د. عبدالجبار العلمي - أزمنة من غبار لناصر عراق: عن الاحلام العربية المجهضة

أزمنة من غبار لناصر عراق: عن الاحلام العربية المجهضةان العنوان أزمنة من غبار ذو دلالة صريحة علي مضمون الرواية. فهي ترصد تلك الأزمنة البعيدة القريبة من القرن المنصرم، زمن الستينيات فالسبعينيات ثم الثمانينيات والتسعينيات. يتوقف الراوي عند زمن الستينيات المشبعة بأحلام التغيير علي مستوي مصروالوطن العربي برمته، المليئة بالعنفوان والطموحات البعيدة المنال. انه زمن الثورة وتحقيق مجتمع متقدم، تعمه العدالة الاجتماعية، وتنتفي فيه مظاهر التخلف والفقر والحرمان والأمية في ظل نظام اشتراكي يقوده العمال والفلاحون. تشير الرواية الي عهد جمال عبدالناصر الذي كان يحبل بالآمال العريضة في تصور جماعة من الشباب (الطلبة الجامعيين)، بيد أن تلك الآمال آلت كلها الي الفشل بعد هزيمة حزيران (يونيو) 1967. ان هؤلاء الشباب الثائرين الحالمين الأغرار، انخرطوا في خلايا سرية يتزودون في حلقاتها بأفكار ماركس ولينين متمادين في أحلامهم الغرارة بتحقيق مجتمع اشتراكي تنهار فيه الطبقات، الا أن الواقع الصلد يجعل أكثرهم يفيق من أحلامه، فيهاجر البعض الي دول الخليج أو دول أوروبية بحثاً عن العمل والرزق وتحسين الأوضاع، في حين ينزوي البعض الآخر يجتر آثار الهزيمة. ثم تأتي مرحلة الثمانينيات والتسعينيات بأكثر الهزائم سحقاً لقلوب هؤلاء الفتيان الحالمين، حيث تتعرض العراق للغزو الأمريكي والبريطاني، وتزداد الأمة العربية بؤساً واحساساً بالدونية ومرارة الهزائم.ويمثل هذه الفئة من الشباب المصري المتحمس الحالم الشخصيات المحورية الآتية :1 ـ خالد عبدالعزيز: أكثر المتحمسين والحالمين، اذ بدأت أحلام اليقظة تدغدغ وجدانه، وتنتقل به من مجرد نجم سينمائي لامع أو رسام مشهور الي زعيم ثوري يقود أمة بأسرها لاقامة مجتمع العدالة والحرية (ص 139). 2 ـ كارم اسماعيل: الذي كان متحمسا للأفكار الثورية والاشتراكية العلمية. وكان ضمن الجماعة التي يجتمع فيها من أجل العمل علي تغيير الأوضاع قبل أن يهاجر الــــــــي قطر ليعمل في احدي الجرائد في نهاية الثمانينيات. وتشحب علاقته تدريجياً بأصدقائه القدامي (ص: 141) وكان أول الفارين من سجن المنظمة كما كان يقول دائماً من أجل حياة خالية من العسر (ص: 184). 3 ـ سلطان السيد : تعرض للاعتقال بسبب نشاطه الثوري، وبعد ثلاثة أشهر من خروجه عقد قرانه علي سهي نصارليرحلا الي قطر للعمل بها. وقد ترك خلفه من دون ندم حلم الثورة ومبادئ التنظيم وكتب ماركس ولينين وغيرهما مما له علاقة بلوازم النضال الثوري، قائلا لصديقه عصام كامل: قد تنفعك .. أما أنا فقد انتهي الأمر بالنسبة الي (ص 166). 4 ـ عصام كامل: منح بدوره مكتبته الثورية وصور الزعماء الاشتراكيين الي خالد عبدالعزيز، وهاجر الي ألمانيا في آذار (مارس) 1990 بلا عودة.5 ـ أحمد السرياقوسي: طالب الحقوق المولع بالفن والأدب الذي سيشترك هو وكارم اسماعيل المعجب بأدب يوسف ادريس، وخالد عبدالعزيز المناضل الثوري الحالم في اصدار مجلة تعني بالأدب والفكر بعنوان كلمات ، وهم بعد يدرسون في المراحل الأولي من الدراسة الجامعية (انظر ص: 33). 6 ـ ناصر الأسواني: أكثر أعضاء المجموعة حزناً علي بغداد حيث كان له بها علاقة خاصة وذكريات أليمة، اذ عاش بها ثماني سنوات متصلة، أربعاً منها في السجــــــــن. (انظر ص 35).7 ـ حمدي اسماعيل : هاجر الي النرويج قبل ثلاث سنوات يائساً من ضبط أحواله في القاهرة (ص 39).8 ـ سهي نصار: طالبة الفنون الجميلة حبيبة خالد عبدالعزيز، الا أن علاقته بها رغم طول مدتها، لن تستمر بسبب تردده وعدم حسمه في اتخاذ القرارات (انظر ص 38).9 ـ مديحة الشيمي: كريمة سالم الشيمي أحد بشوات العهد البائد. فقد أكثر من ألفي فدان في عملية تحديد الملكية في اطار الاصلاح الزراعي. ورغم انتمائها الي الطبقة الاقطاعية، فانها تعد نفسها من أبناء الثورة، وتتحمس لجمال عبدالناصر، وتضرب عرض الحائط بالفروق الطبقية التي بينها وبين عادل عبدالعزيز الذي ينتمي الي طبقة دنيا، فتعجب به، وتحبه.تتميز الرواية بغناها بالشخصيات، وتلك نماذج منها. انها تمثل جيلا من الشباب العربي المهزوم الذي آمن بوهم الثورة والتغيير، وذلك اعتماداً علي أفكار طوباوية لم تستطع الصمود حتي في الواقع الذي أفرزها، والأرض التي نبتت فيها. وبالنظر لهشاشة الأرضية التي كانوا يتكئون عليها، ما لبث الجميع أن لجأ الي الحلول الفردية بعد أن يئسوا من دنو رياح الثورة. فها هو ذا خالد عبدالعزيز الثوري الرومانسي الحالم الأكثر حماسة للأفكار التي كانوا يؤمنون بها باعتبارها وسيلة لاحداث التغيير الجذري في المجتمع، ها هو ذا يعلن انهزامه وتراجعه عن مبادئه بملء فيه. فـ حين عاد كارم اسماعيل في أول اجازة بعد ثلاثة أعوام من سفره الي الامارات، حاملاً معه زوجة لبنانية شقراء وطفلين جميلين وآلاف الدولارات .. أصبح خالد أكثر قناعة بأن الزمن غير موات لممارسة السياسة حتي وان صحت الأفكار التي يعتنقها (ص 185). وحين ضعضعته الحياة بطلباتها التي لا تنتهي، بينما راتبه الشهري لا يتجاوز 80 جنيهاً، أيقن أن الوقت لم يحن بعد لأن يعتنق العالم الفكر الاشتراكي، كما كان أبوه ينبهه دائماً (ص 185). بل حتي وحيد الجيزاوي الذي كان يعتبر المرشد والموجه للجماعة (انظر ص : 128 وما بعدها)، سيهجر التنظيم وسيبحث عن خلاصه الفردي. أما أحمد السرياقوسي، فيتزوج من ابنة خالته ويسافرا معاً الي السعودية، وتعود زوجته وقد ارتدت النقاب. ان المؤلف، لدي رصده هذه الفئة من الشباب العربي المصري الطموح الي بناء مجتمع أكثر تقدماً وعدالة، انما أراد أن يوجه نقداً لاذعاً لهذا الجيل الذي هو ربما جيله وجيلنا جميعاً، ومفاده أن الطريق الذي سلكوه الي تحقيق أحلامهم الغرارة كان مجانباً لجادة الصواب . قال خالد: ـ هل تدرك يا عصام أننا كنا نعرف عن تاريخ الاتحاد السوفييتي أكثر بكثير من معرفتنا بتاريخ مصر؟ـ ماذا تعني؟ـ لقد أخطأ قادتنا في الجماعة عندما لم يعيروا تاريخ هذا الشعب ما يستحق من اهتمام، فوقعنا في مطب الجهل بمزاج الناس وكيفية توعيتهم وتنويرهم (ص 227). وقد عبر الروائي المغربي عمرو القاضي بكثير من الصدق عن مأساة هذا الجيل في روايته البرزخ (1) ما جعل القاص الباحث المغربي أحمد بوزفور يقول في حقها: النص هو موال جيلي / جيلك : جيل الحلم الوردي الذي سطع في سماء السبعينيات كشهاب، ثم خبا كشهاب أيضاً .. نصك الروائي هذا كان موال هذا الجيل وأنشودته . (2)لقد كان هم هؤلاء الشباب طيلة صفحات المتن الروائي لا يخرج عن ممارسات ثلاث: أ ـ تبادل الكتب الثورية المحسوبة علي الاشتراكية العلمية مثل الدولة والثورة للينين وغيره.ب ـ الاجتماعات السرية في خلايا لتدارس كتب ماركس ولينين للتزود بالأفكار الواردة فيها من أجل توعية جماهير العمال والفلاحين. ج ـ اقامة علاقات جنسية بين الجنسين من هؤلاء الشباب المناضل قصد تلبية النزوات والرغبات الشبقية المكبوتة. ونمثل هنا لعلاقة خالد و سهي نصار التي يبدو فيها هذا الأخير فقير التجربة في شؤون الجنس. فهو مثلا لم ير قط في حياته امرأة متجردة (ص 147)، بينما كانت هي ذات تجارب سابقة. وحتي المجلة التي أنشأها هؤلاء الفتية كانت بعنوان كلمات ، وهو عنوان له دلالته علي هشاشة هذا النضال وقيامه علي الأوهام النظرية والكلمات الجوفاء. وتبقي تلك الأيام والليالي البعيدة القريبة التي قضاها أولئك الشباب يعملون في التنظيمات السرية من أجل التغيير وبناء مجتمعات يسودها التقدم والعدالة، تبقي عبارة عن أزمنة من غبار.انها رواية واقعية. فيها كثير من ملامح الرواية المحفوظية. تدور أحداثها في فضاءات واقعية معروفة في مدينة القاهرة، فتذكر الشوارع والحواري والمساجد والكباري والمقاهي بأسمائها الحقيقية ( شارع الموسكي ـ شارع المعزـ الغورية ـ مسجد المؤيد ـ كبري المشاة ـ ميدان الأوبرا ـ ميدان الحسين ـ مقهي الفيشاوي ـ حديقة الأزبكية…) أما الزمن الروائي، فيمتد علي مسافات زمنية طويلة تبتدئ من أربعينيات القرن الماضي، وتنتهي بسنوات التسعين منه، رصد خلالها المـؤلف أحداثاً تاريخية هامة نذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر : تأميم قناة السويس ـ العدوان الثلاثي علي مصرـ هزيمة 67 ـ استقالة جمال عبدالناصرـ حادث المنصة ـ انتكاس السياحة في مصر اثر أحداث عام 1991 ـ الاعتداء علي العراق. وتتميز لغة الرواية بالسلاسة والاعتماد علي التصوير الشعري. ورغم أنها باكورة أعمال هذا الروائي (الذي هو أصلا فنان تشكيلي)، الا أنها تمتلك من أدوات الفن الروائي ما يجعلها تقف الي جانب أعمال كبار الروائيين العرب المعاصرين.

كاتب من المغرب

الهوامش :
الرواية صادرة عن سلسلة : روايات الهلال، العدد 686، شباط (فبراير) 2006. وتقع في 242 صفحة من القطع المتوسط.
1 ـ عمرو القاضي، البرزخ، ط 1، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1996 م.
2 ـ ظهر غلاف الرواية الواردة أعلاه.0

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى