إبراهيم محمود - النسخة المفقودة : حكاياتية أمل الكردفاني "6"

أتصور هنا، تقديرياً، نوعية الحوادث التي نعيشها، أو نسمع بها، أو نقرأها، وكيف تستحيل قصصاً وحكايات، ومحفّزات روايات بالمقابل. أي مهارة تتطلبها اللعبة السردية هنا، جهة اقتناص حادثة معينة أو أكثر، لتكوين نسيج حكاية أو قصة، حتى لو أن الكاتب اختلق حادثة من بناة خياله، فثمة واقع مرصود، وثمة خميرة مقدَّرة لطرح عجينة الواقع نصاً قابلاً للقراءة، حيث السرديات في عمومها ذات أمومة واقعية وتاريخية، وإن شهدت انقسامات لتكون، على صعيد معايشة متغيرات الجاري، ومستجداته، ميكروسرديات، وتنوع مفهوم كل من الكاتب والقارىء.

وفي ضوء ما تقدَّم، ليس لي تصور معيَّن، ذلك حول آلية كتابة النص القصصي أو الحكائي لدى أمل الكردفاني المأخوذ بالتنوع، سوى أن الإقبال على قراءة نصوص مختلفة له، في مجالات مختلفة، وتحديداً في المضمار القصصي والحكائي، يمنح القارىء تصوراً ما حوله.

ها قد أصبحنا مغمورين بالحوادث، وبها نكون، وإلينا مرجعها بالمقابل،، وأننا أنفسنا مرجعيات حوادث لسوانا كذلك، أننا نتحرك، كما نتنشط نفسياً تبعاً لقاعدة لعبة الدمى الروسية، وليس هناك ما هو أقرب من هذا الذي انشغلتُ به منذ فترة، بصفتي قارئاً وناقداً، وبصفتي الاثتين، وبصفتي أنتظر اليوم الذي أتفرغ لموضوع آخر، كما هو أمل الكردفاني في لامستقر نفسه، والذي ينشغل بموضوعات تترى، دواماتية، نهرية، وحلزونية، وليس من قانون محدد لكتاباته، وهو ينتقل من كتابة مقال، وما في المقال من تفريعات، إلى كتابة قصة، وما للقصة، بدورها، من تنويعات، ومقامات، وأرصدة تخيلاتية، إلى كتابة مسرحية، فإلى كتابة حكاية....الخ، ما ينشره، وما يحتفظ به: كتابات غير مكتملة، متفاوتة، مختلفة الموضوعات، هاقد أصبحنا إزاء بعض من أثريات اللاتناهي حسابياً، وهو في بعض الأحايين، في اليوم الواحد، ولمن يتحرى حركية الكتابة لديه، ثمة كتابة مقال وقصة وأكثر، وما يستدعيه منطق القول من مكاشفة بنية المتخيل البحثي أو الأدبي لديه، أمل الذي ، وكما أتوقع، ينتظر، ما سيلي المكتوب هنا، ومتى ينقضي أمره كتابياً..

ذلك ما يضعنا في نطاق بؤرة السرد المتفجرة بين الأمس واليوم، بين المحدود فيه، واللامحدود من خلاله، بين صنيع الروسي فلاديمير بروب، وهو يقوعد السرد من متابعاته الفولكلورية، وصنيع الفرنسي شتراوي، وهو يمد بأبصارنا صوب المغاير في ثقافة الهنود في البرازيل، في تركيبتها وعلاقاتها البنيوية، أي بالنسبة إلى السرد كلعبة، واللعبة تكون مقوعدة وغير مقوعدة، جرّاء المتغيرات، وفي عالم اليوم، حيث يكاد الوصل التشاركي ينقطع بين الكاتب والقارىء، القارىء الذي يعرَف في معتقداته، والكاتب الذي يكتب بناء على معرفته بها، حيث لا ضمان لهذا التوازي: مثلاً، كيف تقام العلاقة بين لاسردية الفرنسي بودلير الشاعر، مترجم سردية الأميركي ادغار آلان بو قصصياً في هيتشكوكيتها، ليس كالتناغم بين السردية المتقطعة لجبرا إبراهيم جبرا، لسردية فولكنر، في " الصخب والعنف " مثلاً...حيث تختلف لغة الخطاب على وقْع النسق الذي يحكم بنية كل حكاية، أو نص أدبي، أو ما يباعد بين النصوص بتنوع السرديات، وتشابك السرديات، لتغي نفسها بنفسها، كرمى سواها، بهيئات أخرى.

إنها شبكة من العلاقات ذات النَّسَب الحوادثي، إن جاز التعبير، وفي مظانها إطلالات حكايات ضمن مساحات معينة طبعاً، رغم أن المكتوب حكاية، أقل كنِسبة عددية، من شقيقتها القصة أو المسرحية، رغم أن المنشور هنا تحت تسمية الحكاية، كما هو المعنون عاليها، يستوجب النظر، والتمحيص وحتى الاستفسار والمساءلة، وأنا أنطلق هنا من الوارد ضمن نطاق " الحكاية/ الحكايات " وكيفية التعامل معها، وفْق هذا المفهوم، وثمة ما يحرّك قصصاً من مكامنها، لتكون في ميزان الصرْف الحكائي، وحتى بالنسبة إلى بعض المقالات، وهو ما حاولت إثارته، أي جهة المرونة الفاعلة في التعامل مع خاصية المدوَّن هنا، وأنا أتخيل ما يكون عليه " وضعه " كداخل في حكاية، هي حادثة مؤثّرة، وخارجها صوب سواها، حلقات مفتوحة متعددة الاتجاهات، وهو ما ينشّط جرثومة الخيال، لمقاربة حوارية إزاء هذا التنوع، والتمرين في الكتابة المتعددة الأنساب تفكيراً وتعبيراً، أي سلسلة الحلقات المتداخلة التي تمنح الكتابة السردية حضورها، من خلال ولادتها الأولى، ومن ثم ولادتها الثانية مع قارئها، وتالياً ولادتها الثالثة مع ناقدها بوصفه قارئها الآخر، لنكون في عهدة ما لا يحصى من القراءات، أو مستويات التلقي.

والذي يعنيني هنا، هو مسعى مقاربة كيفية كتابة نص الحكاية لدى أمل الكردفاني، وماالذي كان يشغله، في عملية الكتابة، وأي حكاية هذه التي انشغل بها، افتتن بها، وعمل على توضيبها أو ترميمها، أو تحميلها بتصوراته الخاص، وما يصل السابق باللاحق، ويحدد موقعه في ولادة الحكاية، وهي تقوم على أكثر من أصل، أكثر من بنية تراكمية .

ولتكون الحكاياتية إمضاءة على لعبة التسمية، وهي بطابعها المعرفي المتجدد !



أصل الحكاية، حيث لا أصل محدداً

سأتوقف لبعض الوقت عند حكايته " قصة الحمار والأسد السخيفة لكاتب تركي، 4 آب 2019 " كيف أجيزتْ حكايةً ؟

هذه الحكاية، وكما سمّاها الكاتب، تدور حول قصة حمار مستهتر بالأسد والتهمه الأخير على خلفية من استهتاره به، وقد استخف أمل بالقصة بداية، ليتبين صواب كاتبها الأول بعد ذلك، ولا نعلَم بالمدة الزمنية التي أدرك فيها هذه الحقيقة، وفي أي وضعية كان .

طبعاً لأن البشر هكذا يتصرفون مع بعضهم بعضاً، كما يُستشَف من النص .

كما في قوله( قبل سنوات وقعت في يدي مجموعة قصصية لكاتب تركي ، دبج المترجم تمجيداً وقداسة لمؤلفها دفعتني إلى قراءة قصصه تلك. وكم فوجئت بسخافة تلك القصص وسطحيتها ، ومن ضمنها قصة الحمار الذي كان يسير في الغابة ، فلمح من البعيد أسدا ، تبادل الحمار والأسد النظرات فالتفت عنه الحمار وقال:


- هذا ليس أسد.. ليس أسد..انه مجرد وهم.
حينما رأى الأسد غفلة الحمار تقدم ببطء وزأر فالتفت نحوه الحمار وحدجه بنظرة فاحصة ثم غمغم بعد تنهيقة عالية:
- هذا ليس أسد.ليس أسد..
وظل الحمار يردد ذلك حتى التهمه الأسد.
لقد أحسست حينئذ بأنني تورطت في قراءة ذلك الكاتب التركي من شدة سذاجة تلك القصة.
غير أنني بعد سنوات العمر الطويلة والبائسة ؛ حيث تأملت أنسال البشر تخبط في أقدارها ، وتتكأكأ على مدارج الوجود والفناء ، الحزن والفرح ، الجوع والشبع ، الروى والعطش ، الفقر والغنى ، الحروب وهدنته المتبعثرة. أدركت معنى قصة ذلك التركي.).

لدينا أكثر من سياق حكائي:

أصل الحكاية، ولا علْم دقيقاً لنا ، بالحكاية هذه، وهذا يسمّيها حكاية الأصل.

مستخلَص الحكاية: من خلال الكاتب التركي، الذي حرّرها من حكائيتها، ووقّع عليها باسمه، كما لو أنها سرديته .

حكاية المترجم نفسه، والذي ألمح إليه الكاتب دون أن يسمّيه، وهنا يتعاظم الأثر، ويغيَّب " الحيوانان " ليكون أمامنا بشر، وطرق تعاملهم مع بعضهم بعضاً، وأكثر من سوء الفهم القائم فيما بينهم .

لا أريد أن أورّط نفسي، ولا أمل معي طبعاً في المقابل النصي، حيث قسوة الدال الحكائي لاذعة هنا، إنما، إن أردنا حقاً، واعترافاً بالحق، ما أكثر حالات من هذا النوع. لكم نقوّل الحيوان ما ليس فيه، لنُقصي عنا ما هو أدنى بهائميةً "ربما تناولت مناخات كهذه، في مجموعتي القصصية: " الحيوانات تستعيد ذاكرتها "، وتالياً، تعرضتُ لهذا المعلَم الداخلي الرهيب إنسانياً، من خلال كتابات متفرقة، وعبر ترجمتي، من الفرنسية إلى العربية، لفقرات من كتاب " الحيوان الذي أنا عليه " لجاك دريدا، إلى جانب نصوص مناقشة للكتاب، مع تقديم منّي له، قبل عدة أشهر، وبالعنوان نفسه، وثمة مكاشفة حارقة محرقة من هذا القبيل .

وأن يُسمّي أمل النص السالف حكاية، أو ينشره في نطاق " الحكاية " وما فيه من تداخل، لا يحفّز " قارئه " على تقويل معين، قد يكون عبئاً على النص، وإنما النظر في الممكن قوله، حيث العنوان أولاً بسيمائه الملحوظة، يثير أكثر من تساؤل عما كان يتفكره كاتبه، بإجرائه هذا، وثانياً، يستولد أكثر من هاجس معرفي، يستشرف بي على الأقل، جهة غير مطروقة، لإطلاق العنان لخيال معرفي من نوع آخر، بصدد تجنيس النص، لحظة منحه عنواناً، وما في ذلك من قلقلة المعنى المتداول، وإحراج القارىء نفسه، كما لو أن هناك من يقول له: انتبه، ليس ما كنت تفكر فيه، وما كنت تعودت عليه، هو الذي سيأتيك به نص دون آخر، بدءاً من فاعلية عنوانه.

ما قام به أمل، يشكّل أكثر من انزياح عن مقصود التسمية، حيث إن الذي تطرَّق إليه جاء في قالب مقال، وليس حكاية، ومن جهة أخرى، فإن الوارد في نصه، هو حكاية مجهولة الاسم، لتتأكد حكائيتها، وقد تمت ثمئذ معالجتها قصصياً، وهي قصة للكاتب التركي عزيز نسن، وتشغل موقع العنوان الرئيس لمجموعة قصصية له، قرأتها مترجمة إلى العربية منذ سنوات، أي " آه منّا نحن الحمير " وما أكثر " حَمْيَرة " قصص عزيز نسن، وحتى في سواها" روايته: رسائل حمار ميت، مثلاً "، وبالتالي، فإن الذئب، وليس الأسد هو الذي يقابل الحمار في قصة نسن، ويعطيها بعداً دلالياً آخر، على صعيد التصوير، ومن جهة المناخ الحيواني، فالذئب أخف وزناً، ولا يتعب في مطاردة " فريسته " وكيفية التمكن منها، من نوع الحمار هنا، لتكون العلاقة أكثر سياقية، أو توازناً، أو مقبولية، لحظة إسناد الحديث إلى الحمار، وهو لا يحس بخطورة الذئب، إلا لحظة الانقضاض عليه، جرّاء خفة الوزن، بينما الحالة مع الأسد مختلفة، جهة كبَر الحجم، ومن ثم رؤيته أكثر، إلى جانب تردُّد صدى دبيب أرجله على الأرض، أكثر من أرجل الذئب .

وما يقوله نسن يثير متخيلنا واقعاً ( كان للحمير لغتها الخاصة، حتى قضى عليها الذئب بسبب سذاجة الحمار الرمز، واكتشف ذلك بعد فوات الأوان.

- آه آه إنه ذئب آه، هو آه هو

.....
تابع الذئب النهش من لحم الحمار الهرم ذي اللسان المربوط، حيث لا يصدر منه سوى آه هو ... هاق .... هاق.


منذ ذاك اليوم نسينا أيها السادة ، ولم نستطع التعبير عن رغباتنا وأفكارنا إلا بالنهيق.
ولو أن ذاك الحمار لم يخدع نفسه، لكنا نجيد الحديث بلغتنا إلى الآن. ولكن ماذا أقول آه منا نحن معشر الحمير.. هاق ... هاق ...).

جمالية السرد القصصية، وعبر لعبة التناص صادمة، عذبة، مخيفة، كابوسية، ومنبّهة في آن !

ولا أستطيع الجزم بالطريقة التي قرأ أمل نص القصة أساساً، في موقع أو ضمن كتاب، أو في صحيفة أو مجلة معينة، حيث التأثير، أو الانطباع النفسي مختلف، ونوعية التلقي مختلفة بالمقابل، إلى جانب مناسبة استثمار النص في واقعة معيشة .

ولعل المضيّ إلى قراءة الوارد في خانة " الحكايات " يظهِر اختلافاً في مفهوم الاسم بالذات، حيث إن التصور المسرود للنص، يجعله أقرب إلى القصة لا الحكاية، لوجود مكونات تسجّل هذه الصفة، أي تبعدها، بشكل ما عما هو حكائي، كما في " أصول، 21 تشرين الثاني 2019 ". سأقتبس هذه الفقرات :

( الساعة الثانية عشر مساء ، موعد تلقي الفحص الليلي لمستوى السكر في الدم ، الفراشة مزروعة في ظهر كفي تمتد ابرتها لتمس العظم البارز فتحدث الما عصبيا خفيفا ومرا. كانت أصول تتابع حالتي باستمرار ؛ السيستر او الممرضة المبتسمة دائما ، سوداء وطويلة ممشوقة القوام ، تنحني باحتراف فتزرع الحقن داخل الفراشة او تطعن إبهامي لقياس السكر.

أصول التي كدت أن اخبرها ليلا بأنها لو وجدت سبيلا للهرب إلى كندا أو امريكا فستحصل كما حصلت سودانية أخرى على جائزة أفضل ممرضة في العالم وآلاف الدولارات واحتراما شعبيا كبيرا.
لكنني تراجعت عن إخبارها في اللحظة الأخيرة ليس لأنها قد لا تهتم ولكن لأنها قد تهتم. نعم.. ربما تهتم وتمتلك حلما..خشيت أن أمنحها حلما ينتزعها من الصبر على واقعها الذي اندمجت فيه بكل خلية من خلايا جسدها وكل نفحة روح فيها.


من الأفضل لمن يعيش في بلادنا هذه ألا يحلم أبدا. بل أن يندمج في مرارة الواقع حتى أنه يتمكن من العودة للابتسام بعد لحظة حزن سريعة كما يحدث لأصول عندما تسمع تأوهاتي الكاذبة.).

حادثة ذات طابع قصصي، أو تشدنا إليها بمحتواها القصصي، وإذا كان في مقدور أمل أن يشدّد على حكائية نصه، فلا بد أن هناك تصوراً معيناً لديه، يقيس في ضوئه كتابته " الحكائية " هذه. ولا أقول إن ما يذهب إليه الكاتب، من موقع التواضع، فللحكاية أيضاً سحرها، طقوسها، وقواعدها النسبية، في ظل تشظي التسميات وأرضياتها غير المستقرة هي الأخرى، غير أن الكاتب ليس هناك ما يلزمه لأن يستجيب لها، وإلا لما شهدنا تجاوزات في هذا المفهوم، أو " خروقات " ممدوحة مع الزمن، كما في نصوص الأدب الحداثي بالذات .

ثمة حادثة، وما أكثر متشابهاتها في الواقع، لكن وضعها في قالب " حكائي " أو " قصصي " أوجد بداية ونهاية لها، لتكون حكاية أو قصة من لدن كاتبها .

ذلك ما يمكن التفاعل معه، حيث تجلّي الروح القصصية يكون الأغلب، في " تصورات 26 كانون الأول 2019 "، وفي هذا المقتبس ( كان زمهريرا جافا لمناخ اكتوبر الخنثوي ، وضوضاء المقهى تختلط بضوضاء ميدان التحرير ؛ يضربون الطابة بعنف ؛ الدومينا بعنف أقوى ، يجترون دخان الشيشة بعنف أكبر.

تغني أم كلثوم: (أغار من نسمة الجنوب على محياك يا حبيبي) ، ومات هو وماتت هي بل حتى نسمة الجنوب هلكت بالتغير المناخي..وزمهرير أكتوبر الخنثوي..

حتى الموت يختلف من شخص لآخر...شخص نعرفه ولا نعرفه..شخص جميل وقبيح..شخص نحبه ونكرهه..


ورأيت نقطتي دم على حذائي...فرفعته للإسكافي وبدأ عمله بنشاط...
كنت أسمع أزيز أنفاسه..إنه مصاب بالسل أو مدخن شره...كانت ملامحه ملامح مجرم يغتصب الأطفال...لكنه حين رفع وجهه وضحك مغازلا بائعة النعناع رأيت بشريا بلا معنى...كان باهتا كحروفي وكلماتي هذي...).

مأثرة القصة أنها تعلق بالذاكرة الأدبية أكثر، وتسمّي كاتبها وصفته الإبداعية بصفة أمتن، حيث الخيال يمارس لعبته.

وأزعم أن لدى أمل، جرّاء تنوع قراءاته، كما تعلِمنا بذلك كتاباته، سياحات تخيلية في عوالم مختلفة الفصول، وأن هذا التنوع يسهِم، في المحصّلة في وهْبه ذلك النسيج الأدبي الذي يكشف عن بنية " اليد " الناسجة أدبياً، وهذا ما يمكن في " حكاية من ما وراء الطبيعة، 12 كانون الثاني 2020 "، إذ ما أسهل العثور على خاصيات استهلالية كهذه، وما تفرزه من تصورات، وتهيؤات نفسية، واستطالات جمالية ومفارقاتها ( لا تتوقف غرائب وعجائب الحياة وقصصها...إنني أفتقد للاعتقادات بالماورائيات لكنني رغم ذلك ألتقي بمن تحدث لهم تلك العجائب كثيرا. ولا أعرف كيفية تفسير هذه الغرائب.

يتحدث البعض عن التليباثي أو التخاطر عن بعد بالعقول وهذا أمر شائع بين العشاق فهم -إن لم يكونوا يكذبون- يقصون الكثير من قصص التخاطر ، ولكن لا أعلم لماذا يفقدون هذه الخاصية بعد الزواج فيتشاجروا ويتناطحوا تناطح الثيران..

لقد قرأت كتبا عديدة عن عمل الدماغ وفيها من العجائب ما فيها.. فمثلا..أنا كإنسان خاضع تماما لدماغي..فهو الذي يحدد لي الطعام الذي أحبه والعلم أو الفن أو الحرفة التي أميل إليها.

لذلك فإنني دائما اسأل ذلك السؤال المحير: هل نحن فعلا أحرار؟ ).

وربما يأتي قارىء آخر، فيصر على حكائيتها، وثالث، على ما أقوله أنا، ورابع على الهجنة هنا، وهكذا دواليك، ويعني ذلك، أن أمل بإجرائه يكاد يلزِم قارئه، أو ناقده، لأن يراعي فيه لحظة قراءة نصه، منطق ذائقته الخاص في السرد.

وفي تنويع آخر، في " خواطر عن البكاء والحب والفروسية، 13 كانون الثاني 2020 "، حيث العامية تعانق الفصيحة:

( مررت بأب مصري يقول لإبنه الشاب بعنف:
- اللي باعك بيعو...اللي باعك بيعو..
والود يعيط بحرقة...


...

وفي مصر تتعلم الكثير ففيها البؤس وفيها السلام...وفيها الحب وفيها المقت...وفيها العنف وففيها الرومانسية .. وفيها البلادة وفيها الرقي...وفيها النساء الجميلات وفيها غير ذلك..

وكان شتاء وكان صيف..
فرأيت ذلك حسن...).

قد يحثني الوصف في النص على تسجيله في خانة الحكاية، لكن وجود حادثة لافتة، استبصرها الكاتب، واعتمدها في عملية السرد الحكائي: القصصي، قصة فاعلة الأثر، على التعريف بها قصة، وقد أطيحَ بالحدود وعلامة التقليد الفارقة فيها .

نعم، في المستطاع الحديث عن جانب حكائي، من خلال صفة المباشرة، وما يبقي الموصوف، في خانة التقليد، لكن التقابلات، يحصر القول، بمقدار ما يوسّع فيه، ويستشرف أكثر من معنى.

وفي المناخ عينه، ومن بناة الشهر عينه كذلك، في المكان المصري، يأتي نصه الآخر، والذي يتعزز بتلك النفحة القصصية المؤكدة بأثرها ( عندما التقيت بسوبر مان (كريستوفر ريف( 25 كانون الثاني 2020 )، ومن ذلك :

( هناك عدة اتوبيسات كان بإمكاني ركوبها من ميدان الجيزة..
أولها واحد شرطة وتقريبا هذا يذهب الى ميدان لبنان..واتوبيس تسعة ستة ستة وهذا يدور العاصمة ويصل إلى مطار القاهرة القديم.. أتذكر الوجهة بشكل غامض لكنني اخترت أحد الاتوبيسات وركبته ووجدت مقعدا على الجانب الأيسر حيث المقاعد الفردية..دون أن يتاح لي أي خيار آخر... تحرك الباص وبدأت الرحلة والكمساري:
- خش جوا..قدام فاضي... متزحمش المكان وخش جوا...

أحد الخمسينيين فعلها مع امرأة مستغلاً الزحام فقد إلتصق بمؤخرتها وكالعادة حصل الشجار وتم فضه بأن نزل الجاني بسرعة تجنباً لتلقي الضرب من الجماهير المحتقنة نفسياً بسبب ضغوطات الحياة.

بعد رؤيته لوجه بائس ذكره بسوبرمان:

المسألة بالنسبة لي كانت مفارقة غريبة...بين سوبرمانين..سوبر مان نجم هوليوود ورمز أمريكا الرأسمالية الساحقة للفقراء وسوبر مان نجم البروليتاريا المسحوقة من أمريكا نفسها..فمصر سحقتها أمريكا سحقاً لم تشهده أي دولة أخرى ولكن بالسحق البطيء والممنهج بحيث لا يضحى الإنسحاق واضحاً للعيان.)

أو حتى في " والدتي كفنانة، 12 شباط 2020 " بما فيها من تلاقح حكائي- قصصي:

( لقد كانت والدتي لها الرحمة سيدة فنانة، ففوق حفظها للشعر العامي، كانت حائكة بارعة للملابس. منها تلقيت شعوري الأوَّل بفلسفة جمال الازياء. لم تكن تعمل كحائكة ملابس لكن كان لديها خبرات ضخمة في حياكة كافة انواع الملابس، من فساتين الزفاف والقمصان والبنطولات، كانت تحيك لنفسها ولنا ولأقاربنا المقربين مجاناً وبسعادة بالغة.

تجيد والدتي تحويل كل شيء لفن، وتوزيعه بشكل متناسق، لقد اخبرتني خالتي بأنها كانت تحصل على الدرجات الأولى في المدرسة لكنها فضلت ان تكون ربة منزل.

نحن الآن نعيش وصالة المنزل خالية من الفن، حيث لم نعد نكترث لشيء مما كانت هي تهتم به. لم يعد هناك متحف اللوفر عندنا.. لقد انحدرنا بعدها ثقافياً بشكل لا يمكن تصديقه.
لها الرحمة..)

ولو أن قارئاً تابع الكاتب في نماذج من قصصه، لأمكنه العثور على العديد أو أكثر مما هو حكائي، إن جاريناه في تصوره الثقافي، أو الذاتي للحكاية، كما في قصة " قصة انتحار صبية..18 أيلول 2018 "، وكما يتراءى مسار السرد فيها لي:

( كطبيب كان علي اجراء فحوصات سريعة ، وجهها كان يزداد زرقة كلما مضى الوقت ، رغم ان اعراض كثيرة وجوهرية لم تظهر في جسد الفتاة المغمى عليها . كالاسهال والقيء او حروق بالفم او خلافه لكنها كانت قد شرعت في الانتحار ،

كانت نحيلة الجسم ، ومقبولة الجمال ، تمدد جسدها على سرير المستشفى باسترخاء كامل ،

قال الطبيب العجوز وهو يشدها من شعرها:
- كنت تكتمين انفاسك لفترة طويلة حتى يزرق لون وجهك ... وماذا ابتلعت؟ اكيد حلوى...)

وكذلك الحال في قصة " خبز وحب، 23 تشرين الأول 2018 "، مقارنة بما تقدم بدايةً:

( دخان كثيف يملأ السماء ، كانت ليلة حمراء ، خلفت حطاما وهدما للمباني والكثير من الموتى...، استمر القصف لساعات الليل الطوال والتي ازدادت استطالتها تحت صرخات الرعب ، وصمت الاطفال الذين أصيبوا بصدمة عصبية.)
أو في نص محرر من التسميات، لحظة توسيع ساحة سرد الحكاية بالذات، في " انبثاق حر.. نص، 23 آذار 2019 "، وفي هذا المقتبس :

( الزمن لم يمر من هنا ؛ حتى الليل والنهار لم يتعاقبا فوق سمائه ، الكون الأحمق يهرول في مكانه دون هدف. (ليس ما يحدث منطقي .. لا شيء منطقي)...ابتلع قرص بروزاك ثم تلاه بآخر ...يقولون أنهم يشعرون بالزمن بعد تناول أكبر جرعة ممكنة منه ، لكن الزمن لا يمر...سقيفة القش كما هي مشبعة بسموم أزلي ،

أسلم جسده للا شيء ورأى أذني العنزة منتصبتين .. وهي تضم أقدامها الأربعة إلى بطنها..كانت تبدو جزعة جدا ).

وللناظر المتأدب، أو المعني كذلك بحركية النقد الأدبية، أن يكاشف محتوى " الحزن بلغة أجنبية.. قصة قصيرة، 11 تموز 2019 "، وما تثيره من ترددات، جهة التجنيس الأدبي:

( قبل كل شيء:
لا يوجد حزن في هذه القصة.. وكل المسألة أنني قررت أن أجذب المكتئبين اكتئابا مزمنا لقراءة هذه القصة ، وكذلك الذين كلما رأيت وجوههم أحسست أنهم يسحقون بأضراسهم كتل الملح ولديهم صداع نصفي.. أو إمساك ناتج عن سوء هضم الواقع.

(إن كل صراع في هذا العالم يتخفى وراء أقنعة من المفاهيم المجردة...(
قالت ذات السيقان ذلك ثم غادرت تاركة العذراء في حيرة والتباس كبير. لقد مات الآلاف من الجند من أجل تلك المفاهيم المجردة.
يقول المتفلسفة من أهل الفن أن الفن يترك ولا ينجز...أي أن العمل الفني لا يبلغ منتهاه أبدا...إنه يترك وحسب.. والفنان يشعر حينها بأنه غير قادر على إضافة شيء أو أنه خائف من إضافة نقطة صغيرة لهذا العمل.. إنه يتردد كثيرا قبل أن يعلن موته لحظة ميلاد فنه... ربما؟!) .

وإذا كان لي أن أتحرر من القواعد المحدد بزمان ومكان معينين، إذا كان لي أن أخرج رأسي من تلك الأطر التي تناظر سرير بروكروست أحياناً، يشهد على مجازر أدبية رمزية، يمكنني، ومن زاوية أرتاح إليها وفق مفهوم أدبي، ومن خلال قراءات مختلفة لي، فإن الموسوم مقالاً، وهو " الموت، 18 آذار 2020 "لا يخفي بين ظهرانيه بدعة القصة وليس الحكاية، أو الحكاية المتلاحمة مع ما هو قصصي :

( ولولات ونواح النسوة في منزل الجيران..
يبدو أنه الكورونا...
زمان كنت أشعر بالاكتئاب عندما اسمع صرخات وولولات ونواح النساء. كانت أغلب المِيِتات تحدث قبل الفجر، والناس ينفضون عن أعينهم النوم ويرتدون عدسات الجزع الحمراء..
لم يعد للنواح اليوم قيمته القديمة... أصبح فقط مجرد تنبيه كتنبيهات الواتس والفيس...
هناك شخص قد انترم..
هناك شخص انطفأت ومضته..

هكذا أصبح الإنسان يتجاهل الموت كجانب إنساني ويجرده ليضحى رقماً إحصائيا له فرادة ذات أهمية قصوى للأحياء.. وكما يقول المثل (الحي أبقى من الميت…)..).

وهذا يزيدني حماساً معرفياً، ويقصيني عن أشباح القيّمين بعنفهم الأدبياتي، لأن أجد في نصوص، منتسبة إلى خانة ما أبعدها عما تحدثنا فيه، خانة الفلسفة، كما في " أنطلوجيا الأكل..16 كانون الأول 2019 "، وأنا أورد النص كاملاً، وهو قصير، ولكنه طريف، ويحمَل على أكثر من وجه، وليس في مقدور احتكاره بعلامته :

( أن تأكل اكلة طيبة.. ليس لتمتع المعدة.. فالمعدة لا تشعر بالمذاق.. ولا باللسان لأن المعدة عندما تمتلئ يفقد اللسان ذائقته. انما لتشعر بأن كينونتك حاضرة في هذا العالم بكل جوهرها... هناك اتصال ما بينك و بين العالم.. و هو اتصال مباشر.. شيء ما يدخل من فجوة فمك الى احشائك.. تمارس عليه سادية التملك والإهلاك... ليس للطعام فلسفة بل للأكل فلسفة... فحين يضحى العالم غريبا عنك و تضحى غريبا عنه.. يكون الأكل صلاة للتقرب من العالم... و عندما تبتلع فأنت تشعر بخسارة جزء من العالم لشيء ما لحسابك... ورحلة ذلك الشيء ما بين يدك و فمك و معدتك هي تعويض عن الفجوة العارمة التي تفصل ذاتك و الوجود...
وإن لم تجد طعاما فكل أي شيء.. مسامير أو زجاج أو خشب أو ورق أو بلاستيك... غير أنك لن تتحمل ذلك... فليس كل الوجود قابلا للأكل...).

أولاً، هناك الطرافة الأدبية، وثانياً، ما يرفد الطرافة هذه من إضافة ينوّع في لعبة السرد بالذات، ناحية الصور التي تتفاعل مع بعضها بعضاً، وهي تستدعي أشخاصاً يتموقعون في أمكنة مختلفة، وهم في هيئات مختلفة، يصعب حصر المخيال الجمالي للموضوع فلسفياً هنا .

تلك، أو لعلها هكذا هي حكاية أمل الكردفاني، كما أرى، حيث سمّاها بعناصرها، بطريقته، وهذا يفجّر" فتنة " التباعد والاختلاف، وهي الفتنة التي تعكر صفو المجتمع المأخوذ بالتقليد، وإنما صفو الأوصياء على ما يعتبرونه سرداً بهذا المفهوم أو سواه، وليس خلافه، وأعتقد أن أمل الكردفاني، محرَّر من كل وصائية، كما تقول لغته الكتابية، ولهذا كتبت ما كتبتُ.



أمل الكردفاني في حِمى النقد الأدبي " 7 "

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى