د. سامي عبد العال - الله والمعنى: قُبيْل السقوط

في حوارهِ الأخير عام 1966 مع مجلة دير شبيجل Der speigel الألمانية والذي نُشِر بعد موتهِ بناء على رغيته، قال مارتن هيدجر: " وحدُه إلهٌ فقط باستطاعته انقاذنا. وفيما أعتقد ليس لنا إلاَّ الفكر والشعر لتهيئة ظهوره appearance أو اختفائه في حالة سقوطنا decline: ذلك أننا سنهلك بلا معنى meaningless في غياب الله"[1]. توقيت إجراء الحوار مهم وهو قبل رحيل هيدجر بعشر سنوات ( مات 26 مايو1976 )، حيث كان من ألمع العقول التي أثرت في الفلسفات والمعارف الانسانية المعاصرة. والسنوات العشر الأخيرة من الحياة كافية للتمرن على التفكير بأقصى درجة في المسائل الكبرى، كما أنَّ بلوغ الفيلسوف من الكبر عتياً يجعله شاباً فلسفياً لا العكس. وربما ذلك أبرز معالم التفلسف الخصب: حين لا يشيخ التفكير بينما يتوكأ صاحبه على تأرجح المصير. زخم الفلسفة التي تطرح ذاتها في مراحل الغسق إذ تفقد الإنسانية كل شيء، فالتفلسف مراهنة، مقامرة فكرية على استعادة حياتنا مرة ثانية في أشكال متجددة.

ورغم اختصار فقرة هيدجر بصدد تأثير الفلسفة في أحوال العالم ومآلاته، حيث لم يعطِ صاحبُها تفصيلاً واسعاً، غير أنَّ معناها الذي تدفعه للقارئ واضحٌ، معنى أنَّ فكرة الإله كإبداع انساني تنقذ العالم من السقوط: السقوط في المجهول، السقوط في العدم، السقوط في الصراع، السقوط في لعبة النهايات التي اجتاحت الفكر ما بعد الحداثي. جميع تلك التنويعات على شأفة النهاية تستحضر اللامعنى كغسق للإنسانية، لأنَّ ما يميز الأخيرة هو وجود المعاني فيما نفعل أو لا نفعل.

  • صيغة ( وَحدُهُ إله ) مثالٌ لدلالة أبعد مما يتوقعها القارئ الغربي. الكلمات تؤكد: ذهبت الإنسانية بعيداً وليس من معجزةٍ لرجوعها إلاَّ بحدثٍ استثنائي. فإذا كان الوضع مأساوياً، فليكن الالهُ هو من يتكفل بذلك، حتى عند نقطة الصفر حيث لا أمل سواه. وتشبه مقولة (وحده إله) اعتراضاً يأتي في اللحظة الأخيرة. لقد جربت الإنسانية كل الحيل وقد اعيتها على شفير النهاية.

    • ضمن الموقع المُفارق، المُتعال للإله، يصبح تنوع معاني الإله ممكناً لا اعتقاداً مسبقاً. ولكي يترك هيدجر مساحةً لتخيُل ما يحدُث، تركَ للفكر والشعر المهمة فيما يشبه عمل اللغة التي هي أصالة الأشياء.

    • الانقاذ فعل تهيئة وابداع وحركةٌ للفكر والشعر بوصفهما طاقتي خلْق. والدلالة أنَّ ارادة الفكر جزءٌ من إرادة كلية لا تلاصقها إلاَّ الاشعار الأصيلة كفعل كوني.

    • مفهوم الشعر بالنسبة لهيدجر هو مفهومه اليوناني، كلام الآلهة، الخبز الرمزي الذي يجنب البشر المخاطر، حِكّم وشذرات الأساطير كلها شعرية. ويقف من الوجود موقف التأسيس والتجلي.

    • الله معنى داخل آفاقنا المحدودة، هو معنى المعنى، فنظراً لاستحالة إدراكه، فهو بالنسبة لكل البشر معانٍ إنسانية ما.

    • السقوط هو فقدان المعنى، وفي حالة كهذه تلجأ الإنسانية إلى ما يُضْفي على حياتها شيئاً منه، ووجود المعاني يوازي الحياة وثرائها.

    • يبرز معنى الإله سمات التسامح، الحرية، الأصالة، القوة. وهذا يجسده الشعر والفكر كأبرز ما يكون. وعليه فالإرهاب نوعٌ من اللامعنى، العنف غسقُ المعنى، الايديولوجيات موت المعنى. لأن هذه الاشياء تجسد حالات السقوط المُريع كأنها العدم الذي يترصدنا.

لم يكُن هيدجر ليحدد اعتقاداً لاهوتياً، إنما يرى ( معنى ) الله كرافعة تاريخية أثناء الازمات الكبرى، حين يصبح الإنسان مُعلّقاً على حافة المصير وقد خاب كل مسعاه. ربما الفلسفة لن تسعف نظراً لتعثرها الجدلي والخطابي، وكذلك العلم له مجاله في تاريخ الإنسانية، لكن الخلاص بأدواته ومعارفه يكاد ينعدم ... عجزت رافعة الفلسفة والعلم والتقنية، وبقي الإنسانُ في انتظار شيء آخر. والخلاص ليس بظلاله المسيحية وإنْ حضرت من بعيدٍ(القائلة بالصلب والفداء)، إنَّ ما يتهدد الإنسانية برأي هيدجر ليس نتاج الخطيئة ولا الآثام. فالمعاني والآمال الكبرى لدى الإنسان تقع موقع التأويل لا بحشوها ولا بحرفها القاتل كما قال القديس أوريليوس أمبرواز لتلميذه القديس أوغسطين: ( يا بني لا تعبدَ الحرفَ.. فإنّ الحرف يقتُل ).

لعلَّ الخلاصَ بأنواعهِ(غير اللاهوتية) يشكل تاريخ الحضور الإلهي في ذاكرة البشر، خلاصٌ هو النجاة إزاء الشرور والكوارث والأوبئة المرعبة( إزاء الإنسان). زفرات المجهُول حيث يتوارى كل شيء عن الظهور، وحيث يتشبث الغارق بموقع الإله والبدء في طور آخر من الوجود. ومثلما كان الفكرُ والشعر صيغتين لتجلي الوجود بالنسبة لهيدجر، فقد يتمكنان من استقبالُه ثانيةً، فهما موقعا التأسيس الأقصى لأي أفقٍ بشري. لغة الفكر والشعر ليست وسيلةً خطابيةً بما يُقال، بل علامات أصالة تجاه ما يمثل جوهرَ الإنسانية.

عندئذ يعجز أيُّ قيدٍ عن أنْ يربط وجودنا بما يحُول دون تحطيمه، لأنَّ نمطاً من التعالي trancendentality توفره دلالة الله ليس من جنس المعرفة ولا الدين فقط، لكنه نمط إنساني نتيجة رغبتنا الوجودية في الامتلاء بالمستحيل. هكذا تبرز مقولة هيدجر الزخم الفلسفي لهذه الدلالة المفتوحة open significance للكلمات والنصوص باصطلاح أمبرتو إيكو. إنه يجب نزع فكرة الإله من أيدي اللاهوتيين والإيديولوجيين والراكضين خلف صكوك الغفران كأمراء العقائد والارهاب. أي علينا مناقشتها على أسسٍ إنسانيةٍ في حضور الفكر والشعر وأي انفتاح آخر.

المعنى المتحرر
قراءة المعنى فلسفياً هكذا: هل الله كمعنى يطرحُ تحرُراً من نوعٍ ما؟ ليس نوعاً دينياً، بل وجودياً هيدجرياً بصيغته المطروحة. وعليه سيوازي الخلاصُ الوجودي (الذي يأمله البشر) إمكانيةَ معنى الإله ذاته سلباً وايجاباً. إنَّ فكرة الإله- لكونها تفتح آفاقاً مختلفة- لم تستطع أية فكرة أخرى ملء دلالتها. فالخلاص المصيري سيأتي من جنس الحدث المنتظر، الاثنان يحتاجان شيئاً نافذاً يستدعيه معنى الإله( أي اللقاء الميتافيزيقي، الوجه الأعلى بكلمات إيمانويل ليفيناس). مما يعني وجود الإيمان الفلسفي بالخارق داخل الفكر نفسه، أي التعلق بالمقدس أو الجليل بلغة كانط.

واللافت للنظر: أنَّ ضياع الحرية يساوي(=) equal ضياعاً لفكرة الله. المعادلة الرياضية المترتبة على كلام هيدجر بصدد أنَّ الإله يوازي شيئاً منتظراً لدى البشر، فالضياع موضوع تأسيسيٌّ لا مجرد عَرَض بالمصادفة. ولاسيما أنَّ الله ضربٌ من الأسرار الإنسانية التي يستحيل نيل حقائقها اكراهاً. فالخلاص المتنكر في عبارات الفلاسفة هو حياة للإنسان طالما تتشبث بدلالة الإله. إذن الوجود الإلهي من عدمِه- بتلك الحالة- ليس قضيةً على محك الاختيار اليومي (الإثبات أو الانكار: الإيمان أو الإلحاد). لقد انتقل معانيه إلى ابداع الفكر والشعر، حيث يأتي معنى الإله (أصيلاً) من الأساس!!

صحيح أنَّ الحرية هي لُب أفعالنا، لكنها لا تستقيم بدون معنى متعالٍ، لأنَّ البشرَ سيتطلعون إليها طوال الوقت. كلُّ حريةٍ تقتضي إفساح مسارها إلى مالا نهاية حيث الانعتاق من أية قيود. وحتى فكرة الـ" مالا نهاية" infinity تعدُّ قيداً إلاَّ بإمكانية أعلى تفسحُ لها الطريق. هذا رأي هيدجر حين اعتبر الموت إمكانية قصوى تبلغها الكائنات الإنسانية. الموت نوع من الخلاص أيضاً مثله مثل التحرر، وسينتهي كذلك بفكرتي المجهول والغموض، الحرية لا تُعطى مباشرةً، بل تتطلب تطلعاً إلى شيءٍ أبعد.

لكن كيف لوجود متعالٍّ أنْ يُحرِّر الإنسان؟ إنَّ الأفعال ذات البُعد الديني وحتى المناوئة له تأخذ جانباً مؤولّاً للإله، أي أنها لا تّمر من مرحلةٍ إلى غيرها سوى بالتوكؤ على تأويل الله كمعانٍ في متناول اللغة. إذ يجب التعبير عنه بالضرورة الإنسانية(مثل قول هيدجر)، وتفترضه في آفاق الحياة البشرية كاللوغوس الراعي للأعمال والأحداث. إن معنى الإله متنوع الوجوه وإن جاء الشيطان إزاءه لينال اللعنات كما في التراث الديني، حتى ولو ارتدت الحريةُ بهذا صراعاً داخل ثنائية الله والشيطان، لتصبح مفاهيم الإله لاهوتاً مشبعاً بالكراهية الاجتماعية والسياسية بين الناس، رغم أنَّ دلالته بإشارة هيدجر تعني أفقاً مفتوحاً[2].

وضع الكراهية يظهرُ حين نضل طريقنا الذاتي نحو التحرر؛ أي يقفز معنى الإله اللاهوتي الغالب تجاه كلِّ أنواع التحرر. ولن ندرك ذلك الطريق ثقافياً طالما نترقبه في المكان التفسيري الخطأ، أي خارج ذواتنا. لأنَّ ما يربطنا بمعاني الله ليست العبوديةَ كما يظن الفقهاءُ، ولا أصحابُ المذاهب الدينية حين ينصبون ورشةَ عاطلةً لفتاوى العنف. فالارتباط بمعاني الله يغدُّو صلباً متى أُسِّسَ على اللا رابط؛ أي إذا استندت إلى فعل الانعتاق من أنماطه السائدة ومن كلِّ ما سواه و لو كان رفضاً لفكرته الثابتة إنسانياً، لعل هذا النمط للإله أو ذاك بمثابة الوثن السياسي والاجتماعي لتكلس الوعي والروح. حرية رفض الأشكال هي جوهر الإيمان، لدرجة أنَّ الانعتاق والتحرر يحملان كافةَ التكاليف الشرعية، وتُقام عليهما جميع مفاهيم الدين[3].

لقد يتجسد التحررُ من الإله كشكلٍّ بمفارقة الإيمان( المتناقض ذاتياً وأنطولوجياً)، لأن الايمان اعتقادٌ فيما لا يوجد عادةً ولن يكون معتاداً يوما ما. وبالتالي يحمل جوهر الإيمان بذرةَ النسف الداخلي لترسبات أي شكل ثابت. فأنْ يؤمن الإنسان، فذلك الأمر يتم دون أنْ يرى موضوع الإيمان، فضلاً عن اعتباره حقيقةً مع أنه لا يملك دليلاً قاطعاً عليه. إن كلُّ إيمان ليس به هذا التَّفجُر لن يغدو سوى عبوديةٍ فارغة المضمون. الإيمانُ طاقة حُب وانفتاح لتطهير ذاته دون شكلٍّ، فعلٌّ، خارج حدود التَّحكُم الكمي والكيفي. وأي إيمان إنْ لم يجدِّد نفسه، سيحيل الإنسانَ إلى ترسانة كراهيةٍ بلا نهاية.

الانسان الذي يستطيع التَّحرر بإمكانه معرفة الله نفياً واثباتاً، مجهولاً ميتافيزيقياً وراءه رغبة سحيقة في الوجود. وعلى النقيض لكي يقتل الانسان إلهه( نمط اعتقاده) على غرار نيتشه، فهو من يؤمن به ايماناً شوفونياً( وثنياً) داخل الذات[4]. هذا التعبير السياسي مقصود، فالذات فعلٌّ جيو سياسي يحقق الكيان والعلاقة بالآخرين مثل الدول. إنَّ فعل التحرر فعل قتل أصيل لما نملك من أشكالٍّ ولا ينال من معنى (الإله) إلاَّ ويطالُ كلَّ آخر غيره. لهذا كان الله دوماً يقع حيث ينتفي أيُّ إله غيره. ولو لم ينتف لما وُجِد على صعيد الاثبات المنفي كما في عبارة التوحيد(الشهادة والاعتقاد).

إنَّ كلُّ اختيار إلهي نقصده أو ننحرف عنه يفترض نقيضه وإلاَّ ما كنَّا لنُؤْمر به ونُنْهي عن المغاير له. ووجود النقيض ينسف ثبات التَّوجُه القسري لو ظننا أنَّ له جانباً وحيداً. وهنا تتأتى قيمة المقدس كمركز في أفق الحياة دون فقدانه لوجاهته الإنسانية؛ أي دون فقدان قدرتنا على الرفض والقبول. فهذا مبدأ لإيمانٍ حُر يعتبرُ فردياً حتى النخاع ولو جسّد طقساً جماعياً. ومن يمكنه الشعور بالحرية حقيقةً يستطيع معرفةَ الله. وهذا رأي كانط: أننا كائنات أخلاقية بالمقام الأول ومن حيث كوننا كذلك نستطيع التَّدين لا العكس، معتبراً كون الإله ممكناً بشكل أخلاقي عملي practical لا برهاني ميتافيزيقي[5]. لذلك، فالواجب الأخلاقي يتجاوز كلَّ موقف وينتهك أيَّ مبدأ. لو كان معنى الإله داخلنا لا يتأسس على تلك القاعدة الحرة لأصبح صُندوقاً أيديولوجياً أشبه بجراب الحاوي.

الحرية بالنسبة للمعتقد الديني شرطٌ مُسبق وليست عملاً كسُولاً تابعاً. مشاركة الله فينا من باطننا ومشاركتنا في وجوده المتعال بالمثل. الاثنان يقفان أحدُهما في إحالة مستمرة إلى الآخر بلا انتهاء. فالحرية تقف إزاء الايمان الديني وداخله كماهيةٍ. أليست هي مناطَ الدين وغذاءً لاستمرارية التدين؟ إنها لا تندرج في خانة الشروط التابعة سوى بهذا التجلي. فإذا خضعت الحرية للتجربة سرعان ما تفترض اسبقيتها. لأنَّ كلَّ حريةٍ لمعتقد تزيحُ أيَّ تراكم ضاغط بمجرد انفراد الإنسان بنفسه. حين يؤكد" أنا أؤمن" لا يجد بُدَّاً من نزع الأقنعة الزائفة[6]. وليس منطقياً أن يكذب على ذاته.

المسألة تبرز هذا( النأي، الاتساع، الجُود الإلهي بلغة ابن عربي: لولا الجود لما كان الوجود) اللانهائي لمعنى الله ليس غير. ومن تلك الذروة ربما لن يتصور المرء مناقشة أية قضية لا تنتمي إلى مجالها مثل قضايا المعرفة أو التفكير، بينما معاني الله هي الاستثناء الوحيد. فالإله معنى يوجد وينتشر في كل شيء تقريباً على ذات المستوى. إنَّ تفكيراً كهذا أزاح الجانب الإنساني لوجودنا النسبي بصيغة المطلق على صعيد التأويل. ونحن نعرف ككائنات فانية أنه لم ولن يكون الانسان إلهاً، إذن عليه التحليق من موقعه المفترض إلى درجة التعالي الحُر.

ما الذي جعل البشر يمسخون مفهوم الله إلى مفهوم عبودية؟! حيث قد تمَّ ذلك في تاريخ الديانات والعقائد بالاسم دون المسمى، بالشكل الوثني دون المدلول. فباسم الله يحكم الحاكم المستبد، باسم الله يأمرنا راعي المعبد والكنيسة والكهنوت والمسجد، باسم الله تطيع الزوجةُ زوجها معلِّقاً إرادتّها في سترته كتميمّةٍ اجتماعية. وباسم الله يأمرنا أهل الحل والعقد كأنَّهم يملكون مفاتيح الجنة والنار، وباسم الله يتسلط الأسياد على العبيد، وباسم الله ننحت أدمغتنا في قوالب تربوية وجدنا عليها أسلافنا. إنَّه هوس ترجمة معاني الله إلى شكل جمعي من غير أي تماس روحي فعالٍ. لماذا يغدو الله شركة مساهمة اجتماعية أو سياسية؟ كيف كان الله صكاً اقتصادياً في بورصة اللاهوت الاجتماعي؟

إنَّه ما لم تتحرر الأفعال من طغيان عبوديتها للاسم لن تُسمى الحرية حريةً، ستستحق أيَّ شيء آخر مدجّن إلاَّ هذا المعنى. فأصالتها المُعطاة للأفعال لا تتأتى من مصدر خارجي، كما أنَّ الايمان لا يأتي بنفس الاصالة من المصدر ذاته. إضافةً إلى كون معنى الله يغرس فينا عمق هذه الاصالة دون وسائط. أشار بول ريكور إلى عبقرية الكوجيتوCogito الديكارتي لكونِّه حمل نفسه إلى أقصى حدود يعود فيها "الأنا أفكر" إلى ذاته. إذ يحدد في ذاته صورة جسده وصورة الآخر. بالتالي تغدو النفس قادرة على التحرر متمركزة عبر ما يسميه الرواقيون دائرية الروح[7] circularity of soul .

إذا كان ذلك يوازي فعل الإيمان، فقد تجنب الفلاسفة معنى الله في ذاته بمغزاه السابق. لأنَّ المعنى– من هذا القبيل- ينحرف إلى أشكال لا ماهيات. فمفارقة المعنى عبر الكائن الأعلى كونه مستحيلاً في عينه فيصير صوراً لغيره. والأخيرة(أي صور الأغيار) تعدُّ بديلاً منافياً للمعنى لا اتساقاً مع أبعاده. هي بدائل قد تتَعيّن في سلطةٍ ما: قضية، نص، وظيفة، حقيقة، تنظيم، لاهوت، دين مشخّص، قوة مقدسة. فالله ضمن المسيحية كان إنساناً- إلهاً. وأقانيم الآب والابن والروح القدس تطرح الحرية كصيغةٍ تركيب. ثم يأتي الإيمان بالأسرار ليجعل التركيب بعيداً عن التحديد. وبالديمقراطية في مضمار السياسة أضحت الصيغة المسيحية تجربة سياسية اجتماعية عبر كل إنسان آخر( المجتمعات الغربية).

إذن معنى الله لم يمسسه تفكيرٌ في ذاته، نظراً لسبب كانطيٍّ شهيرٍ أنَّه لا يتسنى إدراكه بالعقل. فعالم الأشياء في ذاتها noumena يعجز العقل عن اكتشاف أسراره. هنا اشكالية قد تصبح أفقاً لطرح مختلف: أنَّ لانهائية معناه( أي الله) تُدخلنا إلى ساحته القصوى، بموجب فشل القدرة على تعيينه أيا كان( أي تحديده في شكل ووظيفة). وتلك قضية الحرية، فهي مستوى النفاذ المفتوح عبر ما يستعصي على الإدراك والاحتواء. لأنَّها فعل كُلي إلى درجة الإطلاق رغم محدوديته التاريخية بتجارب المجتمعات والأفراد. وهي انفتاح لن يُملأ بسهولةٍ عبر كيان إنساني معجُون بالرفض والتمرد.

فمن يمتلك معاني الله حتى يستعبدنا باسمه؟! السؤال ليس ساذجاً، لكنه مطروح إزاء أدعياء التحدث بالاسم كما مرَّ منذ قليل. إنَّهم يلعبون لعبة الاستملاك، الاستقواء، اطلاق الاسماء كالقذائف العشوائية. فإذا كان الله يستحيل امتلاكه، سيقولون بلسان الحال نحن نمتلكه بقوة الغلبة. ولا يتوانون عن نهب الفرصة تلو الفرصة لذلك. وعلى المتضرر بلغة القانون والمنطق اللجوء إلى اثبات العكس. المغزى أنَّهم ناجحون في هذا طالما هم الأقوى، فيظن المستعبَدُّ أنَّ مفهوم الله في جعبتهم. وهو اثبات القضية مقلوبةً؛ أي قضية التحرر عن طريق الله بالشكل المزيف لحضوره. ذلك نظراً لاستحالة الاستحواذ عليه لا معنى ولا كلاماً ولا ماهية ولا ايماناً ولا طرفاً في أية ثنائية. إذن ماذا يبقي من الادعاء غير تأكيد عكس الاستعْباد. وطالما لا نستطيع القيام بالتأكيد، فإنَّهم يستندون إلى هيمنةٍ دون أساسٍ. حينئذ فهم أيضاً لا يستطيعون تأكيد هيمنتهم دون فعل إكراهٍ[8].

تلك القضية تتقرر بالنقض دائماً، لأنَّ هؤلاء الأسيّاد لن يتركوا معاني الله لغيرهم مهما كان الثمن. فالطرفان(العبودية والحرية) لا يثبتان منطقياً بطريقة المقدمات والنتائج إنَّما يُمارسان في أفعال. ولهذا فالتعادل الذي يبدو فيهما بريئاً هو تعادل زائف، لأنَّه لا تعادل دونما التّحرر في كلتا الجهتين. فالمتحرر هو من يشعر بالقيد، والمتحرر كذلك هو من يعرف قيمةَ الحرية دون نهاية. أما لو اطمأن لحظة إلى حريته فقد سقط في العبودية. وتلك هي فكرة الله من أقصر الطرق. فالله يحرر البشر من نفسه، من أخيلتِّهم عنه، من طبيعته المتصورة إنْ ظنوها كذلك.

الحرية قدرٌ إلهيٌّ كونيٌّ حتى على معاني الله ذاته. لأنَّه لا يتجسد في عبودية الصورة والفكرة والنمط والشكل والاعتقاد، ولم يعطِّ الله أحداً مبرراً للتحدث بلسانه كأنَّه هو، مثلما لا يوجد إله بلا إرادة كاملة. بالتالي ليس لله إلاَّ أن يكون حراً خالقاً وموجوداً لدرجة اللاوجود. ولن يعرفه معرفة حقيقية إلاَّ من يدركُ التحرر المتواصل نحوه. من ثمَّ نحن كمخلوقاتٍ علينا أن نمتلك حريتنا- غير منقوصة- حتى نعي محض كلمة الله. فالحرية لا تدرك إلاَّ بحرية بإطلاقها لا بنسبيتها، ولا كمصدر تام الانجاز إنما كدّأب متواصل. والعبد أيضاً عكس ادعاء الفقهاء لن يدرك معنى الله، كيف لمستعبد حساً وخيالاً إدراك جوهر الحرية؟ كيف يتحرر من هو غير متحرر أصلاً؟ كيف يمارس طقوساً يقال له إنها من صميم الإيمان بينما هو لا يدرك جوهر الحرية؟!

____________________________________



[1]-Martin Heidegger, Der Spiegel Interview with Martin Heidegger ( by Rudolf Augstein and Georg Wolff ) 23 September 1966, p 11

[2]- في التجارب الصوفية تتضح هذه الدلالة بصورة أكثر بروزاً. فالله ليس كائناً لكنه وجوداً روحياً خالصاً. ولا يبتعد عن هذا الموجود البشري المحدود، بل لا يتحدث عنه المتصوفة سوى داخل وجودِّهم، داخل أجسادهم وأحوالهم الذوقية. بالتالي تمثل اشكالية التصوف: كيف يكون الوجود الإلهي متجسداً في التجربة الروحية؟ واللغة التي يستعملها المتصوفة لغة خاصة بهذه التوحد الروحي. إنها التعبير الأكثر شفافية للتحرر بالله وداخله. وانطلاقاً من هذا المعنى المفتوح كان المتصوف قادراً على رؤية الله في كل ما سواه. لأنَّ التحرر الروحي يجعل الذات تتماهى كما الحب داخل كل آفاق ممكنة.

[3]- لا توجد فكرة دينية غير معتمدة افتراضاً على الحرية. فطالما أنَّ الايمان - وهو بدء الدين وذروته- مؤسس عليها فكل شيء لاحق يسير في نفس الطريق. ولأنَّ الوجود الإلهي يتأرجح معها قبولاً ورفضاً فلعلَّها أبعد أثراً من طقوس الدين وأنماطه. فالحرية فعل إيمان أيضاً بل تشكل جوهر كل اعتقاد يتجه نحو الغيب. بالإمكان السيطرة على إنسان وشكل حركته لكن لا نستطيع الهيمنة على إيمانه إلاَّ مع ثقافة القهر والقمع. الحرية هنا قد تفهم على عدة مستويات:
أولاً: علاقة الإنسان بالله وهي علاقة داخل- خارج الفرد بوصفه كائناً حراً. ثانياً: علاقة الله بالإنسان في حالة الديانات التوحيدية وغيرها. والارتباط هنا يرجع إلى تقبل الفرد من عدمه. ثالثاً علاقة الإنسان بالمجتمع وهي تلك التي ترجع إلى تحرر العلاقتين السابقتين. وطالما أنهما كذلك كان للفرد قدرة على التحرر الثقافي وإن كان يأخذ مجهوداً مضاعفاً.

[4]- الإله هو اقصى موقع يمتلئ بالإيمان والقيمة الرمزية لإحلال شيء محل آخر. وهنا إشارة نيتشه حيوية لأنه لا يقصد الإله كما هو شائع لكن الإله بوصفه هذا الاعتقاد الذي تعمد فيه الاخلاق وتغتصب أيضاً تحت عنوانين لاهوتية و سياسية واجتماعية. ومثلة مثل: الغاية والعلة والأصل والعقل والبرهان والحقيقة، جميعها مفاهيم ميتافيزيقية كانت وجوهاً للقهر واستلاب الواقع. أشار نيتشه أنه تعلم مبكراً الفصل بين التحيز اللاهوتي theological prejudice وبين التحيز الاخلاقي باحثاً عن أصول الشر فيما وراء العالم....وبناء على ذلك ميز بين العصور والبشر وحتى بين الأفراد".
Friedrich Nietzsche, On Genealogy of Morals, Translated by Walter Kaufman and R.J. Hollingdale, Vintage Books, New York 1967, P.17

[5]- Eric Watkins, Kant On the Hiddenness of God, In: Benjamin J. Bruxvoort Lipscomb, James Krueger(eds), Kant: Moral Metaphysics, God, Freedom and Immortality, De Cruyter, Berlin- New York, 2010.p. 256

[6]- رغم أن الشخصية تمسرِّح الوجه إزاء الآخرين، سوى أنَّ الإيمان قدرة على التمثيل بخلفية نموذج باطني. نموذج يحاول التوحد مع ذاته. ولهذا ستكون الشخصية قناعاً في إخفاء الوجه الحقيقي. كل وجه ليس حقيقياً هو أحد أشكال الشخصية المتحولة. فيصبح الوجه شاشة عرض تنعكس على صفحتها توترات وحالات نفسية. إنَّه مرآة التواصل مع العالم الخارجي.

[7]-Paul Ricoeur, Freedom and Nature: the Voluntary and the Involuntary, Translated, With an Introduction by Erazim V. Kohak, Northwestern University Press, 1966, P.14.

[8]- الله هو التصور الأعلى الذي لا يستطيع انسانٌ أخذ مكانته ولو كان رمزياً. ونظراً لاختلافه عن كل كائن آخر فسيكون مستوى حياًديا داخل البشر. ولهذا يمثل نمط من الوسع والامتلاء بغياب آخر. غياب لا يساوي اللاوجود لكنه عمل الوجود في نشاطه الضمني، في سريته الكونية. ولهذا يأخذ موقع الإله دلالات التوع والاختلاف.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى