معد الجبوري - أبو الينبغي.. الشاعر الظريف

من الشخصيات المغمورة في تراثنا

قيل له: لِمَ اكتنيتَ بأبي الينبغي؟ فقال: لأني أقول ما لا ينبغي.ـ
هذا هو العباس بن طرخان، الشاعر العباسي الظريف الذي عاش في العصر الذهبي للدولة العباسية، وامتد به العمر من خلافة المنصور حتى خلافة المعتصم، وعُرِفَ بأبي الينبغي.ـ
لم تذكر مصادر ترجمته تاريخ مولده أو وفاته، وتشير إلى أن المرزباني جمع له أخباراً مفردة، وفيها يقول: ( خدمت المنصور ولي ثلاث عشرة سنة ) والمعروف أن ولاية أبي جعفر المنصور كانت بين 136 – 158 للهجرة، فإذا كان شاعرنا قد خدم المنصور قبل خمس سنوات من وفاة الأخير، فهذا يعني أنه ولد عام 140 للهجرة.ـ
أما وفاته فقد أشارت بعض المصادر إلى أنه توفي في حبس المعتصم لأنه هجاه، فيما يقول ابن المعتز في طبقاته: إنه ( هجا الفضل بن مروان فحبسه بعد أن أغرى به الواثق، وأنهى إليه أنه هجاه، فبقي في السجن حتى مات، وكان يُجري عليه في السجن أجراً تاماً حسناً.) .. والفضل بن مروان بن ماسرجس هو الوزير الذي تغير عليه المعتصم، ثم قبض عليه في شهر رجب سنة إحدى وعشرين ومائتين وقال: عصى الله في طاعتي فسلطني عليه ، فحبسه خمسة أشهر، ثم أطلقه، واستوزر بعده أحمد بن عمار.ـ
وعلى ضوء ذلك يمكن تصور موت (أبي الينبغي) الشاعر عام 221 للهجرة وهو عام عزلِ الفضل بن مروان الذي كان يُجري عليه أجرا تاما في السجن، فضلا عن أننا لم نعثر على أي خبر له بعد هذا التاريخ.. وفي كل الأحوال فقد عاش شاعرنا أكثر من ثمانين عاما.ــ
ـ * شاعريته وطرائفه:ـ
قيل عن (أبي الينبغي) : إنه شاعر محسن، ظريف طيّب ذو مزاح وهجو، كانت له أخبار مع الرشيد والأمين والمأمون والمعتصم، مدحهم ومدح الوزراء والأكابر، وهجاهم على سبيل اللعب والتطايب.. وقيل: كان سريعاً إلى أعراض الناس، يهجوهم ويقطعهم، وقيل: كان يتحامق ويتكسَّب بالحمق، وكان أحد الدواهي والمُجَّان.ـ
وقد أدرج بعض الباحثين الشاعر أبا الينبغي ضمن شعراء (الكدية) والتسول، وشعره في باب النقد الاجتماعي، وواقع الأمر أنه مع كثرة تبرمه من الحرمان ونقده بعض الظواهر الاجتماعية، فقد كان على صلة بأكثر من خليفة ووزير وأمير وله صلات بأكابر الناس في عصره، ورجل هذا شأنه لا بد أن يكون بعيدا عن الكدية، بل إن جل ما في الأمر أنه كان يتكسب بشعره والتكسب غير التسول، مع ميله إلى السخرية والطرفة في شعره وسلوكه.
فمن طرائفه مع الخلفاء أنه ( لما قتل محمد الأمين بن زبيدة وصار الأمر إلى المأمون ذُكِرَ له أبو الينبغي فأمر بإحضاره فلما دخل عليه وسلَّم، أمره بالجلوس فجلس، فقال له بعض الجلساء: قم فأنشد أمير المؤمنين، فقال: يا رقيع، أمير المؤمنين يقول لي اجلس وأنت تقول لي قم. فقال المأمون: بل اجلس وأنشد، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، وأنشأ يقول:ـ
ـ كنتمُ أنتـمْ ثلاثـــــــة كلّكم نســــــــلُ الملوكْ
ـ ذهب الموتُ بواحـــــدْ ما أرى ذاك يســـــوكْ
فقال المأمون: اغربْ قَبَّحَكَ الله ، وأمر به فأُخرِج ، ثم قال: لا والله ما ينبغي أن نخيِّبَه فقد قال على جنونه شبيهاً بالحق، ولا والله ، أعطوه عشرة آلاف فقبضها وانصرف. وهو يقول: شبيه بالحق! لا والله إلا الحق كلّه.)ـ
ومن طرائفه مع الأكابر ما رواه القاسم بن المعتمر الزهري، قال: ( كنت أسير مع يحيى بن خالد وهو بين ابنيه الفضل وجعفر، فإذا أبو الينبغي واقف على الطريق، فنادى : يا زهري يا زهري، قال: فاستشرفت إليه فقال:ـ
ـ صحبتُ البرامكَ عشراً ولاءْ وبيتي كِراءٌ وخبزي شِـــــــــــراءْ
فسمعه يحيى، فالتفت إلى الفضل وجعفر، فقال: أفٍّ لهذا الفعل، أبو الينبغي يُحاسِب؟! فلما كان من الغد جاءني أبو الينبغي فقلت: ويحك ما هذا الذي عرَّضتَ له نفسَك بالأمس؟ فقال: اسكت، ما هو والله إلا أن صرتُ إلى البيت حتى جاءني من الفضل بدرة ومن جعفر بدرة، ووهبني كلُّ واحد منهما داراً، وأجرى إليَّ من مطبخه ما يكفيني.) ـ
وللتنوخي، في كتابه الفرج بعد الشدة، هذه الحكاية الغريبة: ( كان المأمون قد غضب على فرج الرخجي، فكلمه عبد الله بن طاهر، ومسرور الخادم، في إطلاقه. قال فرج: فبت ليلتي، فأتاني آتٍ في منامي، فقال لي:ـ
ـ لمّا أتى فرجاً من ربِّه فرجٌ ... جئنا إلى فرجٍ نبغي به الفرجا
فلما كان من الغد، لم أشعر إلا واللواء قد عقد لي على ولاية فارس والأهواز ، وأطلق لي خمسمائة ألف درهم. فإذا أبو الينبغي على الباب، وقد كتب هذا البيت في رقعة. فقلت له: متى قلتَه؟ قال لي: البارحة، في الوقت الذي رضيَ عنك فيه. فأمرتُ له بعشرة آلاف درهم.)ـ
وكان الناس آنذاك يتحاشون التحرش بأبي الينبغي ، من ذلك ما يرويه محمد بن عمران قائلا: (مضيتُ أنا والوليد وابن الدورقي الشاعر إلى باب الطاق يوماً من الأيام ، فتلقانا أبو الينبغي الشاعر، فمن قبل أن نصل إليه ، قال لي ابن الدورقي: هل لك في أن نسخر من أبي الينبغي ساعة؟ فقلت لا تفعل، فإنه سريع الفحش، جيد البديهة خبيث اللسان. فقال: وما عسى أن يقول؟ الله ! ما هجاؤه بشيء. ولكن إذا دنونا منه فقل هذين الحرفين:ـ
ـ أمُّ أبي الينبغي عجوز سـوء بغي
فلما قربنا منه قلت ذلك. فنظر إلى ابن الدورقي نظر مغضب وقد علم أن ذلك من فعله والبيت من قوله، فقال على بديهته من غير أن يتفكر:ـ
ـ أ.... أبي الينبغي مِن امِّكَ في المبزغِ
وأشار بيده إلى أبن الدورقي. قال: فنظرت إليه وقد أصفر لونُه. فقلت: ألم أنْهَكَ أن تفعل؟ )
لقد ظل أبو الينبغي ظريفا سريع البديهة، حتى وهو في السجن. يقول أبو هفان: ( دخلت على أبي الينبغي وهو محبوس فقلت له: ما كانت قصتك؟ قال: أنا أبو الينبغي، قلتُ مالا ينبغي، فحبست حيث ينبغي.) ـ
ـ* أبو الينبغي وإبهام المعنى:ـ
ومما عُرِفَ عنه اعتماد (الإبهام) في بعض نصوصه، وهو أن يقول المتكلّم كلاماً مبهماً يحتمل معنيين متضاديّن لوجهين مختلفين، ومن شواهد ذلك ما نظمه حين تزوج المأمونُ (بوران) وهي بنت الحسن بن سهل، وليس في تاريخ العرب زفاف أنفِقَ فيه ما أنفق في زفافها على المأمون سنة 209 للهجرة، وللشعراء في وصف تلك الليلة شعر غير قليل. ومما استظرف مما قيل في ذلك من شعر، قولُ أبي الينبغي:ـ ـ
ـ بارَكَ الله للحَسَـنْ ولِبُورانَ في الخَتَنْ
ـ يا ابنَ هارونَ قد ظَفِرْتَ ، ولكنْ ببِنـتِ مَنْ! ـ
فلما نمي هذا الشعر إلى المأمون قال: ( والله ما ندري خيراً أراد أم شَرّا !) ذلك أنه لم يُعلَم ما أراد بقوله (ببنتِ مَنْ ؟!) هل أراد به الرفعة أم الضعة؟
ومن ذلك، أن أبا الينبغي دفع إلى خياط أعور اسمه زيد، طيلساناً يقوِّرُه له فلما جاءه ليأخذه دفعه إليه، وقال له: قد خِطتُ لك شيئاً لا تدري أهو طيلسان أو هو دواج. فقال: وأنا أقول فيك بيتاً لا تدري أهو مدح أو هجاء. وأنشده:ـ
ـ خاط لي زيد قباءْ ليت عينيه سواءْ
أي صحيحتان أو ذاهبتان، فهل تمنَّى أن تكون عيناه سليمتين أم سقيمتين؟ أم انه إبهام المعنى في الدعاء له بالدعاء عليه؟ .. يقول الحصري في جمع الجواهر، بعد إشارته إلى بيت أبي الينبغي: ومن هنا اهتدى أبو الطيب المتنبي إلى قوله:ـ
ـ فيا ابن كرَوّسٍ يا نصفَ أعمى وإن تفخَرْ فيا نصــــــفَ البصــــــيرِ
إن بعض الكُتَّاب كالمسعودي وابن خلكان واليافعي في مرآة الجنان، نسبوا بيتيه في زفاف بوران، إلى شاعر آخر هو أبو جعفر محمد بن حازم الباهلي المتوفى عام 215 للهجرة، ومن يقرأ شعر هذا الشاعر يستبعد أن يكون هذان البيتان له، فشعره بعيد عن مثل هذا الأسلوب، فضلا عن أن المصادر الأخرى التي ترجمت لأبي الينبغي تثبت هذين البيتين له.ـ
ـ* رأي في شعره :ـ
قيل: (كان أبو الينبغي ضعيف الشعر، قلما يصح له الوزن) إلا أنني لم أعثر له على قصائد غير موزونة، مع أن من يقرأ شعره يحس بأنه أمام شاعر لا يعنى بالوزن كثيرا ولا يعير اهتماما للخلل البسيط في الإيقاع. وينظم عموما على المجزوء من البحور: الرمل، الخفيف، الرجز، الهزج، وعلى السريع . أما القول بأنه ضعيف الشعر، فهو رأي ينظر إلى نصوص أبي الينبغي كما ينظر إلى نصوص كبار شعراء تلك الفترة ممن نظموا القصائد الفخمة الرنانة. وواقع الأمر أنَّ أبا الينبغي الذي لم تكن تعنيه مثل تلك الفخامة، نسيج خاص امتاز شعره ببساطة مفرداته وبأسلوبه الفكِه الساخر الظريف بما ينطوي عليه من دلالات عميقة تشكل بالتالي بصمةً خاصة متفرِّدة بين شعراء الفترة التي عاش فيها.ــ
ـ* نماذج من نصوصه :ـ
مما يُستملَح لأبي الينبغي بيتان ، يعلق (ابن المعتز) في طبقاته على البيت الثاني منهما، قائلا: (وطار له البيت الثاني في الآفاق ولهج الناس به ، فهو ينشد في كل مجلس ومحفل وسوق وطريق . وإنما يرزق البيت من الشعر ذلك ، إنْ كان جيدَ المعنى ، عذبَ اللفظ ، خفيفاً على اللسان.) يقول أبو الينبغي:ـ ـ
ـ صبراً على الذلِّ والصَّغارِ يا خالقَ الليـلِ والنهـــــارِ
ـ كم مِنْ حمـارٍ على جوادٍ ومِنْ جوادٍ بلا حمـــــــارِ!ـ
ويضيف ابن المعتز: إن مما سار له في الدنيا ورواه كل أحد لخِفَّتِه على الأفواه، قوله :ـ
ـ ألا يــــــــا ملـكَ النـاسْ وخيرَ النـاسِ للناسْ
ـ أتنهاني عن النـاسْ فأغْنِنِي عن النـاسْ
ـ وإلاَّ ، فـدَعِ النـاسْ ودعني أســـأل الناسْ
ـ فهل سمعتَ في الناسْ بشـــــــعر كلُّه النـاسْ ؟
إنَّ مما يلفت الانتباه في هذه الأبيات، أن مثل هذا التكرار لكلمة واحدة في صدر البيت وعجزه ضمن أربعة أبيات شعرية، أمر نادر في الشعر العربي التقليدي.. وله في آل برمك :ـ
ـ إنما الدنيا كبيضٍ عمـلوهُ نيمرشْ
ـ فحشــــــــاه البرمكيُّـون وقال الناس: كشْ
ومن شعره:ـ
ـ لزمْـتُ دهليزَكُـــــــــمُ جمعَـــــةً ولم أكُنْ آوي الدهــــــــاليزا
ـ خبزي مِن السوقِ ومدحي لكُمْ تلكَ لعمري قســــــــمةٌ ضيزى
ومن شعر أبي الينبغي في الناس، قوله:ـ
ـ بلوتُ هذا النـاس ما فيهمُ مِن واحدٍ لأحـدٍ حـامدْ
ـ حتى كأنْ قد أفرِغوا كلهُمْ كلهُمُ في قَـالبٍ واحـدْ

**
ـ* المصادر :ـ
ـ1- الحصري ، أبو اسـحق إبراهيم بن علي بن تميم الأنصاري - جمع الجواهر في الملح والنوادر - تحقيق علي محمد البجاوي ، 1954م - 1/118
ـ2- ابن خلكان، أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر- وفيات الأعيـان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق: احسان عباس ، دار صادر ببيروت 1994- 1/ 289
ـ3- الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان - سير أعلام النبلاء ط9، تحقيق: شعيب الارنؤوط ، مؤسسة الرسالة ببيروت 1413 هـ / 1993 م - 10/615
ـ4- الصفدي ، صلاح الدين خليل بن ايبك – الوافي بالوفيات ، دار المسـتشرقين الألمان، استنبول 1931م - 5/334
ـ5- العباسي، عبد الحليم بن أحمد- معاهد التنصيص على شواهد التلخيص، مصر1367هـ- 1/ 295
ـ6- القاضي التنوخي، أبو جعفر أحمد بن إسحاق بن بهلول- الفرج بعد الشدة، تحقيق: الدكتورعبود الشالجي، بيروت 1978م - 1/109
ـ7- القاضي التنوخي، أبو جعفر أحمد بن إسحاق بن بهلول - المستجاد من فعلات الأجواد ، نشر محمد كرد علي- 1946م 1/43
ـ8- المسعودي ، علي بن الحسين - مروج الذهب ومعادن الجوهر ، دار الأندلس ببيروت 1385هـ / 1966م - 2/49
ـ9- المعافى بن زكريا، أبو الفرج ابن طرار - الجليس الصالح والأنيس الناصح ، تحقيق : د. محمد مرسي الخولي - 1981م - 1/464
ـ10- ابن المعتز، أبو العباس عبد الله بن المعتز بن المتوكل- طبقات الشعراء، دار المعارف 1956م - 1/36-37
ـ11- ابن النديم، أبو الفرج محمد بن اسحاق – الفهرست، تحقيق رضا تجدد، مطبعة دانشكاه في طهران 1391هـ / 1971م - 1/189
ـ12- النويري، شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب بن محمد- نهاية الأرب في فنون الأدب- دار الكتب المصرية 1992- 2/318
ـ13- اليافعي ، عبد الله بن أسعد بن علي - مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان- ط2 بيروت 1970م - 1/230


* عن بيت الموصل
أعلى