أدب ساخر حميد سعيد - المتطرفون لا يحبون الضحك.. المتطرفون في تشددهم هم ضد ثقافة السخرية، لذلك يرون في سخرية المبدعين ما يعد انحرافا فكريا وأخلاقيا.

كما أقصد دائماً حين يرد وصف المتطرفين في ما أقول أو في ما أكتب، فالقصد يذهب بي إلى جميع أنواع المتطرفين، اجتماعياً أو دينياً أو طائفياً أو أيديولوجياً، وطالما ارتبط التطرف بالتزمت، أو لأقل إن المتطرفين يميلون حين الإفصاح عن أفكارهم ومواقفهم إلى شيء من التزمت.

ولعلنا جميعاً وعلى توالي الأجيال ومرور الزمن بكل متغيراته، ما زلنا نردد مقولة: الضحك بلا سبب من قلة الأدب، ونفرضها على الآخرين، وبخاصة المرحون منهم، فنرعبهم وقد نضطرهم إلى قمع إحساسهم بالفرح والتظاهر بغير ما هم عليه، وما زلنا نستمع إلى من يعيش حالة سرور ويعبر عنها بالضحك، فيقول: اللهم اجعلها ضحكة خير، وكأن الضحك مصدر شر، فيتم اللجوء إلى الدعاء لتجاوزه، ليكون خيراً.

ويقترن مظهر التزمت، بأهمية الشخص ورمزيته، فالأب يتزمت أمام أبنائه، والمسؤول الإداري أمام الآخرين، سواء ممن يعملون بمعيته أم من المراجعين، ورجل الدين أمام الآخرين، ويظهر التزمت في سلوك أي شخص يبحث عن دور ما، وكأن التزمت من مقومات الدور الذي يبحث عنه، وهذا ما يؤدي بكثيرين إلى ازدواجية لا تخفى على الآخرين وتصبح مصدر نقد ولوم واستنكار.

ويحضرني على صعيد هذه الازدواجية، بطل ثلاثية نجيب محفوظ “سي السيد”؛ فهو في بيته، متشدد متزمت، لكنه في حياته الخاصة على عكس ما هو في بيته تماماً، حيث النساء الفرهات والمرح والضحك والخمرة، وأستطيع القول، إن بعض ملامح سي السيد نكاد نجدها لدى معظم الرجال، إن لم تكن في تصرفاتهم فهي راسخة في لاوعيهم، وفي ما يتمنون.

وكان لي صديق من المعممين، تمتد علاقتي به إلى أيام طفولتنا المشتركة، وكان إذا التقينا معاً أو شاركنا اللقاء أصدقاء مقربون، ملأ لقاءاتنا ضحكاً وهزلاً، بما يحفظ من شعر وحكايات وما يروي من نكات ومفارقات، أما إذا كان في مجلس غير مجالس أصحابه، تظاهر بالجد وكشف عن تزمت مفتعل.

وأذكر أنه كان يزورني حيث كنت أعمل، فيستقبل باحترام من قبل العاملين معي، وكان يظهر من التزمت، بل من الخشوع، ما يجعل مستقبليه وهم على غير معرفة به، يظنون أنه قديس طاهر، وحين كان يدخل مكتبي، أستقبله بما أعرفه عنه، من خفة وميل إلى الهزل، فيطلب مني أن أخفض صوتي ويشير إلى باب مكتبي، وطالما قال لي لا ترفع صوتك حتى لا يسمعك من هم خارج المكتب، فإذا اطمأن إلى أن أحداً لا يسمعه، سواي، ملأ المكان بما يروي من نكات ومفارقات.

المجتمع الحضاري، أي مجتمع حضاري، وفي جميع العصور، اقترن بحضور الساخرين وثقافة السخرية، المجتمع الحضاري اقترن بحضور الساخرين وثقافة السخرية، حتى إذا غادر مكتبي، عاد إلى تزمته وخشوعه المفتعلين، ومن المفارقات التي عشتها على هذا الصعيد، أن أحد القادة السياسيين، وكان يحبني ويحترمني، ويعرفني حق المعرفة، كان قد اقترح علي أن أشغل إحدى المسؤوليات، غير أنه طلب مني أن أتوقف عن نشر الشعر ومفارقة المجتمع الأدبي، ولو إلى حين، حسب قوله! وكأن كتابة الشعر والاقتراب من المجتمع الأدبي، لا يليقان بمن يشغل مسؤولية كبيرة!

وأذكر أن ما قاله لي وقتذاك، أثار غضبي وسخريتي في آن واحد، لكنني تماسكت، ولم أرد عليه، لأنني أعرف أنه صدر في ما قاله لي عن طيبة قلب ووعي محاصر بالتشدد والتطرف.

إن المجتمع الحضاري، أي مجتمع حضاري، وفي جميع العصور، اقترن بحضور الساخرين وثقافة السخرية، غير أن المتطرفين في تشددهم، ومخربي الوعي، يرون في الساخرين سفلة منحرفين، ويرون في تمثلات السخرية، سواء في ما يكتب أم في ما يقال، سوء أدب ودليل انحطاط، وعلى سبيل المثال، إن بغداد العصر العباسي، هي مدينة بكل مقومات المدينة المعاصرة، وفضاء حضاري، بكل سمات الفضاء الحضاري، لذا كلما كتبت أو تحدثت عنها، شبهتها بباريس المعاصرة في ما توفرت عليه من تعددية وحرية وإنجاز ثقافي، كان فيها الأدب الساخر، بل كان فيها الساخرون في صف كبار المثقفين وصفوة الفقهاء والفلاسفة، وكان الساخر مثقفاً كبيراً، ويمكن أن نأتي بمثلين من عمالقة الفكر والإبداع، هما الجاحظ وأبو نواس، إذ عبرا في بعض ما كتبا عن أعلى نصوص السخرية، وجعلا منها موقفاً من الواقع والفكر والحياة، فالجاحظ رأى في التبسط والهزل، الوجه الثاني في المجتمع الحضاري، للجد والرصانة، وأبو نواس، يسأل سؤالاً موضوعياً، غير أنه يفصح عن سخرية لاذعة، كما في قوله:

قل لمن يبكي على رسم درس/ واقفاً ما ضرَّ لو كان جلسْ

غير أن المتطرفين في تشددهم، رأوا في سخرية المبدعين المذكورين، ما يعد انحرافاً فكرياً وأخلاقياً، فالمتطرفون لا يحبون الضحك فحسب، بل لا يحبون المختلف ولا ينزعون إلى الحوار، وليس في نصهم المعرفي، حصة للأسئلة، ولا أبالغ حين أقول، إنهم لا يقرأون، فإن قرأوا لا تتجاوز قراءاتهم ما نشأوا عليه، وهي لا تهدف، إلا إلى تكرار ما عرفوا من قبل، وهم على اختلاف توجهاتهم، وكل منهم من قناعاته المحاصرة بأحاديتها، يرى فيها الحقيقة، ويرى في الآخر الباطل والخصم.

وما ذهبت إليه في عنوان هذه المقالة، إن المتطرف لا يحب الضحك، لا ينصرف إلى الضحك كتعبير إنساني فقط، بل أردت منه تجاوز التشدد والتزمت، فمن الضحك كما رآه أبو الطيب المتنبي، ما يشبه البكاء، في قوله: ولكنه ضحكٌ كالبكا.

وهو ليس بكاء، بل هو ضحك يقترب من شجن البكاء، وعند المتطرفين يصبح الضحك تنازلاً عن وهم امتلاك الحقيقة، لأنه يفتح باباً على الحياة بثرائها وجمالياتها، وهم لا يريدون ذلك، فقد يجردهم مثل هذا الحال من عصا التزمت، إذ كان الضحك وما زال من خلال النكتة والأعمال الكوميدية، فعلاً في مواجهة الظلم والتعسف والانحراف، وكان أداة حاسمة ومؤثرة في الفعل المعارض، وجميع قوى المعارضة، كان من بين نشاطاتها هذا الفعل.

ومنذ بدايات الدراما، كنشاط ثقافي فاعل ومؤثر، وهنا أشير إلى الدراما الإغريقية تحديداً، كانت الكوميديا تكمل فعل الدراما بقدر فعل التراجيديا.

حميد سعيد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى