أدب ساخر أ. د. مصطفى الضبع - النكتة: أسطورة العصر الحديث.. دراسة في الجينات والتشكل والدلالة

من الشفاهية إلى الكتابية انتقلت النكتة محققة نصيتها المتجاوزة للشفاهية التي ظلت زمنا (طويلا ) رهينة حدودها، غير أنها وهي تطور نصيتها طورت وسيلة انتشارها، متقدمة (جماهيريا ) على كثير من النصوص النوعية ومطورة من متلقيها الذي دعم انتشارها بوصفها تعبيرا عن الوعي الجمعي لإنسان العصر، ذلك الإنسان متنامي الوعي الذي لم يعد قليله ينتج الفكر لكثيره وإنما أصبح – بفعل نمو العقل البشري – كثيره ينتج الفكر لأكثره، فلم يعد هناك حجر على الأفكار بالحجر على نشرها ولم يعد ممتلك صفحة على مواقع التواصل الاجتماعي في حاجة إلى رقيب أو مدير أو رئيس تحرير يفلتر أفكاره أو يوقف تقدمها بالنشر وهو ما عمل على توسيع مجال النشر وتنمية الأفكار وتعددها، وهو ما يعني بالضرورة اتساع دائرة التفسير وتأويل الظواهر وتعدد رؤى متابعيها.

عند هذه النقطة تلتقي النكتة بالأسطورة لتكون بنفسها أسطورة الإنسان المعاصر، مؤدية الأدوار نفسها التي كانت تؤديها الأسطورة، معلنة عن أنها (النكتة ) أسطورة العالم الذي توقف – منذ زمن – عن إنتاج الأساطير بصيغتها التقليدية (الطويلة مثلا ) فإذا كانت أساطير العالم محددة، توقفت خطوط إنتاجها ولم يعد للعالم إلا استعادة أساطيره تفسيرا وتذكرا، في المقابل لا تتوقف النكتة عن الحضور إنتاجا، ولا يتوقف العقل عن إنتاج أساطير مغايرة لما عهده العالم من قبل، فالأسطورة القديمة كانت تقوم على قصص، كبرى قصص تعبر عن صورة كبرى عن أحداث العالم القديم حيث كان للإنسان متسع من الوقت ليتابع القصص والملاحم المطولة خلافا لما هو عليه الآن حيث العالم تجبره ظروف لحظته التاريخية على الوفاء بمتطلبات حياته الأكثر والأقوى مما يجعله لاهثا وراء أساطيره الصغرى أو تلك الأساطير الكبرى التي تفككت في أساطير صغرى للدرجة التي جعلت رولان بارت يستخدم مصطلح ” أساطير الحياة اليومية ” ([1])، مما يجعل من كثير من ممارسات الحياة اليومية بمثابة الأساطير مستمرة الإنتاج متعددة الوجوه.

تقف الدراسة عند النكتة بوصفها أسطورة مكتملة الأركان بما لها من مناسبة لعصرها ومسايرة لأحداثه، وبقدرتها على استثمار تكنولوجيا العصر وتقنياته.

الأسطورة في أحد تعريفاتها البسيطة: “حكاية مجهولة المؤلف، تتحدث عن الأصل والعلة والقدر، يفسر بها المجتمع ظواهر الكون والإنسان تفسيرا لا يخلو من نزعة تربوية تعليمية، وهي الجزء الكلامي المصاحب للطقوس البدائية ” ([2])

” اخترعت الطبيعة حيلة بيولوجية هي الضحك حتى تقينا ضد آثار الشفقة البالغة والتعاطف الزئد على الحد، مما كان يمكن أن نتعرض له بسبب مالدينا من قدرة على التأثر الانفعالي والإحساس بآلام الآخرين، فالضحك هو ضرب من المناعة النفسية التي تحول بيننا وبين التأثر بما يعرض للغير من نكبات بسيطة، مما نشهده حولنا باستمرار، فنجد أنفسنا مضطرين (باعتبارنا كائنات اجتماعية ) إلى ان نأخذ بقسط منه، ومعنى هذا أن الضحك استجابة للألم لا للسرور، نظرا لأن مفتاحه هو المواقف التي تسبب لنا الضيق أو الكرب أو الألم إن لم نضحك…” ([3])

والنكتة حين شغلت الباحثين بتعريفها اهتم بعضهم بها من حيث وظيفتها:” فالنكتة خطاب موجه من المرسل إلى مرسل إليه في مقام معين والغاية منها حمل المتلقي على الضحك وتنشيط الذهن إذا مل الجد وإطلاق الفرح الذي يدفع إلى التشويق وغسل النفس من الملل وربما تنطوي ضمنا علي حكم معني له غاية تستشف من المقام ” ([4])

مع الاحتفاظ لكليهما بحق الاختلاف محتفظا بسماته الخاصة، ودلالاته العميقة تلتقي الأسطورتان (القديمة والحديثة) في مساحة لا تضيق إلا لتتسع، ولا تتسع إلا لتكشف عن مستويات متعددة من العلاقة:

ماقبل النص: المؤلف المجهول، تنتمي الأسطورة إلى ثقافة ما فنقول الأساطير الإغريقية مثلا، أو الأسطورة الهندية إلخ، غير أنه لا يمكن نسبتها لشخص بعينه، مؤلف محدد تنتمي إليه الأسطورة، وعلى الرغم من أن الأساطير محدودة العدد مقارنة بالنكات فإنه من الصعوبة بمكان تحديد نسبة الأسطورة إلى منتجها الفرد، الأسطورة لا حقوق ملكية فكرية لها، وهو ما يتحقق في النكتة تماما فعلى الرغم من أن النكتة منتج يومي أو يكاد فإن واحدا لم يطلع علينا يوما ليقول أن النكتة تنتمي إليه وأنه منتجها أو يطالب بحق الملكية الفكرية لنكتة ما، تظل النكتة المنتجة اليوم مجهولة المؤلف وإذا كان تقادم الزمن والافتقاد للتسجيل الدقيق مبررا علميا لعدم معرفتنا بمنتج الأسطورة فإن النكتة اليوم تولد وتنتشر تحت أعيننا ولكنها تتأبى على الانتماء لشخص واحد مما يجعلها منتجة بفعل الوعي الجمعي المستهدف معرفة الحقيقة من خلال الآلهة كما كانت عليه في القديم ([5]) ولأن الحقيقة ستظل غاية البشرية طوال حياتها على الأرض فإن الأسطورة التي توقفت صراحة وفق نمطها القديم تكشف عن نفسها وفق أنماط جديدة تناسب طبيعة اللحظة التاريخية الراهنة، أنماط يتبناها الناس دون أن يجبروا على ذلك، وقديما كانت الأسطورة فكرة يعتنقها الوعي الجمعي مستهدفا ماوراءها، والفعل نفسه تطرحه النكتة التي تلزم متلقيها بتبني مقولاتها بطريقتين:
طريقة مباشرة تقوم على طرح الغاية الجمالية في النكتة ممثلة في جانب الإمتاع وهو الظاهر من النكتة حين يتلقاها الإنسان للوهلة الأولى دون النظر لمضمونها وما تطرحه من عناصر بناء، وهي هنا تكون بمثابة الوجه الأول من التورية ( المعنى الظاهر غير المقصود، القريب بالمعنى البلاغي للتورية).
طريقة غير مباشرة تقوم على سبر أغوار المساحات المتوارية فيما وراء السطح اللامع حيث الفكرة الأعمق في النكتة تلك التي تمثل الوجه الباطن ( المعنى الخفي المقصود، البعيد بالمعنى البلاغي للتورية ).
لقد أصبحت النكتة زادا يوميا لمنتجيها ومستهلكيها بوصفها وسيلة إعلامية غير إخبارية، تنافس – بقوة انتشارها – وسائل الإعلام الإخبارية إذ تتضمن الخبر والتعليق عليه أو تحليله كما تتضمن مساحات متابعة المتلقي لأحداث العالم في صيغة أقرب للأدب منها إلى لغة الحياة اليومية في سطحيتها، ففي المنطقة الواقعة بين لغة الأدب ولغة الحياة اليومية تتمركز لغة النكتة بوصفها نظاما للغة له مجال عمله ومساحة حركته بين متلقيه.
لأن النكتة مجهولة المؤلف ولم يحدث أن طالب أحدهم بحقوق الملكية الفكرية لنكتة ما فإنها في حالة إنتاج دائم، حالة دائمة من التغيير اللفظي يجعلها متعددة المرويات قابلة لصيغ متعددة

على مستوى التقنية:

السردية: تقوم الأسطورة على الحكاية المتداولة بين الأجيال والأمم والثقافات، للدرجة التي يعتمدها البعض بوصفها حكاية تقترب من السردية بطريقتين: تمكن الحكاية منها، و الإحكام في تفاصيلها ( الإحكام هنا معنى من معاني السرد )، وتنطلق كثير من النكت من مثير حكائي يكاد يمثل لازمة فنية من لوازم النكتة ( واحد مصري فعل كذا أو واحد بلدياتنا أو واحد صعيدي أو واحد متزوج…..إلخ ) وكلها بمثابة فواتح للسرد واستهلالات للحكاية، وفيما يتسع نطاق الحكي في الأسطورة تضيق المساحة في النكتة مستجيبة لمتطلباتها الفنية ومقوماتها الجمالية إضافة إلى الفارق الزمني والعصري بين الاثنين، فالأسطورة ابنة زمن ممتد متسع لم تكن مشاغل الناس قد اتسعت فيه كما تفرضه ظروف العصر الآن فيما تأتي النكتة استجابة لزمنها الموسوم بالسرعة، وهو ما ينعكس على مساحات السرد وتعدد الأشخاص في الأسطورة القديمة في مقابل تأثير عصر السرعة على الأسطورة الحديثة ( النكتة ) جاعلا منها نصا سريع الإيقاع ممتد التأثير بما يقارب به لحظة عصرية لها ظروفها ولها ملابسات أحداثها وهو ما يمنح النكتة قدرتها على الانتشار عبر اختزال جوانبها الأسطورية في نص صغير الحجم هو في حد ذاته أسطورة شكلية الطابع

التناص: ويقع في النكتة وفق طريقتين:
التناص مع أحداث الواقع ووقائع الحياة المعيشة تفاعلا مع النشاط اليومي للمجتمع، وتعليقا على مرئيات اللحظة التاريخية، فكل الأحداث قابلة لأن تندرج في سياق النكتة، وكل الوقائع تجد صداها في نكتة لها طبيعتها الإعلامية، ولأن منتج النكتة يكون على وعي أعمق بالوقائع يكون عليه أن ينتقي شيئين:
مساحة حركته في الواقعة.
زاوية النفاذ إلى الواقعة.

التناص مع الخطاب السائد ( سياسيا أو اجتماعيا أو ثقافيا ) عبر إعادة إنتاج مقولات الخطاب وتطويرها لتكون صالحة للتعليق على مجريات أمور الواقع، وقد اجتمعت الطريقتان في النص التالي:

حيث التعليق على الواقع و التناص مع أحداثه، وإعادة إنتاج خطاب عمر سليمان يوم تنحي مبارك عن الحكم في 11 فبراير 2011، والنكتة المصورة تضم 24 كلمة + صورة، الكلمات منها (13 كلمة وردت في خطاب التنحي ) مما يجعل التناص متحققا بصورة واضحة، كما تجعل من الألفاظ في تداخلها وتجانسها مساحة من إنتاج البلاغة التقليدية (الجناس تحديدا ) كما في (إدارة ) الواردة في خطاب التنحي، و( إنارة ) الواردة في النكتة، وهو ما يجعل اللغة المقروءة في النكتة ذات ثلاثة مستويات لغوية:

مستوى التناص الحرفي: في ظل الظروف العصيبة التي تمر بها البلاد.
اللغة المعاد إنتاجها لصالح الخطاب الجديد: الجناس ( إدارة- إنارة، وغيرهما ).
اللغة الخاصة بالنكتة والمتمثلة في مجموعة الألفاظ المتعلقة بالتناص المنبني عليه النكتة غير أنها تضع من العلامات اللغوية ما يحقق أهدافها الاستراتيجية لإنتاج النكتة أو لطرح رؤيتها من خلالها.

و قد تعددت مثل هذه الطريقة على شبكات التواصل الاجتماعي ( الفيس بوك خاصة ) حتى أصبحت واحدة من الطرائق المعتمدة للتعليق على الأحداث، وتفسيرها من منظور الجماعة الممتلكة وعيها الخاص أو المعبرة عن قطاع عريض من الشعب المصري في ظل متغيرات واقعه خلال سنوات مابعد الثورة:

وتتضام هذه الطرائق مع غيرها من مقومات النكتة الفنية ( الأمثولة – المفارقة – التشبيه ومصادره – الاستعارة ومرجعياتها – التكثيف – أشكال البديع المختلفة ) تتضام لتشكيل القوام البلاغي للنكتة بما يحقق لها خصوصية فنية تميزها عن غيرها من الأجناس الأدبية وتمنحها الكثير من عناصرها الفنية.

على مستوى الوظيفة:

الوظيفة التفسيرية: وهي واحدة من الوظائف الأقرب للأسطورة، تفسير الواقع وأحداثه من منظور المنتج، وهو ما تحققه النكتة فيما تتغياه من أهداف جمالية تعبر عن الوعي بالواقع أولا، وعن امتلاك الأدوات القادرة على إنتاج الخطاب الثقافي بكل ممكناته.
الوظيفة التعبيرية: تعبيرا عن رأي عام (وفق الانتشار ) تعبر النكتة عن رأي الجماعة البشرية في شخص ما أو نظام ما أو حدث ما مما يجعلها وسيلة دامغة لتفسير الوقائع وفق رؤية من يمتلك رؤية ليست متاحة للجميع، مما يجعلها بدرجة ما تكون بمثابة الخطاب الأكثر وعيا من وعي الخطاب السياسي التي تكون تعليقا عليه أو تفسيرا له.
الوسيلة الدفاعية: أنتجت الشعوب الأسطورة للدفاع عن عقليتها، في محاولة لإدعاء المعرفة والقدرة على ملاحظة الأشياء وتفسير الظواهر، مما يعني أنها تمتلك ما يؤهلها لرؤية عالمها، غير أن ذلك ( من وجهة نظر حديثة ) يعد نوعا من التفكير البدائي الذي لم تتخلص منه الشعوب بعد مما يجعله قريب الصلة باعتماد النكتة وسيلة دفاعية تعتمدها الشعوب لتدفع عن نفسها الجهل، النكتة ” بنت منتجها ونتاج ثقافته وحصيلة معارفه ودرجة وعيه وهي موقف حياتي ذو صبغة لغوية جمالية محببة وعمل فكري متطور يرتكز على المنطق باستدلالاته واستقراءاته واستنتاجاته مع الأخذ بعين الاعتبار متطلبات المتلقي ورغباته ” ([6]).
جلد الذات: حين يعاقب الشعب نفسه، ويعاقب حكامه منتقما من بطولاتهم الزائفة ومهدرا كرامتهم المستهدفة، عندها تبدو النكتة مقصودة لذاتها ” الجماعات البشرية التي تعيش في بحبوحة تمارس الضحك كفعل، أما المجموعات التي تعيش في عوز فإنها تمارسه كرد فعل والبحبوحة لا تعني الكفاية المادية فقط وإنما تعني إضافة إليها توفير حد مقبول من مستلزمات الكرامة الإنسانية ” ([7]

الانتشار: الذي تحققه كلتاهما عبر قدرتها على اختراق الدوائر المختلفة للثقافة الإنسانية، لقد نجحت الأسطورة قديما في الانتشار محققة البقاء، ونجحت النكتة حديثا في الانتشار الأسرع والأوسع محققة الهدف نفسه.

لقد انتشرت الأسطورة قديما ليس لكونها قصة خارقة تختلف عن النظام السائد للمحكي وقتها وإنما لأنها النوع الذي لا ينافس، فلم تكن النواع الأدبية التي عرفت فيما بعد قد عرفت وحققت انتشارها الواسع كما هو الآن، غير ان النكتة قد حققت انتشارها في حالة من التحدي، التحدي للأنواع الأخرى المختلفة والمنافسة على نطاق واسع وقد نجحت النكتة إلى أبعد مدى في تحقيق المنافسة والحفاظ على مكانتها على الرغم من تعدد الأنواع وقدرتها هي الأخرى على الانتشار، النكتة تحقق ذلك في ظل انتشار الفيديو، والفيلم، والأغنية و، والرواية، والشعر، والمقالة وغيرها.

تاريخ الصلاحية

لأن طول الوقت والتكرار يفسدان النكتة فإنها تعمد باستمرار إلى تجديد نفسها عبر صيغ مختلفة أو عبر تقنية الاختفاء والظهور، تختفي زمنا لتظهر مع مناسبة ما، تخترق الذاكرة دخولا إليها وتستقر ربما سنوات قبل أن يحين استنفارها بفعل موقف يثير شهية مختزنها لإلقائها وهو ما يعني أن النكتة حين تولد من جديد تحافظ على جوهرها دون ملفوظها الذي يتغير بفعل ظروف اللحظة وهدف الولادة الجديدة المتأثرة بعاملين أساسيين:

عامل المكان: حيث النكتة تولد في مكان وتنتشر في آخر

‏ ” من أعراض الإدمان على المخدرات: الكآبة- العزلة- عدم الاهتمام- الحاجة الملحة للمال طيب ألحين كيف نميز بين المدمن والمواطن ؟!

انتشرت هذه النكتة في مصر ووجدت طريقها إلى معظم البلدان العربية وفي كل مرة تولد ولادة جديدة بمنطوق جديد

عامل اللحظة:
عامل الحدث المتكرر الذي يكون بمثابة المثير للنكتة أو المستدعي

خصوصية النكتة العربية / المصرية

لا تتوقف الشعوب عن إنتاج النكتة، ليس لأنها مجبولة على إنتاجها وإنما لأن أحداث حياتها ولحظاتها الفارقة لا تتوقف مستدعية روحها الساعية إلى التفسير والتأويل فالوعي الجمعي حين يضيق بفهم الظواهر والأحداث يروح يجتهد في تفسيرها وفهمها بالصورة الأكثر وعيا من وجهة نظره،

للنكتة المصرية خصوصيتها، ليست الخصوصية نابعة من طريقة الأداء أو فاعلية المغزى وإنما هي تنبع من خصوصية العقلية، ودوافعها الثقافية، وهو ما أشار إليه إبراهيم عبد القادر المازني في مقالته:” النكتة المصرية ” حيث يراها: مظهر فطنة ([8]) ويرجع المازني النكتة المصرية إلى ثلاثة عوامل:

ما أشتهر به المصريون من أقدم العصور من الذكاء الفطري وحدة الفؤاد………
ما هم مفطورون عليه من الجلد المدهش، والقدرة على التشدد والصبر والاحتمال، ومن أعون الأشياء على الجلد أن تستطيع أن تهون الأمر على نفسك بنكتة ساخرة، وأن تهون أمر من منه بلاؤك ومصابك بأن تركبه بالهزل، وأن ترسم له صورة تغري بالضحك منه والاستخفاف به.
أن المصري عاش في ظل حكم استبدادي غاشم آلافا من السنين والعسف يورث في النفوس مرارة. ولا يبيت الناس منه إلا على حذر وتقية وإذا كان المصريون لم يستطيعوا في هذه الأدهار الطويلة أن يغيروا الحال تعبيرا نحو ما استقر في أعماق نفوسهم، فقد كان ملجؤهم التحرز وإضمار سوء الظن وإطلاق اللسان، وألفوا أن يدعوا حكامهم وولاة أمورهم يفعلون ما يشاءون، على أن يقولوا هم فيهم ما يشاءون، ولست أعرف أمة أخرى – وقد أكون مخطئا – تبسط ألسنتها في رجالها ورؤسائها وحكامها، كما يبسطها المصريون ” ([9])
” النكتة باعتبارها مرآة النفس ومشكاة الروح ومصفاة الحكمة، إما أن تكون مسالمة أو مهاجمة، وساعة الطيف أو محدودة الانتشار، ذات عمر محدود أو ممدود ” ([10]).
” فالنكتة المصرية لون من ألوان العلاج النفسي الاجتماعي يعالج به المصريون ما في داخل نفوسهم من نقص وعيب واختلال وانحراف، عن طريق النكتة يؤكد الشعب المصري على مصيره… ويعلن بها حبه لمصيره العميق ” ( [11])
يعلن ترمومتر الأزمات عن صعود معدل النكتة وهبوطها وفق نوع الأزمة وأثرها الاجتماعي:” تنتشر النكات عادة وقت الأزمات أكثر من انتشارها في الأوقات العادية، ونوع الأزمة ودرجتها يحددان نوع النكتة ووجهتها، فالفردية والتسلط يؤديان إلى تنشيط النكات السياسية الموجهة للولاة والقضاة والاستغلال والاستئثار يثيران النكات العدائية الموجهة إلى التجار والشطار، والطبقية والتطرف يولدان النكات الاجتماعية الموجهة إلى الأغنياء والفقراء ” ([12])

” الأمريكية تنجب الأطفال كدليل حب ووفاء والتزام، الفرنسية تنجب الأطفال لتمنحهم حياة جديدة وتضمن لهم حقوقهم. الألمانية تنجب الأطفال لكي تحس بطعم الأمـــومــة، والعربية تــولد لكيلا يتركها زوجها تحية ﻷمهاتنا اللي ولدونا ﻷهداف سياسيـــة”

عبر نطاقين أساسيين تنطلق أسطورية النكتة:

ملحميتها الجغرافية: حيث تجمع ثلاث قارات في نص واحد منتقية نموذجا صالحا للتعبير عن ثقافات مختلفة، ثقافات ذات طبيعة عولمية بالأساس، وهو عنصر له طبيعته العصرية الذي يتوافق مع طبيعة عصر السرعة والسماوات المفتوحة.
جينات التفكير الأسطوري: تلك الجينات المترسبة في تفكير المرأة العربية مشكلا جانبا كبيرا من ثقافتها الزوجية تلك التي تترجمها مجموعة من المقولات الراسخة في عقلية الزوجة العربية، من مثل: يغلبك بالمال وتغلبيه بالعيال، أو تلك المفاهيم التي تجعل الزوجة العربية ترى مستقبلها الزوجي مرهونا بإنجاب الأبناء وخاصة الذكور، وهو تفكير مازال مسيطرا على تفكير المرأة العربية.
سيدة كانت تسير في الصحراء ووجدت مصباح علاء الدين، فحكته وطلع منه المارد وقال لها: شبيك لبيك عبدك بين أيدك اطلبي مابدا لك، بس فيه شرط: لك ثلاث طلبات بس، وكل طلب تطلبينه زوجك سيحصل، على 10 أضعاف الطلب . قالت:ليست مشكله قالت: أريد أكون أجمل وحدة في الكون قالها لها المارد: زوجك سيكون عشر أضعاف جمالك قالت ليست مشكله ولكن سييحبني لأني أجمل نساء الأرض . الطلب الثاني قالت: أريد أكون أغنى امرأة على وجه الأرض . قال لها: زوجك سيكون أغنى منك عشرات الأضعاف قالت: ليست مشكله انا ما راح احتاجه . الطلب الثالث: قالت أريد أن تأتيني جلطة خفيفة في القلب.
تتحقق الأسطورية هنا عبر طريقتين أساسيتين:
مباشرة: حيث المارد والأمنيات بوصفه جينات أسطورية قديمة تفرض نفسها في عصر العلم والتكنولوجيا، كاشفة عن تمسك الإنسان بها أو طرحها بوصفها بقايا هذا التفكير الأسطوري المستقر في العقل الجمعي، والمطروح بوصفه تيمة متعارف عليها تلجأ لها الجماعة البشرية للتعبير عن قضية ما خروجا من الدائرة التقليدية التي تطرح المعنى بشكله لا الكنائي الإيحائي.
غير مباشرة: في إشارته لقوة الطرح المحققة نتيجة التفسير للعلاقة الزوجية في أحد جوانبها وهو ما يستدعي طرحا لأسئلة من قبيل: ما العوامل والظروف المفضية للعلاقة أن تأخذ هذه الصورة في إنتاجها للمفارقة بين ماهو متوقع من علاقة إنسانية وماهو قائم بالفعل وتعبر عنه اللوحة السابقة. – مذيعة تليفزيون قابلت شاب فى الشارع سألته سؤال جاوب إجابة صحيحة، طلبت منه يحب يشوف أيه، أجاب الشاب بسرعة: أمى الله يرحمها، ردت المذيعة مستحيل و ترجته أنه يطلب طلبا آخر، فكر الشاب ثم قال: أحب أشوف الزمالك بياخد الدورى… ردت المذيعة: لأ أجيبلك مامتك أسهل.
هنا تضرب النكتة مركز الأسطورة المتمثل في إمكانية رؤية الموتى، فهي ( النكتة ) تشغل المتلقي عن التفكير في كيفية رؤية الحي للميت، أيهما يذهب للآخر مثلا ؟، طارحة مستحيلا بديلا وهو حصول الزمالك على الدوري، النكتة هنا تقلب مفهوم المستحيل حيث تجعله أبسط بكثير مما سواه، وهي النقطة التي تبدأ فيها الأسطورة عملها

أسطورية الوسيط

من حيث الوسيط اعتمدت النكتة على ثلاثة وسائط كانت بمثابة القنوات الاتصالية بين منتجها ومتلقيها:

الوسيط الشفاهي: وهو الأكثر انتشارا على الأقل حتى مرحلة ظهور مواقع التواصل الاجتماعي واعتمادها بوصفها قناة اتصال أكثر فاعلية بين البشر وراحوا يستثمرونها لصالح النشر الجماعي تعبيرا عن آراء لها علاقة بالواقع أكثر مما لها علاقة بالخيال.
الوسيط الورقي: طوال الوقت اعتمدت النكتة على الوسيط الشفاهي بوصفه الوسيلة الأولى لنشر النكتة على نطاق واسع
الوسيط الالكتروني: وهو الوسيط الأحدث الذي اعتمد على ثلاث طرائق خاصة بطبيعته التقنية:
الخطية: تقوم على كتابة النكتة وتداولها عبر المدونات ومواقع التواصل الاجتماعي والرسائل القصيرة وتعتمد فقط على الكلمة بوصفها ناقلا تعبيريا، وقد مكنت التقنيات الحديثة من التواصل السريع بين البشر كما أتاح النسخ بوصفه التقنية الأبرز في تطبيقات الكمبيوتر أتاح مساحات واسعة من الترويج لمقولات ما أو
الخطية المصورة: وتجمع بين الكلمة والصورة سواء كانت صورة ثابتة يتغير فيها اللفظ ويبقى فيها
الفيديو: حيث يستثمر منتج النكتة التقنيات والبرامج الحديثة في إنتاج فيديو له طابعه الساخر قائم على الربط بين أو الجمع بين مجموعة من المشاهد الواردة في عدد من الأفلام السابقة معتمدا تقنية التناص / التناصات المتنوعة الداخلة في نسيج واحد منتجة نصا دالا.

أسطورة ياومينج المستوردة

في 2010 أطلق ضحكته الشهيرة التي وجدت طريقها إلى صفحات التواصل الاجتماعي لتتحول إلى أيقونة للسخرية، صانعا أسطورة لها خصوصيتها على مستوى الصفحات بكل لغات العالم ولتصبح جملة ساخرة تجمع بين المرئي والمقروء، وبين الحس الساخر والفكاهي، وقد وجدت الصورة أرضا خصبة في الوسط المصري بوصفه مسرحا ثريا للسخرية، ومساحة من النمو لم تكن لتجدها في أي مكان آخر بالعالم، وقد تشربت الصورة بالطريقة المصرية التي حولت الكثير من النكات القديمة إلى تقنية إعادة التدوير للقديم منتجا منه نظاما حديثا يتوافق مع الطرائق الجديدة للنشر والكتابة وتلقفها الكثير من أصحاب الصفحات محولينها إلى علامة على الواقع المصري تفسيرا وتعبيرا، ولسان الحال يقول: إن الأحوال في مصر جعلت الجميع في حالة من الكآبة مما دفعهم لاستيراد وجه ضاحك لم يعد موجودا بينهم وهو ما يؤكد صدق الاستيراد في دلالته على واقع متعين لا يخفى على الجميع وانطلق المصريون يعزفون لحنا جنائزيا يتشارك الجميع في عزفه، أو هم يرسمون لوحة شديدة السخرية من واقع لم يعد يحتمل إلا بتحويله إلى مادة للسخرية، وهي في حد ذاتها أسطورة الشخصية المصرية حين تحول الموت والحياة والمآساة إلى نكتة شديدة المرارة أحيانا وهو ما ينتمي إلى ما يسمى بالكوميديا السوداء التي برع المصريون في إنتاجها على مر السنين.

لقد أصبح ياومنج أيقونة للوعي الجمعي

بابا جاب موز.
بابا جاب بطيخ.
الراجل اللي ورا عمر سليمان.
أساحبي.

لدى الشعب المصري القدرة على تحويل اشد اللحظات جدية إلى أشدها سخرية، راجع مشهد التنحي وصورة عمر سليمان ( الراجل اللي ورا عمر سليمان ).

الواقع – الأسطورة – النكتة

الواقع بوصفه مساحة حركة الإنسان ومجال نشاطه الحيوي لا يكتسب أسطوريته إلا بالرواية من حيث هي عملية سرد وليس من حيث هي جنس أدبي.
الواقع أسطورة خاملة يحرك جيناتها الخيال، والأسطورة واقع نشط لكنه واقع علوي أرقى خياليا من واقع يدهس الإنسان بمشكلاته الدائمة حد الأزلية.
الأسطورة لها واقعها الخاص الذي تتعالى فيه على الواقع المتعين، فهي تنظر إليه من عل حين تجعل الواقع معيارا للأسطورة، نعرفها بما نخبره من الواقع، في الصغر حين لا نتعرف على العالم تماما ولا نعرف كيف تحدث الأشياء نرى العالم من حولنا أسطورة كبرى مترامية الأطراف لمجرد شعورنا باتساعه، وهو شعور ينزاح رويدا رويدا كلما استجلت مداركنا تفاصيل العالم ذات الطابع الأسطوري.
النكتة كالأسطورة نصفها واقع ونصفها خيال، وما بين الواقع والخيال هناك خيال مهيأ لاستقبال النصف الثاني، النصف الصاعد من الواقع إلى الخيال الأعلى من الواقع، النكتة جبل جليدي نصفه في الماء الواقع أمام عينيك ونصفه في الهواء الطلق هو يتحقق في الخيال / الهواء أكثر من تحققه في الاتجاه المعاكس، فتحققه يكون برؤيتنا له، بإدراكنا طبيعته ومعرفتنا لماذا هو هنا.

تحقق النكتة أثرها بما هو أسطوري علينا تقبله تماما كما نتقبل الجزء الواقعي

النكتة والأسطورة عنصران لسبيكة واحدة نلمح منها عنصرها الأول (النكتة) ورويدا يتكشف لنا العنصر الثاني (الأسطورة) تماما كالحرف المد يبدأ بالمتحرك وينتهي بالساكن كالحرف مشدد يأخذك لما هو خارج الدوائر المنغلقة، المشدد يبدأ بالمتحرك وينتهي بالساكن أي ينغلق عند نقطة محددة.

من زاويتين أساسيتين ستظل النكتة أسطورة لعصرها: من زاوية جيناتها الممتدة إلى الأسطورة القديمة، ومن زاوية حرصها على تصدر المشهد الإنساني بوصفها أسطورة طورت نفسها مستجيبة لعوامل التطور وأسباب البقاء وفق قوانين العصر.

…………………………..

هوامش وإحالات

[1] – رولان بارت: أسطوريات، أساطير الحياة اليومية – ترجمة: د. قاسم مقداد-دار نينوي للدراسات والنشر والتوزيع – دمشق – 2012.

[2] – د. عبد الله الشاهر: ماهية الأسطورة وطبيعتها – مجلة الموقف الأدبي – اتحاد الكتاب العرب – دمشق – مجلد 43، عدد 517، ص 17.

[3] – د. زكريا إبراهيم: لماذا نضحك؟ – مجلة الهلال – دار الهلال – القاهرة – العدد الثامن – أغسطس 1966، ص 4.

[4] – د. منال محمد هشام نجار: النكتة قراءة مقامية براجماتية – مجلة أفنان – النادي الأدبي – تبوك – ع 21 – أبريل 2013، ص 48.

[5] – الأسطورة: حكاية تنتقل بوساطة الرواية وتدور حول الآلهة والأحداث الخارقة، وتختلف عن الملاحم التي تسجل فعالا إنسانية، وعن الخرافات التي ابتكرت لأغراض التعليم والتسلية….وثمة تفسير يرى أن الأسطورة ابتكرت للإبانة عن الحقيقة في لغة مجازية ثم نسي المجاز وفسرت حرفيا، ويرى جيمس فريزي في كتابه ” الغصن الذهبي ” أن الأساطير كلها ارتبطت أصلا بفكرة الإخصاب في الطبيعة، ولا يسلم علماء الإنسان القديم الآن بنظرية واحدة تطبق على كل الأساطير، والأصح عندهم التفسير الخاص بأساطير كل أمة. واستغلت الأساطير في الأدب وبنوع خاص في قصص الأطفال ” الموسوعة العربية الميسرة – المكتبة العصرية – بيروت 2010، المجلد الأول – ص 283.

[6] – كمال راغب الجابي: النكتة صناعة، ورواية، ورسالة – مجلة المعرفة – العدد 468 – دمشق – سبتمبر 2002، ص 274.

[7] – السابق ص 278.

[8] – إبراهيم عبد القادر المازني: النكتة المصرية – مجلة الهلال – العدد رقم 7 – أول يوليو 1947، ص 58.

[9] – السابق ص 60.

[10] – كمال راغب الجابي: النكتة صناعة، ورواية، ورسالة – مجلة المعرفة – العدد 468 – دمشق – سبتمبر 2002، ص 274.

[11] – توفيق حنا: النكتة المصرية – مجلة الهلال – العدد 8- أغسطس 1966، ص 140.

[12]– السابق نفسه.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى