عزت القمحاوي - ما أحلى الرجوع إليها

المكتبة فردوس وجحيم كذلك. وقد عدت إلى مكتبتي بعد عامين قضيتهما محرومًا من فردوسي وجحيمي، على الرغم مما حملت من تمائمها، سفرة وراء أخرى.

عند ترتيب صناديق العـــودة هالني عدد ما حملت معي من كتب. لم أجد الوقت لقراءة كل ما حملت، لكنني كنت كمن يكبش أكبر حفنة ممكنة من تراب وطنه، لكن حفنة تراب لا تؤسس وطنًا في الغربة، بل تقدم مجرد رائحة ذلك الوطن.

ربما من الصعب الحديث عن غربة في العصر الحديث، فقد كنت أعود إلى بيتي ومكتبتي كل شهرين على الأكثر، لكن أسبوعًا لم يكن يكفي لإزالة آثار شهرين من الإهمال تنمو خلالهما الأعشاب الضارة على الرفوف، لأن الكتب التي كنت أضيفها خلال العامين كانت تتبوأ مقاعدها من جنتي دونما حساب؛ دون المرور بالبرزخ أو المطهر، حيث يبقى الكتاب بالقرب من السرير حتى تحدد القراءة الأولى ما إذا كان سينعم بمكان على الرفوف أو سيعاد إهداؤه لقارئ آخر، أم ستتخذ إجراءات دفنه كما تدفن النفايات السامة حتى لا يقع في يد قارئ قليل المناعة فيفسد ذوقه أو عقله!

الكثير من الكتب غير الممحصة مرت إلى الرفوف، الكثير منها تراصت بعضها فوق بعض نائمة، تحجب النور عن الكتب الواقفة. يا إلهي! كم سأحتاج من الوقت لرفع غبار الكلام من فوق الكتب المشهود لها بالصلاح، وكيف سأعيد التبويب الذي اختل.

***

في فردوس المكتبة، أو جحيمها ليس كل القديم لذيذ ويبعث على الابتسام مثل الأفلام المصرية القديمة. كل تراث السينما الميلودرامي صار اليوم كوميديًا، الكتب ليست كذلك. في مكتبتي يساريون قبل أن يتأسلموا أو عندما جمعوا بين الحسنيين فكتبوا عن يسارية الإسلام واشتراكية النبي قبل أن يتقدموا صفوف الإقصائيين والتكفيريين. هل أحتفظ بـ ‘فجر اليقظة القومية’ أو ‘مسلمون ثوار’ لمحمد عمارة أو ‘المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية’ لطارق البشري؟ هل تحقق هذه الكتب المتعة الكوميدية التي يحققها الفيلم الدرامي ‘جعلوني مجرمًا’؟!

ماذا عن ديوان أحمد عبد المعطي حجازي ‘مدينة بلا قلب’ الذي سبق عصره بنصف قـــرن؟ لم تكن القاهرة بلا قلب عام 1958. كانت حنونًا وعرفت بعذ ذلك التاريخ بسنوات جيلاً من الأدباء عــــاش في عدد محـــــدود من الشقق حياة جماعية، حتى أنهم كانوا ينسون من صاحب الشقة الأصلي أو من ينفق على إعاشـــة سكانها، لكن سب المدن كان موضة شعرية، فماذا يقول حجازي عن القــــاهرة اليوم التي لا نجد فيها شارعًا يعيدنا إلى البيت إذا غامرنا بالخروج؟! مع ذلك لا أغامر بطرد الديوان، سأرفع عنه الغبار وأنتظر.

***

أحتاج إلى جهد وصبر إيزيس لجمع أشلاء الكتب التي تناثرت أجزاؤها. هذه رباعية الإسكندرية وقد شرد كتاب ‘ماونت أوليف’ بعيدًا عن ‘بالتازار’ ونامت ‘كيليا’ بأسف فوق رأسمال ماركس، بينما تتحرك ‘جوستن’ الآن في نقطة ما على الطريق البري الطويل بين الدوحة والقاهرة، ماذا لو شعر رجال المنافذ في الصحراوات الممتدة بفحيح الجنس الذي يخرج من كرتونة تحتلها هذه اليهودية الضالة مع رجالها المحبَطين؟!

مجلدات دوستويفسكي فاقدة لتسلسلها المطمئن؛ بعض الأجزاء استعارها صديق وغدر بي ومات. أكثر من صديق رحل عن كتب مستعارة مني، وكنت أراقب زحفهم نحو الموت دون أن أهتم إلا بمصائرهم. ليتهم لم يموتوا وذهبت الكتب؛ فالمطابع لديها مصلحة في تزويدي بنسخ أخرى من الكتب المفقودة، وإن تعذر الأمر سيتكفل باعة الكتب القديمة بذلك، وإن تعذر هذا وذاك، يمكنني نسخ الكتاب الناقص. لكن الله ليست لديه أدنى مصلحة في تزويدي بنسخة أخرى من صديق فقدته.

سأستعيد ما ضاع من الكتب إذًا. لا مشكلة على الإطلاق، لكنني ميت مثل أصدقائي وأعدائي على السواء، وهناك الكثير من الكتب في المراتب الأدنى من الفردوس، الأعلى من الجحيم، لم أقرأها بعد، سلاسل فلسفية وتاريخية أخذت أماكنها لحين ميسرة، فهل أخرج لأتسول عمرًا؟ أسأل المارة: ‘دقيقة لله يا محسنين’؟!



خير جليس.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى