عبدالرحيم التدلاوي - ملامح من الأبعاد الاجتماعية والنفسية والفنية والجمالية في مجموعة " أقواس ونوافذ" لشيمة الشمري..

صدرت المجموعة الثانية للقاصة السعودية شيمة الشمري، عن دار المفردات في الرياض.
المجموعة بعنوان "أقواس ونوافذ " وتحوي ( 65) قصة منها: ذكريات، تخيل، أرق، صديقتي الصغيرة، جهاد، فراغ، مقاومة، رياء، أجيال، اختلاف، ملل، أسطورة، هو وهم، أحلام هاربة، أرواح ....
الغلاف بريشة الفنانة التشكيلية : سلمى العفنان.
على الغلاف الأخير كلمات موجزة عن تجربة شيمة الشمري لكتاب ونقاد هم : د. حسن حجاب ، ود . محمد جمال طحان ( سوريا ) , و عبد الحفيظ الشمري ، و محمد السنوسي الغزالي ( ليبيا ) .
بنصوص قصيرة جدا كحبات الكرز ترسم شيمة الشمري في مجموعتها؛ أقواس ونوافذ؛ أوجاع المجتمع السياسية والاجتماعية والثقافية؛ كما ترسم حالات الإنسان وما يعتمل بداخله من نزوعات ومشاعر متضاربة؛ معتمدة في ذلك على الجمل القصيرة والدقيقة ذات التركيب البسيط غالبا لتحقق سرعة جريان الفعل؛ كما تعتمد على الرمز والإيحاء؛ فضلا عن نقط الخذف والبياضات المعبرة.
في ما يخص بعض القضايا المطروحة:
الانهزامية:
كما في قصة "أرق" ص 7؛ وهو أول نص تفتتح به المجموعة، ويؤكد انفتاح الكتابة والقراءة على ما يعتمل في المجتمع من نواقص، ومنه التشتت والانقسام؛ وهي من الصفات التي تقود إلى الضعف والانهزام، يقول النص:
تحلقوا حول الطاولة لمناقشة قضيتهم المؤرقة.. تعالت أصواتهم بالصراخ..
تألموا كثيرا.. بكوا كثيرا.. ثم تفرقوا؛
فناموا طويلا.
فمجموعة كبيرة من الناس، تحلقوا ليناقشوا لكنهم لم يفلحوا فناموا طويلاً، النص رمزي ومنفتح على تعدد الدلالات بتعدد التأويلات المتباينة والمختلفة، ترى ما هي الأشياء التي تؤرق فئة من هذا النوع؟ ومن هي الفئة التي ترفع صوتها تتألم تبكي؟بناء على معجم النص الموحي، يمكن القول إنها الفئة المسحوقة، الفئة التي تعاني الفقر والهشاشة، أما جملة تفرقوا فتوحي بعدم الاتفاق بعد أن استنفدوا كل الطاقات، ولما لم يجدوا لمشكلتهم حلا، فقد التجأوا إلى النوم كخلاص.
ومن خلال نبرة النص وطريقة عرضه، يمكن القول إن الساردة ترفض مثل هذا السلوك، تتحسر على هذا الاختيار، وتراه انهزاميا.
البعد السياسي:
كما في نص "كراسي" ص13، الذي يؤكد غيبا الديمقراطية وحرية اختيار الحاكم، فالسلطة تنتقل من حاكم مستبد إلى آخر أكثر استبدادا، وكأنهم يتوارثون الكرسي نفسه، ويتعاقبون عليه لمعاقبة الشعب لا لخدمته، يقول النص:
تنفس "الكرسي" الصعداء بعد أن أزيح عن صدره ذاك الثقيل..
مرت أيام، ثم جاء آخر..
لم يكن ثقيلا فحسب، بل وله رائحة "منتنة".. !
فالقصة تبدأ بكلمة تعبر عن الفرج المؤدي إلى الخلاص، لكنها تنتهي بخيبة أمل بفعل تولي السلطة من طرف مستبد جديد يتميز بنتانته الزائدة؛ فالتنفس أدى إلى هواء فاسد. يتبين ن الساردة حريصة على اختيار كلماتها المعبرة، وانتقاء المعجم الدال على الحالة.
الفساد:
حين يكون القصاص من الصغار ويترك المفسدين الكبار كما في نص "فساد" ص15.
فإن الفساد سيظل قويا لا يمس، لأنه محمي بقوانين سنتها هاته الفئة لحماية نفسها، وتسمح من آن لآخر بتقديم ضحايا من الصغار لإسكات الأصوات المنتقدمة، ولتعمية العيون المتفتحة، تاركة أمل محاربة الفساد مفتوحا بخلف وهم مواصلة البحث عن متورطين آخرين...
تصفية المعارضين:
محاربة الماضلين الشرفاء، كما في نص "جهاد" ص23، ففعل القتل لم يفض إلى إسكات صوته، فقد تحول المناضل بعد تصفيته إلى وردة بيضاء عطرت سماء القرية.
على المستوى النفسي:
أما على المستوى النفسي، فيمكن الحديث عن بعض المشاعر السلبية التي تكون سببا في انهزام الفرد، وابتعاد الناس عنه، ومن ذلك؛
الغرور:
كما في نص "لسان" ص17، الذي ينفتح على انتشاء النفس بزعمها تحقيق الانتصار على الآخرين، وينتهي بهزيمتها النكراء، وعيشها منعزلة ووحيدة: كان وحيدا يتصبب عرقا ولسانه يتدلى دبقا تعلوه شعيرات حادة وغريبة !.
ويحضر الغرور في نص "أحلام هاربة" ص14، أيضا.
فضلا عن؛
الرياء والنفاق الاجتماعي:
كما في نص "رياء" ص 12. فالنص يرسم سلوك الناس المخادع، إذ يسلطون ألسنتهم الناقدة على الشخص ويكونون أول المعزين في موته والذاكرين لمحاسنه التي غيبوها يوم كان حيا، وليس غريبا أن يكون النص مسرودا بضمير المتكلم المفرد للتعبير عن صدقية القول وحجيته، والسعي إلى إقناع القارئ بواقعية المسرود وهو الذي خبر الحياة واكتشف هذا المنحى لدى كثير من الناس؛ ثم ان ضمير المتكلم المفرد يأتي لتقوية دلالة الصراع بين الذات المتكلمة في عزلتها، والجماعة الناقدة والمنحازة ضدها.
الرغبة في الغربة بديلا للوطن:
كما في نص "هو وهم" ص20، فالرجل خاب أمله من واقعه حين عاد بعد سنوات، ليجد نفسه مضطرا للعودة من حيث أتى حفاظا على ذاته...
لكن المجموعة لا تقف عند السلبيات فقط، بل تنفتح على بعض الإشراقات التي تعد كوى باتجاه النور ومن ثم الخلاص. وكمثال على ذلك قصة "جهاد" ص23. السابق ذكرها.
العنونة الداخلية:
في قصص شيمة الشمري القصيرة جدا غلبت العنونة الاسمية، سواء بالعناوين المفردة أم المركبة، غير أن العناوين الاسمية المفردة كانت هي المتفوقة من حيث الكم على المركبة وفي الأسماء المفردة غلبت المفردات النكرات على المفردات المعرفة، بنوعيها المعرف بـ أل والمعرف بالإضافة. لكن اللافت للانتباه كون المبدعة عنونت نصين بطريقة مختلفة، إذ منحت نصا عنوانا يدخل ضمن نوع سردي جديد يتميز بقصره الشديد وتكثيفه، وبالتالي يصير العنوان أكبر من النص ومن بقية النصوص. فالعنوان عام وكلي، والنص خاص وجزئي. أما النص الثاني فعنونته بثلاث علامات تعجب تاركة القارئ يمتلك فضيلة التأويل والبحث عن سبب اختيار هذه العنونة وعن المعنى الكامن وراء التعجب. ولعلي لن أكون مخطئا إذا قلت إنه بعض التجريب قد يصير تخريبا حين يتم الإكثار منه؛ فقد تابعت، ومنذ فترة طويلة، كثيرا من المبدعين يتفنون في عنونة نصوصهم تفننا أدخل القص الوجيز نفقا محرجا، بل من منهم من عنون النص عنونة عادية وجعل النص عبارة عن نقطة أو وردة، وهذه تجارب لا أراها منتجة إذا تم الإكثار منها، فنص واحد قد يكون كافيا.
توظيف الرموز الأسطورية:
تكمن أهمية توظيف الرموز الأسطورية أساسا في ما يمكن أن يخلقه هذا الاشتغال من تفاعل نفسي بين الصورة البلاغية ومرجعها الوجداني، الثاوي في أعماق اللاوعي الجماعي الموروث لدى المتلقي؛ فجمالية هذه البلاغة الإيحائية كامنة تحديدا في ما سماه عز الدين إسماعيل في كتابه «الشعر العربي المعاصر: قضاياه وظواهره الفنية» بالعملية النفسية المصاحبة. ومن هذا الاعتبار يرى البعض أن الرموز والأساطير، إذا كان لها ما يربطها بذاكرة وانتماء المتلقي ولّدت فيه شِحنات نفسية أعمق بكثير مما قد تحدثه فيه أسطورة وافدة، بل إن الرموز والأساطير المستوردة (كأساطير الهنود الحمر، والزنوج، واليونان، والفرس..) قد تصبح، كما في بعض النماذج الإبداعية، وَحَلاً يُعيق الانسياب الوجداني الموازي لفعل التلقي، إذ يتحتم على القارئ، حتى يستشعر البعد النفسي الذي يصاحب مثل هذه الأساطير، أن يوقف عملية القراءة، في كل مرة يصطدم فيها برمز، إلى حين فك طلاسمه، بالرجوع إلى المعاجم أو كتب التاريخ والأديان.. وفي أفضل الحالات الرجوع إلى هوامش القصائد، لاستمداد الشرح. ولا يخفى علينا ما تسببه مثل هذه الإحالات من إفساد للذة القراءة، بما تحدثه من تقطيع في نفسها. ومن ثم تصبح القصيدة مع مثل هذا الانفتاح البلاغي على «الخصوصية الوجدانية» للآخر، فضاء «ثقافويا» لا يطرقه إلا ذوو التخصص والمعرفة الأنثروبولوجية الموازية. وقد أصبحت هذه النزعة مرفوضة ومتجاوزة في منظور النقد الأدبي، الذي يبحثُ عن مدّ جسور التواصل بين المبدع؛ شاعرا وقاصا، والمتلقي. .
**مصطفى امزير ، الحكاية والقناع في الشعر العربي المعاصر، القدس العربي.
والقاصة شيمة لم تشذ عن هذه القاعدة؛ قاعدة استثمار هذا البعد باستدعاء ما هو مشترك سواء من الحقل الثقافي العربي أو الحقل الثقافي الغربي المعروف لدى القارئ العربي، بحيث لا يجد صعوبة في التفاعل معه من دون شعور بأي غربة بفعل تعوده عليها
وهو ما نجده في كثير من قصص المجموعة، وعلى سبيل المثال، استدعاء شخصيات معروفة ومشهورة من مثل السندباد وعلاء والمصباح السحري، والجميل أن القاصة تقوم، في بعض نصوصها، بصهر رمزين من الثقافتين معا، باعتماد العنصر المشترك بينهما، ألا وهو ليلى، حيث تحضر في الثقافة العربية في ارتباطها بقيس، وفي الثقافة الغربية في علاقتها بالذئب، وهذه بعض النصوص المعبرة عن هذا الحضور ذي الأبعاد الدلالية المعاصرة:
انطلاق ص65
سندباد لم يكن سعيدا بعودة ياسمينة الى طبيعتها.. فتاة جميلة...
لذا بحث عن ساحر؛ لتعود ياسمينة عصفورة صغيرة تطير حيث تشاء وكيفما تشاء !
ماردون ص67
خرج المارد من مصباحه العتيق.. وجد أمامه مجموعة من {شباب} المدينة يطلبون منه تحقيق أمنياتهم.. وظيفة ومنزل صغير وزوجة !!
المارد أخذهم في جولة {مصباحية}...
منذ ذلك الحين والأهالي في المدينة يبحثون عن فتية ركبوا الخيال واختفوا !!.
ذئب ص69
بحثت ليلى عن مجنونها في تلك الغابة الخضراء..
لبست ثوبها الأحمر الجميل، وزينت شعرها بشريطة حمراء..
سارت هنا وهناك..
تارة تقفز وتارة تمشي الهوينا...
نادت بصوت مسموع: أيها المجنون...
أجابها عواء ذئب مسعور !!
أما قصة "أجيال" ص68، فنجدها تستثمر حكايات تربى عليها الجيل الجديد، وشكلت قيمه وكيفت سلوكاته، وبنت خلفيته المعرفية، حيث استدعت شخصياتها الخارقة كسبيدرمان والجاسوسات الثلاث وفنتاستك فور.
ويعد العنوان عتبة مهمة تشير إلى اختلاف أذواق الأجيال وتباين قيمها، وتنوع مشاهداتها.
التكثيف:
يرتبط التكثيف في القصة القصيرة جدا بالاختزال لغويا وتركيبيا، أو بالحذف والإيجاز والإضمار وتوظيف الرمز والحذف من النص ومن الزمان وغيرها من العناصر بحيث تصير القصة شاسعة الحضور، واسع الدلالة في لقطة صغيرة الحجم، ومركزة التصوير، كما هو بارز في هذا النص:
ذبول ص33:
تحسس وجهه متأملا تلك الأخاديد المرسومة عليه.. بحث عن دواء ناجع، قطف وردة وزرعها على خديه.. شع بالنظارة والحياة؛
فماتت الوردة !!
يعتمد النص بالإضافة إلى الحذف كما تبينه نقط الحذف، على الرمز الموحي، فالوردة تشير إلى الفتاة النضرة والحلوة التي ستهدي الرجل العجوز بستان نضارتها له ليستعيد شبابه وتموت هي. تلك القفلة الصادمة كصعقة كهرباء عساها توقظنا من سبات أفكارنا البليدة والقاتلة؛ إذ لم يكن من داع لقتل فتاة في مقتبل العمر لصالح عجوز ينتظره القبر.
- تلاحقت الجمل الفعلية متتابعة وتوالت الأحداث لتوصلنا سريعا إلى النهاية غير المتوقعة؛ النهاية التي أرادها النص والتي تشع بعنفوان صدمتها حتى نستيقظ من نومنا وندرك تبعات مثل هذا السلوك الذي مازال طاغيا ومميتا.
وبناء على ما سبق، نجد النص قد تميز ب:
- جمل قصيرة سريعة جاذبة..
- الحذف والإضمار والرمزية.
- وقفلة مدهشة، وصادمة كصعقة كهرباء.
_ خلو النص من الحشو والتكرار والتوصيف والإطالة مما منح لكل جملة فضاءات من التأويل المتعدد والمتشعب.
يمكن القول كخلاصة، إن المسار السردي في نصوص المجموعة ما هو سوى عصارة تجربة، وقراءة دقيقة وعميقة للواقع، وقدرة على الإنصات لنبضه، وشهادة اجتماعية وسياسية ذات بعد إنساني، تعبر عن سعة فنية تتبدى من خلال الحلم والتخييل، وحسن توظيف العلامات اللسانية المفضية إلى تعدد التأويلات، واختلاف الرؤى.
شيمة قاصة مبدعة ترسم بإيجاز وفنية اللحظات المنفلتة وتشكلها في قوالب شهية تشد القارئ إلى عوالمها، وتجذبه إليها جذبا.


Aucune description de photo disponible.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى