغير العاقل، وقد يندرج هذا في مفهوم الكناية كونها تجمع الحقيقة بالمجاز، خاصة في مخاوف الطير من "مولانا" ومن الحديث في السياسة، وفي الوقت ذاته فهو بعيد عن الواقع للسلطنة الحاصلة بالإنابة، لأن الطير ينطق بحال لسان مليكة على أساس المستعار من النطق، ومع هذه المثالية في أخلاق الطير الذي حافظ على استقلالية رأيه، إلاَّ أنه لَمَحَ وبخبث شديد على أنه لا يفهم في السياسة في قوله: " أيتها الفاتنة الحسناء، أنا أكره الأحزاب السياسية". وكأن النورس يقول: السياسة لستُ منها وليس مني. وأن الأمر في مفهوم تثبيت الآراء بلغ مبتغاه المجازي على نحو تقديري ناجح، بعد أنْ أقام الطير الحجَّة على نفسه، وهو يصرف خوفه من رجالات الدولة أن يجنب نفسه العلة، حتى لا يقام عليه الدليل فتصبح دعوى، ورد هذه المساجلة ان الكاتب بذكائه فَعَلَ المتخيل النوعي على اعتباره تميَّزَ بعد ان أصبح جارٍيا على مجانسة التخييل بتناوله الأقرب إلى مساجلة المجاز الدال على الواقع، لأن مفهوم المحادثة دال على ما وضع عليه بالنية على لسان مليكة الباحثة عن مخلوق تشاركه الحديث لتفريغ وجعها الذاتي بأحزانها، وليكن النورس.
نجد أن غرض الكاتب يريد مواجهة القارئ بأن لا شك ولا مريّة في الحوار الذي أجراه بين مليكة والنورس، على اعتبار أن فن التطريز يحتاج إلى تعيين المجاز قبل الحقيقة، بينما نجد السرد واقعاً في المتداول القصصي على أساس الكناية الدالة على حقيقة الكلام ومحتواه، وهو وارد على اتم انسجام مع تقنية البنية التصويرية بإظهار الإنابة بكونها تلبي إثبات المعاينة على منظور التعجب بدال دلالاته، والقصد هو أن يحدث هزة في سياق نسق الحديث بين الذات الحاكية والذات المبدعة، وبهذا يكون قد نأى بتأويلاته المخالفة للمجرى التأويلي في قصص كثيرة في أدب الجاحظ، والمقاربات هنا في مجاز هذه الأسلوبية كما بينَ لنا التاريخ ما حصل من حديث بين النبي سليمان والهدهد، وذا مجاز موحي يشابه الحقيقة كما صورته الأديان، مع أنه غير ذلك، وإذا تمعنا جيدا في المطلوب اثباته في أحاديث النبي هو قولهم للإنسان أننا نمنحك الحكمة والقوة والاثبات. كذلك ما تطرق إليه جرجي زيدان في محادثة النمل، وما بين بوذا والكلب الحارس الأمين له وللفيل، وما بين أبي فراس الحمداني والحمامة. وما بين امرئ القيس والبوادي، أمّا القواعد والأسس المتينة في الاحتمال والاستحالة في أداء المجاز أنه يوهم المتعة على جهة الأمر الوارد في شكله، ولا يمنح الحقيقة من مصب واقعها، وبالتأكيد فالمرجع يعود للكاتب نفسه بقدرته على صناعة قوة تقرير الدِّلالة، ومع هذا فالمجاز أشبه برشة الملح على الطعام كما هو عليه في الشعر خاصة وفي السرد عامة. وبقيَ النورس يلاحق مليكة أن تأخذه معها بعد أن دخل عليها من شباك القطار.

"لكنّ النورس أغطس منقاره في صفحة الماء وأخذ سمكة ملوّنة شهيّة وابتسم بصفاء وبهجة وأخذ يغني الموشح الأندلسي : "أيها الساقي إليك المشتكى... قد دعوناك وإن لم تسمع".

أمَّا أين الخلل التنظيمي في سياق أختلف سلَّمهُ السردي الذي يقتضي لزوم الرصف في سياق النحو المفترض أن يضمن جمالية النسق لكي لا يكون الكلام فاتراً، وخاليَّاً من الحكمة التي تراعي وحدة النحو بالقدرة التي يتشكل على أساسها المستقر في المعنى الثابت بقربه من الواقع، حتى نبتعد عن العثرة في ظلام الطلاسم غير المفيدة في لفظ لا ينبئ عن ملقحة لغوية تعلو من شأن النحو، مع أني أجزم أن لولا هذا الخلل لكان يونس في هذا النص أبدع أيما إبداع، ولكي لا نظل عن فهم الفسيولوجيا نحتفظ بحق الإقناع بأنه لا يمكن أن نصفق بكفينا وهما منشغلان. إذن أين الأريحية اللغوية هنا؟ لا شيء، لا هو مفيد في المجاز ولا مقنع في التوظيف العلمي، ولم يعط النحو حقه في الكلام، خاصة الذي نخصه بالشرح هو حيوان، نقرأ في الإعادة:
" لكنّ النورس أغطس منقاره في صفحة الماء وأصطاد سمكة ملوّنة شهيّة وابتسم بصفاء وبهجة، وأخذ يغني الموشح الأندلسي: "أيها الساقي إليك المشتكى... قد دعوناك وإن لم تسمع"
لو تمعنا جيدا بقراءة دقيقة في هذا المقطع وتتبعنا مسار ملقحة ترتيب المصاغ النحوي، فالطير اصطاد سمكة ملونة بعد أن أخترق منقاره صفحة الماء، أي أن فم النورس بما يقضي الواقع العلمي الفسيولوجي أصبح مشغولا بالتقاطه للسمكة، إذن كيف يبتسم ويغني؟ إذا ارتأينا أنَّ الابتسامة قد نفذتها العيون أو تقاسيم الوجه المعبرة عنها، دون أنْ تؤثر على حركة الفم، لكننا كيف نجد مبررا للغناء والسمكة في فم النورس والمنقار الشرس يمسك بها، إذن لابد من قراءة النص خمسين مرة لكي نتبين علاقة النحو ببيان السرد والصورة من مبعث سياقها الفني وسلامة بلاغة الحبكة من وارد محاسنها، مع أننا أولينا اهتماما خاصا في البلاغة النظمية واللغوية عند يونس، لأنك وفي هذا المقطع بالذات فأنت لا يمكن أن تتخيل الأمر على ما هو ليس عليه، فلا له نصيب في المعنى، ولا هو ظنٌ، ولا هو طراز، بل هو تصوير فاتر لا ينزل على إظهار لغوي مفيد يلامس حقيقة ملقحة الكلام ببعضه البعض .

"صباح وردي.. ترفل وهران بثياب الأميرة ((الكاهنة ))، هذه المدينة الحلم العابرة فوق أسوار التاريخ والبحر, يضمّخها ((ماسينا)) بالطيب والسيوف ، ورقصات الفلامينكو. يعلن القطار وصوله .. هنا نهاية الرحلات.. هنا محطّة عباد الله الأخيرة .. هنا يبني التاريخ آخر قلاعه وحصونه وقصوره ، ويعقد العزم على نقل ( أليكانت) على متن الباخرة (( ليبرتي)) لينصبها منارة وشطا ومرفأ فوق رمال السانية الذهبيّة ، بعدها سيرتاح إلى الأبد.
ــ ها قد وصلنا يا عزيزي استيقظ.. أنتِ يا مليكة في وهران.. كلّ دروب العالم مرّت من هنا.. كلّ قادة العالم استراحوا هنا، ولعنوا الصراعات والحروب.. هيّا انهض يا عزيزي .
وهزّت مليكة رأس النورس, لكنّه أغمض عينيه الماسيتين, ونام على صدرها مستسلماً لخلجة الموت الأخيرة .
آه يا الله.. يا أمي.. يا أبي.. لماذا تموت الآن بعد أن وصلنا ؟
وانتحبت.. علا صوتها.. هزّ محطة القطار المركزيّة في وسط وهران، بينما كانت سماء مارس القاتمة تمطر طينا وأسيدا، وأرض وهران تغصّ بقايا قتلى ومنفيين ومدمني سياسة".

تعددت المفاجئات وتداخلت الأحداث والتصورات التي انشأت حالة تبعد مليكة عن محيطها بنقيض روحي جعلها لا يحلو لها وقت ولا شجن، وكأنها ابغضت نفسها من داعٍ في نفسها، وأبعدت شر الآخرين عنها بعد أن وجدت ضمائرهم فاسدة، وما بقيَّ معها سوى الطير يخفف من وحدتها والطير نام، وما بقي من حولها سوى عالمها النفسي المنهار، وبهذا فالتدبير العقلي يعمل على ادراك مطلب النفس الذاتي لتحديد الغاية بالإثبات، وكأن حالها أصبح يلفهُ الغموض والخمول بعد أن تلاحقت الأحداث لتجعل منها امرأة وحيدة تائهة وفاقدة لحيوية مشاعرها، وها هي الحياة بدت لها عبارة عن تقدير وتشبيه وتمثيل، خاصة عندما فوجئت بموت صديقها طير النورس على صدرها، وهنا انتحبت وأعلت من صرختها حتى هزت محطة قطار وهران التي وصلتها للتو، لعلها تستعيد بعض أمل فقدته في تلمسان، ولكن كأن "سماء وهران أخذت تمطر طينا وأسيدا" يا لسوء الحظ أن مليكة أخذت تنعي حياتها بأثر هذه الوطأة الثقيلة فعبرت عن احتجاجها بالرفض المعنون بتزايد مأساتها وخيبتها، وبهذا يعلو الندب والعويل على صديقها الذي شاركها السفر وهو يتدفأ على صدرها العامر بالتنهدات وكأن موته ضاعف ألمها وزاد من وحدتها التي أصبحت كالظلماء يعيشها القلق على دوام محيَّر يُفَعلُ عندها الألم والقنوط.

"غادرت محطة القطار.. قطعت شارع ديدوش مراد، وانعطفعت يميناً, ودخلت زنقة ( عمر المختار) ، وفي آخر الزنقة دّقت باب خالتها.. فُتح الباب.. ودهشت.. هو ذا عبد الله العمروش , خطيبها وابن خالتها يستقبلها واجماً منكسرا، وقد بدت على ملامحه بقايا أزمنة سوداء موشومة بسياط جلادين، ورطوبة زنزانات مظلمة. وتأكّدت أن سنوات السجن الطويلة كانت كافية لأن تمحو ملامحها الخارجية من ذاكرته المتعبة. تأمّلته جيدا.. بدا أشلاء محطّمة وقد تقوّس ظهره.. صفرة الموت علت تضاريس وجهه. وأذهلتها المفاجأة المرّة.. خطيبها عبد الله العمروش، أجمل شباب المدينة، الشاب الظريف الذي حسدتها عليه جميع صديقاتها، هو ذا يقترب من حافة الهاوية.
أسند رأسه على صدرها.. وبكى.. تداعت أمامه سياط السجانين وجلسات التعذيب الكهربائيّة، والأحلام المنكسرة، وخيانة الأصدقاء، وزعماء الأحزاب السياسية الغارقة حتى هاماتها.. آه أيتها الجميلة الحبيبة، لقد سرقوا روحي وجسدي وأحلامي.. أنا الغريب المنفي، وأنت سكني ووطني وجميع أحلامي الباقية".

لكن كما يبدو أن تغيرات أحوالها أخذت قليلا فقليلا تتحسن بعد أن وصلت مدينة وهران حيث أصبح للحياة معنى تحسه ينبض داخل صدرها، وما أن ترجلت من القطار حتى فاجأها بعض شعور وجدته مختلفا فأخذت تتمتم في ذاتها: " هنا نهاية الرحلات.. هنا محطّة عباد الله الأخيرة .. هنا يبني التاريخ آخر قلاعه وحصونه وقصوره." وفجأة أحالت هذا الشعور أن يُعَوَضْ بأثر من جمالية المدينة وتاريخها العريق الممتد جذره في ماض وحاضر الزمن، لكنها ربما لم تتحس في جوانبها ما يخبأه لها البخت من مفاجأة مذهلة، وما أن دقت باب منزل خالتها حتى أنفتح فبان منه عبدالله العمروش وكأنه شبح أذاقه زمن الهوان والجوع مذلة. كادت المفاجأة أن تلقيها على الأرض لكن شوقها إليه أبقاها واجمة متحيرة في نفسها وحال قل بها يردد جعلت نفسي فداك يا مبسمي، فما طبتُ نفسا في زمن الفراق بعدك.

الأشاوس
"أرجلهم طويلة تضرب الأرض بقوة، لا يسافرون، يحبّون النوم كثيرا، عيونهم زرقاء فارغة، جباههم مفلطحة عريضة، يتاجرون بالسكر والويسكي المغشوش، قلّما يبتسمون، يمارسون الحبّ مع البحر والإسفلت والقار والصحراء. لهم نساء يبتسمن من مؤخراتهنّ وأكفالهنّ، قلّما يجتمعون مع بعضهم إلاّ عندما يلعبون الكارت والدومينو، يعشقون الركوع كثيرا، لكن ليس لوجه الله تعالى، لا يقرؤون القرآن إلاّ ساعات الشدة، يشربون البحر والنهر، يبيعون السور القرآنية، يبتسمون أيام السبت والأحد، ويمارسون الحبّ فيهما، داخل فيلاتهم الفاخرة، على شكل طقوس جماعيّة طوطمية، يحبّون الرياضة كثيرا ويشجّعونها، يضربون الطبل ويكرهون موسيقى الغيتار والعود، يتاجرون بمحارم الكلينكس وعلب التبغ المهربة، ويبولون على النخيل والآس، يحتقرون السفن والموانئ والنوارس، يكرهون الزراعة والأرض ويمجدّون التجارة، ينامون الثامنة مساء، يبدّلون أسرّتهم ونساءهم وأحذيتهم في أكثر الأحيان".
تعيدني هذه القصة القصيرة جدا بالذاكرة إلى زمن 1980 حينها كنتُ أقيمُ في بيروت، وقتها عرضت سينما "البيك ادلي" الفيلم الإيطالي الشهير " قذرون بشعون وأشرار" لا أقصد في هذه الاشارة إلى تناص معنوي في حركة المضمون الأدبي عند يونس، بقدر ما أجده تداخل التأثير في تصوير الشبه بين مختلفين في الجنس، الذي تعيشه بعض المجتمعات الموغلة في الرذيلة والانحطاط، حيث لا قيَّمْ ولا نظم إنسانية تحدد السلوكيات الحسنة والمواهب التي تطوَّر المثاليات المتقدمة في علاقتها العرفانية، وقد اخترتُ هذه القصة القصيرة جدا وقصصا أخرى لأهميتها، كونها تطرح رؤية مركبة للأشياء المُحركة لعوامل الأفعال وجعلها تضع كل ذات ما حملت، عبر حوار الذات الجمعية بواسطة تفعيل قصد الإساءة، فربما هي شهوة لتغيير سلوكيات اختلفت أنظمتها باختلاف قوانين فسلجه العقل، التي هي كثيرا ما تعبر عن افتقارهم للعلوم وفهم مدارك المعرفة. وكأن هؤلاء الناس أرادوا أن يتطبعوا على نظام الاستهانة بالموروثات الإنسانية، فنجدهم يصدون عن الطرق المؤدية لمحاسن الحياة، من حيث أرادوا الضُّرَ بموجب الذم، وعلى ذلك استحسنوا شرورهم الطاغية على أمثالهم لأنهم يتمثلون بالكراهة.
ومن الأمثال لأمثال هؤلاء كثيرة ومنهم "قوم لوط" وهنا مثال معاصر نعيش أيامه بما يسمى: "الدولة الإسلامية" في قول القاص: " يبدّلون نساءهم" أو ربما يبادلون أسرهم، إذا اعتنينا بالمفهوم الذي يتبناه السرد على أساس النحو المدوَّر للمعنى، والقصد هو إفساد الأخلاق المتوارثة لصحبة المحتقر والمذُل، تلك التي تنفي الزكي وطبائع الفخر والعِزَّ، ففيهم الذليل المخصوص بطبعه الذي تجده كالمريض، لأنه فقد الفطنة على التصرف الذي يُحَسن من وجوده بين الناس، فواحدهم يُكره المُحَدَّث المُلْهم المقتدى الذي يحترف الابتكار نحو تطويع المبنى الصحيح والمعقول، خاصة في المجتمعات المسحوقة حيث نتبين هؤلاء القوم يعيشون بمستوى ما تَساوَوْا فإذا تشابهوا تباينوا في تنزيل الوجود منزلة العدم، لأنهم يتمثلون بظاهر الأمر المشين على أنه مقنع، ويتصفون بذات المحمل الوضيع، على اعتبار ايمانهم الضديد الذي ينافي مقدار القيمة الأخلاقية المتشابهة بجوهرها، مع التقريض المنتج للسقوط، وهذا يذكرنا بالاختلاف في مفاهيم كتب الأزهر غير الشريف، خاصة في كتاب "شرح التلخيص" للبرقوقي. وقد احتج عليه محمد عبده في متبناته التي احاطها العلمانيون بالرضا، وبهذا المتناول نجح يونس في الكشف عن هذه الملة المؤسسة لحياة تؤيس بتطبعها على الكراهة المرة، أن تحدث إسقاطاً يتداول بأفعالهم المتجذرة في نفوسهم.

بحر المدينة
"شاطئان يحتضنانه، الغربة والمساء، الموجة وبرميل الزبالة، شاطئ خلفي يعكس قاع المدينة، وأمامي يعشعش بأفراح البحّارة وطقوسهم، للرجل شاطئان ساعد زوجته ورأس صديقته، ينجذب بطن النورس صور المرأة، وصوب بطن السفن المهرّبة إلى قبرص وأثينا. لا شيء في هذا البحر إلاّ زجاجات الفانتا والكوكا كولا ومايو هات النساء "الخرومة"، وأشعة غريبة من الصعب تحديد ماهيتها".
لا شك أنَّ تقنية الحبكة في القصة القصيرة جدا تعود إلى موهبة يمتلكها الكاتب المقتدر، ونظير هذا فأن التفريع البلاغي هو استظهار لمبنى أدوات المعاينة لتتميم أنسجة السبك، على اعتبار أنّ التكثيف يعني صلة التفعيل الذي يؤتي بالأحداث على جهة تقرب التفضيل من إثبات التركيز على المعنى، لذا فالقاص يحتاج إلى دراية ووعي في استخراج سياق مكثف في جمل مفتوحة على بعضها بنسيج محاك بدقة تحكم على جهة العلاقات ونظم الغايات والوسائل، التي تعرض حسن التأليف بموضوعية أكثر فهما وقبولا من القصة القصيرة، خاصة إذا أبصرت تلك الحكاية تأثير المجاز في بنيتها في تطبيق المفصل بالتأملات لإعطاء تراتبية المدى التخيلي قوته بتقريب المشاهدة باليقين، على اعتبار أن دخول المجاز في النص القصير المكثف يسهم في إحاطة التراكيب اللغوية المركبة مبعثا حسياً، فيجعلها مقربة من الشعر أكثر مما هو إلى السرد، حتى تنصرف تنزيل مؤثرات النص على قارئه كنسخة قيم عابرة للخمول والملل، والعكس صحيح تكون أدوات التعبير أكثر مرونة وأجلى إبانة للكشف عما يُمثَّل وما يُخيَّل، وفي النهاية يحتسب تضافر النص غير مكروه بتفاعل وعيه المحسوم لصالح يندرج تأثيره تحت حكم يخلوا حاله من الشتات، إذن هذا هو النتاج الصحي للكاتب عندما يتبنى مفهوم أن يشبه الشيء بالشيء في المفعولات اليومية، فيقسم الأدوات ثم يجمع مضامينها، ثم يعود يجمع المعاني ويقسم الصوَّر، وبهذا نستطيع القول أنَّ يونس جمع بين الصورة الحاكية بتعيين صوتها المحسوس، وبين الخلق في التشبيه ضمن الوجود المحسوس، وبهذا يكون قد لاءم ائتلاف المحكيات بطابع تصويري يلطف الممنوح المكاني جماليته .

جانيت
"يأخذها الشعر المجدول , وتتهادى في شورا ع سوسة .. ركبت البحر ذات ليلة وسافرت مالطا ولم تعد .. بكتها الشوارع والممرّات الهوائية وأزقة سوسة ، وطواحينها العتيقة .
تعرّفت عليها في ملهى الفهد الليلي , كانت طاولتها محاطة بالفراشات والرؤوس والقبّعات والمواعظ،
وفي مساء اليوم التالي دعوتها إلى العشاء في نزل حضرموت بسوسة , كانت شفيفة تغوص بأحزان الرجال وخيباتهم وغدرهم , ولأول مرة في حياتي اكتشف امرأة بهذه الجرأة . قالت : إنها أجرت أربع عمليات كورتاج بفضل خسة الرجال ودونية أصولهم, وأكّدت : أنّ جميع الشباب الذين عرفوها كانوا معجبين بها, وكانوا يلهثون مسعورين وراء مرافئها كسفينة تائهة .
ما أبعد المرافئ القديمة يا جانيت .. وما أصعب السفر إليها ! فبطاقات الطائرة نار وجرائد وأحلام غائبة أبداً , ومجلات جنسيّة مثيرة ومحرّمة".

اختار الكاتب الوصف كحالة تعبيرية يعالجُ فيها مركزية الوعي المنظور بملهاة قدرته على توصيل الصورة الذكية للقارئ على طبيعتها، وهو يصب العلاقة العاطفية بين مختلفين الجنس وظاهر علاقته الاجتماعية المنضبطة، بواسطة مراعاة حركية اللغة المبصرة في مبنى النص الأدبي، لذلك أجاز الائتلاف في تصوير المدن والبحار ووسائط النقل والطيور وجعلها تنسجم مع السياق العام للنص، حيث أنه منح التشابك الوصفي لغة تستنطق الأشياء كي تفضي إلى مسار حركية الصورة المعاينة لما حولها، حتى أنه أفاض لمرونة التشبيه وجعله أكثر تمثيلاً في الكشف عن الدلالة الذي يلتئم وعيَّها ضمن المأخذ التصويري في حركة الأبطال غير المعلومين، ولذا فالراوي أصبح مشمولا بطبعه وشكله وابتكاره بالحد الذي يمول الأحداث من ذاته العارفة حيثما تكثر المشاهدة، لكن في هذه القصة بان اسم البطلة "جانيت" وهي تختصر الزمن بعلاقاتها الممهورة بالجنس، الذي أدت نتائجه على أنها حملت جنينا في احشائها أربعة مرات واجهضتهم، وتمر تلك الملهاة على حياتها وهي تنتقل من حضن ذكوري إلى آخر، حتى جاء أحدهم وهو البطل الذاتي، تعرفَ عليها في ملهى الفهد الليلي وأحسن معاملتها، بعد أن تفجرت الفحولة في رأسه فلم يضيع وقته حتى تدنى منها بعد أن احتوته بجمالها، وبدوره قدم لها كرم النجاعة، بينما هي قدمت له مأساتها مع الرجال ممن قبله، وفي صباح غير معلوم رحلت ولم تعد تلك الأمنية عند صاحبنا الذاتي واضحة، خاصة بعد أن وجد سلوكها ما قبله يشكل امتداداً لما بعده، لأنها تسعى للبحث عن حرية أوسع مما يعتقد هو.

أحلام جامحة
"أحذت كأسين من الشاي الساخن، وجلسنا في كافتيريا الجامعة، سأبني بيتا ومدينة وزورقا وأقدّمها خاتما مفروشا بحبات المطر لصديقتي التي أخذت تقرأ الإعلانات المعلّقة الملوّنة في الكافتيريا عن المواسم والقبب والنضال.
قالت: هيّا تكلّم حدّثني ماذا تريد مني؟
لم أكن حقا أعرف ماذا أريد من هذه السنبلة النقيّة ، إلاّ أن وجهها الدافئ كان يحاصرني فتتكسر رغبتي، ويضيع الكلام فتجدني ألوذ صامتا بقولها الذي هزني: "ماذا تريد مني؟ عيني أقدمها لك".
بدأت أرتجف وقد شحب وجهي، وتلعثمت في نفسي، دارت أفكاري، ودارت الكافتيريا, وفجأة وجدت نفسي هامسا: أريد فقط أن أرى حلمة ثديك.. ولم أصدّق نفسي لهذه الرغبة التي انفجرت بشكل وقح ومن دون مقدمات.
قالت: وحياة عينيك ستراها. وتساءلت مشدوها: كيف أن رجلا شرقيا وامرأة شرقية يختصران طريق الألف ميل بخطوة واحدة؟ وقلت: متى؟
قالت: متى تشاء، فكّرت جادا في أن أطلّق زوجتي التي لم أشاهدها إلا ليلة الدخلة، وكنت مستعدا أن أصفع مدير الجامعة إكراما لعينيها, وعميد الكلية الذي رسّبني ثلاث مرات في مادة الأدب الأجنبي المعاصر".
في هذه القصة القصيرة جدا نحط رحالنا على جنح قصة شاب مكبوت في شهوته المتفجرة في عينيه، وما تعدى فهو طالب خجول غير مجتهد رسبَ أو رُسِبَ في مادة الأدب الأجنبي مرتين، لكنه كما يبدو في هذه المرة تجرأ بعد أن وجد الفتاة السنبلة كما اسماها في الكافتيريا تقرأ لوحة الإعلانات، فتاة لا نعرف اسمها لكنه ركز عليها طويلا فأحست به، كانت أكثر شجاعة منه بعد أن سألته ما يريد منها، كان طلبه بريئا، يريد حلمة نهدها ربما هو عطش للثمها، وبدون تردد وافقته على طلبه وتركت له تحديد الوقت، إذن فالفتاة بدت وكأنها صاحبة تجربة مع الرجال وقد تكون سبق وأن وزعت مشاعرها على أسرة ذكورية تمتع مناطق الشهوة لعلها تُشبع رغباتها الآسرة، وكأنها تجد هذه الحرية الفردية طريقا تتحدى بها المجتمع الاسلامي الذكوري المتخلف بطبعه، والذي جعل من المرأة سلعة رخيصة تباع لغاية الجنس متى شاءوا، وكما يقال: "لكل فعل رد فعل" وما كان من الفتاة التي اشتهاها الطالب التي أخذت تعرض نفسها بسهولة لتنفيذ مباحه بقولها " متى تشاء " بعد أن وجدت الطلب حميميا وإنشائيا، فهي لا ترى أن حلمة نهدها صعبة على أن يراها أو يرضعها الطالب البريء، فهي متعة الفحولة ومتعة انوثتها، وحلمتها مبغى يتيح لها جنون الشهوة، إذن لمَ تمنعها عنه.
يعتبر القاص والروائي الناقد د. محمد عبد الرحمن يونس واحداَ من الذين حققوا بصمة عطاء فكري أدبي باقتدار مقروء جيدا، بعد أنْ أذاع في أهمية متناوله الأدبي مساحة نوعية، وللذي يعرفه فهو متميز في نفسه عن سائر معاصريه، بوازع لغته السادرة التي تكسب الكلام ملاحة الفصيح المعرفي بملهى بيان مبعثها، وموسوعيته الثقافية تليق باحترافية المبدع، شأنه شأن المحدثين في جمالية النص حيث جعل من الجملة القصية مسوقة لما قبلها من أجل تأكيد الملقحة العضوية في مفهوم الكلام الدال على تأويل المضامين، ولي أن أقول أنه مطمئن ومقنع في علمه ومؤلفاته التي أفاد نتاجها في استخراج المباني المفيدة لأجيال استفادت وأفادت من ثرائه الفكري الخصب، ولي أن أقر بشموليته الإبداعية في ترتيب مباهج اللغة وتركيباتها العلمية. وفيما يلي اصداراته التي عبرت عن منتجه النوعي.


* صدر للمؤلف:
1ـ آخر تحليقة لنورس مهاجر( قصص قصيرة)، دار سعاد الصباح ، القاهرة 1991م.
ـ الطبعة الثانية، دار مكتبة الأسرة، القاهرة، 1996م.
2 ـ ملكية والنورس ووهران( قصص قصيرة)، دار المنارة، سورية، 1993م
3ـ رقص سماح على أنغام زرياب( قصص قصيرة)، دار النافذة، بيروت 1994م.
4ـ اللوتس(قصص قصيرة)، دار الكنوز الأدبيّة، بيروت 1995م.
5_ تأثير ألف ليلة وليلة في المسرح العربيّ الحديث و المعاصر( دراسات نقدية)، دار الكنوز الأدبية، بيروت 1995م. ( بالاشتراك). مع د. منذر رديف العاني ورجاء إبراهيم سليمان، وعبد الكريم شعبان) .
6ـ ولاّدة بنت المستكفي في فاس( رواية) ، دار الكنوز الأدبيّة ، بيروت 1997م.
7 ـ الجنس والسلطة في ألف ليلة وليلة ، مؤسسة الانتشار الأدبي، لندن 1998م.
8ـ رحلة بكين ـ ملامح من الصين المعاصرة، دار السويدي، أبو ظبي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى 2004م.
9 ـ الاستبداد السلطوي والفساد الجنسي في ألف ليلة وليلة، الدار العربية للعلوم ـ ناشرون، بيروت/ مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الأولى 2007م.
10 ـ المدينة في ألف ليلة وليلة ـ ملامحها الثقافية والاجتماعية والسياسية ، وزارة الثقافة، دمشق، الطبعة الأولى 2008م.
11 ـ نساء القصر في ألف ليلة وليلة ـ الفكر والسلوك، منشورات دار مجلة مقاربات ، المغرب، فاس، الطبعة الأولى 2010م.
12 ـ مقاربات في مفهوم الأسطورة شعرا وفكرا، ( دراسات نقدية)، نادي الباحة الأدبي بالسعودية/ و مؤسسة الانتشار الأدبي، بيروت، الطبعة الأولى عام 2011م.
13 ــــــ الأسطورة، مصادرها وبعض المظاهر السلبية في توظيفها، دار الألمعية للطباعة والنشر ، الجزائر، الطبعة الأولى 2014م.
14 ــــــــ من اللاذقية إلى بكين، الصين في ظل سياسة الإصلاح والانفتاح، دار الألمعية للطباعة والنشر ، الجزائر، الطبعة الأولى 2014م.

الفهرس
تقديم الدكتور جمال بوطيب
أحلام ملكية بنت الأخضر في وهران
الأشاوس
الأم
المنقار والبؤبؤ
النملة
بوابات المدينة
جانيت
ذكريات ومواجع على ضفاف عدن
سفر ومواجع
شتاءات في المنفى
قلائد مدينتنا
كوابيس
ملاحات في عيون حالمة
وضبطني البحر
أحلام جامحة


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى