عبدالرحيم التدلاوي - الأبعاد القضوية والفنية في مجموعة " وطن وسجائر... بالتقسيط" للمبدع المرحوم أحمد السقال

وطن وسجائر.. بالتقسيط»، هو باكورة الأستاذ أحمد السقال، وهي مجموعة قصصية قصيرة تقع في أربعة وخمسين صفحة من الحجم المتوسط … يتألف هذا العمل السردي من ثلاثة وعشرين نصا. صدرت عن مطبعة ليتوغرافيا في طبعتها الاولى سنة 2010. وتمتد على مساحة 54 صفحة من القطع المتوسط.
مسألة التجنيس:
تجنيسها يطرح جملة أسئلة، هل هي فعلا مجموعة قصصية أم مجموعة قصصية قصيرة جدا أم هي أقاصيص؟
فإلقاء نظرة سريعة على حجم النصوص التي تختلف أحجامها سيقودك إلى طرح سؤال تجنيسها، وعن سبب اختيار القاص تجنيس القصة لا الأقصوصة ولا القصة القصيرة جدا، رغم أن العمل يتضمن العديد من قصار النصوص. فإذا كانت قصة "ليلى" تشتمل على ثلاث صفحات، الأمر الذي يدخلها ضمن القصة القصيرة، فإن ذلك لا يمكنه أن ينطبق على قصة "حبو" مثلا، ولا ينطبق بتاتا على قصة "ومضة شبه.. قصصية"؛ فالعنوان بنفسه يشير بصراحة إلى هذه المسألة؛ إن القاص واع بمسألة التجنيس، لكن، ما الذي جعله يختار القصة القصيرة كوعاء لنصوصه دون غيره؟
أظن أن القاص إما أنه يعي أن القصة القصيرة رحم منه تناسلت الأقصوصة والقصة القصيرة وبالتالي فلا داعي للإكثار من المفاهيم والمصطلحات التي قد تقود إلى الغموض وتضارب الآراء، وإما أنه ترك فضيلة التجنيس للقارئ انطلاقا من الجنس الأم؛ ألا وهو القصة القصيرة، فله حرية إضافة صفات أخرى بعدها، أو تغييرها.
غلاف المجموعة ولوحتها:
لعل ما يثير انتباه المتلقي وهو ينظر إلى غلاف المجموعة اكتساح اللون الأحمر له مما يولد انطباعا باللامتناهي، فضلا عن تمرد فضاء اللوحة على التأطير فقد أتت منزاحة عن المركز، سائلة ومن دون ضفاف؛ وبذلك صارت اللوحة جزءا لا يتجزأ من فضاء الغلاف ككل.
و إتيان الصورة بشكل مائل كان لغرض خلق إحساس بعدم التوازن. اختلال التوازن هذا يمكن تلمسه من خلال العنوان الذي يستدعي عنصرين اثنين يولدان الانطباع بالتصدع، ألا وهما الوطن والسجائر بالتقسيط. فما العلاقة بينهما؟
الأكيد أن الوطن هو مجال جغرافي أعم وأشمل، ويتضمن كل شرائح المجتمع، لكن احتضانه لفئة مهمشة تعيش ببيع السجائر بالتقسيط ما هو إلا احتضان كاذب، إذ يشعر فيه هؤلاء بالتهميش والتحقير؛ مما يولد الشعور بعدم الانتماء، وبالتالي النفور والرغبة إما في تدميره أو هجره؛ هجرة متنوعة الأبعاد، رمزية وحقيقية.
العنوان:
يبدو العنوان الرئيس في هذا العمل الإبداعي تشاركيا؛ فهو من جهة مظلة لكل النصوص ومن جهة أخرى هو عنوان خاص بقصة ضمن قصص المجموعة. كما أن هناك توحدا بين العنوان الكبير "وطن وسجائر.. بالتقسيط".. وبين بقية النصوص. -إن العنوان جماع لكلمتين تأتي بعدهما نقط حذف متبوعة بكلمة التقسيط التي تجمع بينهما حيث تشير ضمنا إلى أنهما بيعا أو يباعان "مقسطين" في حد ذاتهما..
ما يثير الانتباه وشهوة التأويل في المجموعة هو الجمع والإبعاد باعتماد نقط الحذف في ذلك كفاصل أو كحد. فمن جهة هناك الجمع بين الوطن والسجائر. ومن جهة ثانية هناك إبعاد لكلمة التقسيط. وتكون نقط الفصل مساحة عارية تستحث على ملئها بالتأويل. لعبة الوصل؛ وطن وسجائر؛ ولعبة الفصل؛ بالتقسيط؛ تدفع إلى الجامع بينها جميعا. فإذا كان الوطن معنويا فإن السجائر مادية ومثلها البيع. هذا السلوك الذي انتقل من المحسوس بمعقوليته إلى المعنوي بلا معقوليته ليصير محسوسا يدفع إلى استنفار جهاز المتلقي القيمي ليعبر عن ‘دانته لكل من يقف وراء هذا السلوك المستهجن والمتسبب في مآسي للفئات المستضعفة وخطرا على الوطن وأمنه وسلامته واستقراره. لم يكن الجمع مجانيا ولا نقط الحذف كذلك. لأن الجامع بينهما هو ما تضمره تلك النقط وتفصح عنه الكلمة الأخيرة. العنوان في حد ذاته ومضة أو التقاطة ذكية انطلقت من المتداول والمشاهد كل يوم ألا وهو بيع السجائر بالتقسيط إلى غير المتداول لكنه محسوس من خلال نتائجه ألا وهو بيع الوطن أو احتكار خيراته من لدن فئة متنفذة لا ترى في الوطن سوى بقرة حلوب؛ ولا يهما غرقه.
عن أبعاد المجموعة القضوية والفنية:
تنحاز المجموعة إلى هموم الإنسان، بمعنى أنها تطرح قضاياه أو قلقه منحازة إلى حقه في العيش الكريم، نصوصها تسلط الضوء على مواطن الاختلال التي يعرفها الواقع، فالكتابة لدى القاص تلعب دورين اثنين متلازمين، الإمتاع والمؤانسة وتحقيق التغيير، أو المساهمة فيه بخلق وعي جديد ومغاير لدى المتلقي.
وهو ما يؤكده محمد يوب بقوله:
ونلاحظ بأن القاص في هذه المجموعة ينطلق من الواقع ليرفعه إلى مستوى التخيل ليضفي عليه صفة الأدبية واللذة الفنية و الجمالية، ولا يمكن تحقيق ذلك بأسلوب مباشر بل لابد من تمريره من خلال بوابة السخرية التي تعطي للعمل الأدبي نوعا من المزحة الهادفة،التي يريد القاص من خلالها تحقيق غاية وهدف، وهو ترسيخ هذه الرؤية إلى العالم التي يمرر من خلالها رسائل كثيرة ومتعددة وهذه الرسائل، ذات طعم يتصف بالمرارة ولكن مرارته امتزجت بنكهة السخرية السوداء التي تذكر بواقع الإنسان في أي زمان وفي أي مكان.
ويضيف: فالقاص في"وطن وسجائربالتقسيط" يعبر عن مرارته وعن انزعاجه مما يحيط به من سلوكيات خاطئة تتنافى مع تربيته وأخلاقياته،وهو بذلك يريد أن يساهم ولو بقسط قليل في نقل هذا الواقع ومحاولة تشريحه أمام القارئ لمعرفة المداخل التي تساعد على إيجاد الوصفة الممكنة لرتقه وإصلاح جزئ بسيط من عيوبه.
وضعية القهر:
تتناول قصة "شعيب"ص9) مسألة الانسحاق والموت بالتقسيط حيث يُطرح سؤال حاد جدا «هل توصل شعيب بآخر أقساط موته، وقد مات بالتقسيط لستين عاما أو يزيد « (ص9)، فشعيب وضد إرادة الكاتب المعلنة، والتي تخالف المبطنة، هو تصغير للشعب الذي يرزح تحت القهر والحرمان والتهميش؛ إنها إشارة بالجزء للكل.
الطفولة:
وكما أفرد القاص حيزا من برنامجه السردي للحديث عن المثقف ووضعه المادي والمعنوي؛ فقد افرد حيزا مهما للحديث عن الطفولة ومعاناة الأطفال، وأعطاب الطفولة وما يمكن أن يحدثه العنف من أثار مخربة في نفوس هذه الفئة الهشة حيث تبقى وشما طوال حياتهم
وهو ما تتناوله نصوص مثل: «خدوش في الذاكرة» التي تتناول آثار العنف الغير تربوي على الناشئة حيث تمتد شروخها إلى مرحلة الرجولة..» الصباح رمادي، وبدون سابق رغبة، نظر مليا إلى كفه اليمنى، تأمل الوشم الماثل على صفحتها، تذكر ذلك الصباح اللعين من نيسان، حين قطب المدرس مستشيطا من تكرار في غير محله لمقطع من النشيد الوطني.. كانت الساعة تشير إلى العاشرة من عمره..(ص17)، كما تعالج أقصوصة «نشاز طفولة» موضوع خدوش الطفولة التي تصيب النفس والوجدان « مفلح طارق في دراسته، يسابق خلانه في القسم كما يسابقهم في الدرب، والمرتبة الأولى إسمها طارق».. «لا تتأخرأم طارق في تلبية طلباته» «وطارق بشوش لايحزن» لكن عودته المفاجئة ووجود أمه مع رجل غريب تجعله «يحزن، يخرج إلى الدرب يلح في مسابقة الخلان، لكنه في هذه المرة لا يكون في المرتبة الأولى، لأنه لا يتوقف عن الجري…»(ص23)، أما أقصوصة «حالة عادية جدا» فتعالج قضية مجهولي النسب، فعمر الذي تسنح له فرصة الإتجاه إلى أوروبا، بعد تعرفه على أحد السياح الأجانب، يجد نفسه بدون أوراق تبوتية، فيصاب بالجنون…(ص29)
جريدة بيان اليوم.
فنجد القاص ومن خلال مجموعته يعبر عن موقفه من مجموعة من الظواهر الاجتماعية السلبية بأسلوب ساخر يخرج القارئ من سلبيته؛ ويفرد حيزا مهما من برنامجه السردي للحديث عن وضعية المثقف المزرية، ويسعى إلى إقناع المتلقي بهشاشته وضيق ذات يديه:
المثقف:
فقصة (خواء) تتناول الكاتب ومكانته في المجتمع، بغاية إثارة الانتباه إلى مكانة هذه الشريحة في مجتمعاتنا العربية، شريحة مهمشة تعاني الفقر، وقهر الزمن، وشرطها الاجتماعي لا يختلف عن بقية الفئات المهمشة والمشكلة لقاع المجتمع، وتسعى القصة إلى محو الصورة المثالية عن الكتاب، تلك الصورة التي تترسخ في أذهان البعض حيث يعتقدون برفاهية أصحاب القلم، وما هم كذلك"باستثناء من باع نفسه، وسخرها لخدمة الطبقة المستغلة...
لقد بين القاص في هذه القصة وفي قصة "قراءة" معاناة الكتاب في الحياة، وذلك بطريقة تكشف واقعا مريرا تعيشه هذه الفئة من المجتمع وينتقد في الآن نفسه لامبالاة المسؤولين وعدم اهتمامهم بهذه الشريحة النيرة.
الغروطيسك:
ويتجلى في تعايش المكونات المتنافرة، كالقبيح والجميل، والمشوه واللطيف، والتراجيدي والكوميدي، والإنساني والحيواني. ونلمس هذا الملمح في قصة "نتوء" ص7 حيث الجمع بين القبيح والجميل، وبين الإنساني وغير الإنساني.
والرغبة في التخلص من الرأس لأنه سبب الأوجاع، والمعطل للوصول كفعل معبر عن الانمساخ نجده في قصة "حبو" ص35، فالحبو مفيد في الوصول، ولا يحتاج إلى رأس؛ فالرأس تتطلب دماغا وتفكيرا، وهي عناصر تعرقل بلوغ الأهداف، ومن الأفضل اعتماد الحبو لأنه لا يتطلب سوى بطن. وهذا يقودنا إلى استنتاج مفاده التخلي عن البعد الإنساني لصالح الحيواني؛ التخلي عن العقل لصالح البطن، لتحقيق المبتغى. إنه الانبطاح والتبعية والخنوع، تل الصفات التي تجعل الإنسان، بعد تخليه عن التفكير، من الزواحف.
الاستقباح أو التردي:
وقريب منه الاستقباح أو التردي، والمقصود بذلك توظيف اسم بحمولة دلالية إيجابية وجعله بحمولة سلبية، كما في قصة "نشاز طفولة" ص 23، فمن خلال الجملة القنطرة: "ويصادف أمه بصحبة رجل لا يعرفه.." نلمس التحول من الإيجاب إلى السلب. وهي الجملة التي تمنحنا إدراك معنى جملة الختم: "لأنه لا يتوقف عن الجري..."
فلم يعد عدوه سباقا من أجل الفوز على أقرانه، بل هو جري نحو المجهول بغاية نسيان المشهد المحزن. لقد انتقل طارق من إنسان بشوش إلى إنسان حزين بفعل صفعة المشهد المؤلم.
مجموعة "وطن وسجائر... بالتقسيط" عمل مسكون بالهم الاجتماعي، تنظر إلى ظواهره السلبية بعين الناقد الذي لا يقف عند النقد بل يسعى إلى الإصلاح والترقية ، والنهوض به إلى الأعلى. وقد وظف تقنيات عدة لرسم معالم هذا المجتمع بأسلوب ساخر منها الغروطيسك، والاستقباح والانمساخ، وكان الأسلوب بسيطا وعميقا يجذب القارئ ولا ينفره.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى