أمل الكردفاني- هاينريش بول..سيحدث شيء

"سيحدث شيء"
إنها الكلمة التي لا يتوقف عقل الإنسان عن استدعائها. الإنتظار المحموم لحدوث ذلك الشيء الذي سيقحم المرء في العالم، فيحيا كما ينبغي. سيحدث شيء، هي الكلمة التي تحول دون شنق المرء لنفسه حتى وهو في أتعس حالات قنوطه. وهي ذاتها الجملة التي قالها مدير المصنع للسيد كلاوس؛ كلاوس هانز، الشاب الذي يعيش على التأمل، يستجدي رغيف الخبز من جارته، لأنه لا يعمل، ولأنه حين يعمل، يترك العمل بعد شهر فقط، ليعود إلى وحدته وشروده وتأملاته. جارته (أنجليكا) تحبه، تراوده ليتزوج بها، تعطه رغيف الخبز وتحثه على الإستمرار في عمل واحد فقط. لكنه يرفض العمل لأنه لا يجد نفسه فيه. تدفعه أنجليكا دفعاً للمزيد من المحاولات، فيتجه إلى مكتب العمل بيأس، وهناك يقترحون عليه التقديم لوظيفة في أحد المصانع، فيقدم ويخضع للإختبارات، وينجح في الحصول على الوظيفة، والتي هي تلقي الإتصالات من عدة هواتف في وقت واحد.
الشعار الذي كان يرفعه مدير المصنع، هو جملة "سيحدث شيء".. وقد حدث الشيء بالفعل، إذ مات المدير نفسه فجأة، وهو يردد الجملة أمام الشاب كلاوس. "لقد حدث شيء"...يقول كلاوس لأنجليكا، ويعتزم تقديم استقالته من العمل في المصنع بعد أن ينال أجره، وتنقبض نفسه أكثر عندما يأمره نائب المدير بالسير خلف نعش المدير حاملاً الزهور. يحاول كلاوس التملص من هذه المهمة، لكن النائب يصر، فيسير كلاوس ذو النظرات الشاردة المتأملة خلف النعش حاملاً الورود، ولوهلة يشعر بأنه سعيد بهذه المهمة، ويواكب ذلك الشعور الغريب، ملاحظة صاحب خدمة النعوش لكلاوس فيرى في ملامحه الموظف المناسب للعمل معه كحامل للورود خلف النعوش. وهكذا يستقيل كلاوس من عمله في المصنع، ليعمل أخيراً في العمل الذي يجد فيه نفسه، بل أنه حتى في خارج أوقات العمل، يشتري زهوراً ويسير خلف النعوش. تطلب انجليكا من كلاوس الزواج بها، ولكن على ما يبدو أن كلاوس كان عازفاً عن الزواج وعازماً على إلتزام عزلته، ليقضي ما تبقى من حياته خلف الجنازات وهو يحمل الورود.
أعادني هاينريش بول إلى عالم القصة الرمزية، المكثفة، البسيطة والعميقة، بحيث تربك القارئ العادي، أي القارئ ذو التأمل المتوسط، وتلهم القارئ غير العادي، أي القارئ الذي ينتج نصوصاً متعددة من نص يقرؤه. إن قصة كلاوس لمستني مباشرة، وربما كانت هي الحدث المنتظر، بالنسبة لي، فمنذ بداية إحتجاز البشرية بسبب كرونا، ظللت أتأمل في واقع الإنسانية الغريب. العالم المعتمد على العمل، إن كلمة "عمل" أضحت مقدسة بالنسبة للبشر، وتجاوزت حقيقتها كنشاط من أجل الحصول على ما يقيم الأود. أضحى العمل ذاته قيمة، وتحديداً لدرجة الفرد داخل مجتمعه. هذه القداسة، لم تكن مبررة أبداً تبريراً نفعياً مادياً. لا، العمل مجرداً هكذا. ورغم كل تلك القداسة، فإن احتجاز سبع مليارات نسمة، دون عمل، لم يفضِ لإنهيار العالم. لقد تقلص العمل لأقصى حدوده، وأنحسر في الأعمال التي تحقق الغاية الأولى من العمل؛ وهي الحفاظ على الحياة. وإذا كان سبع مليارات نسمة قد توقف جلهم عن العمل، فإن أقلية، قد لا تتجاوز بضعة ملايين، هي التي كانت تحقق إنتاجاً حقيقياً. في حين كانت باقي الأعمال، تقتات على تخوم الأقلية. وهاينريش الحاصل على نوبل عام ١٩٧٢، يتحدث بلسان الإنسانية، التي تستنزف قوتها من أجل لا شيء، وتصادر على حريتها من أجل قداسة زائفة، وتنسى عبثية الحياة ولا جدواها، تلك العبثية التي من المفترض أن تجعلنا أكثر رغبة في التمسك بلحظات العيش فيها كما ينبغي وكما نريد، لا كما تجبرنا عليه القداسة المزيفة. إن هاينريش، يتحدث عن عالم الكُتَّاب والفلاسفة، كما تأملته قبل بضعة أيام؛ ذلك العالم المعتمد على اللا عمل سوى التأملات. إن الكُتَّاب؛ يتخذون من منهج كلاوس أساساً لحياتهم النازعة إلى الكسل. إلى التأمل في عبثية الحياة وعدم الأستجابة لشروطها القاسية، أي تمردهم الدائم، وهُم في انتظار أن يحدث شيء. لكن هل سيحدث شيء؟
إن الأدب، ليس أكثر من تسلية بصورة تبدو جادة. لكنه غير منتج لدعم المقومات الأساسية للحياة. لقد كتبت قصة قصيرة جداً تعبر عن ذلك؛ تقول باختصار: (لقد مات الشاعر والخباز في يوم واحد. خرجت حشود المشيعيين في جنازة الشاعر، ولم يخرج أحد في جنازة الخباز. لكنهم خرجوا بعد ذلك عندما جاعوا فلم يأكلوا القصائد..).
إن الأدب في حقيقته-وعندما نتجاوز نرجسيتنا كَكُسالى- لا معنى له إلا تسلية الذات والآخرين. وليس هذا كلاماً قاسياً. إن ضياع قصيدة او رواية لن يشكل خسارة كبرى على مصير البشرية، لكن إضراب عمال منجم للحديد، سيؤدي إلى توقف الآلاف عن العمل، في مصانع تعدين الحديد، ومصانع تشكيله وقطعه، ومصانع السيارات والأجهزة المعتمدة على الحديد، ومصانع الأسلحة، سيتوقف المزارعون عن العمل، ومعهم عمال آخرون، ميكانيكيون ومهندسون وسباكون وخراطون ولحامون...الخ. فما الذي يعنيه ضياع قصيدة، أو إحتراق رواية، أو عدم كتابة قصة قصيرة بالنسبة لنشاط بسيط كضرب التراب بالمطرقة لاستخراج قطعة حديد؟ لا شيء بالطبع.
ولكن؛ ألا يحوِّلنا -ما سبق- إلى كائنات بلا روح؟ تلك الروح التي تتغذى على الجمال. الروح التي تدفع نفس ذلك العامل في المنجم للعودة إلى أسرته ومشاهدة فيلم أو سماع موسيقى أو الخروج للتنزه ومشاهدة الزهور مع أبنائه وزوجته. نعم؛ الحياة ليست مادة فقط. صحيح أن النسبة الغالبة من المليارات السبعة تعمل في مجال التسلية، والتي يمكن الإستغناء عنها في الحالات الحرجة والظروف القاهرة، لكنهم هم من يمثلون روح الحياة. وبدونهم، سيكون من الأفضل لنا جميعاً أن نسير خلف النعوش ونحن نحمل باقاة الورد الجميلة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى