عبد الله العروي - أنواع المدركات

ينطلق ابن خلدون كما ينطلق جل كتّاب ما قبل النهضة الأوروبية الحديثة، وحتى كتّاب النهضة، من التمييز بين عوالم ثلاثة: عالم العناصر وعالم التكوين وعالم الحوادث. من أين للإنسان أن يعرف هذا الأمر أي تعدد العوالم؟ يعرف الإنسان مباشرة العالم الثالث الذي يعيش فيه ولا يعرف مباشرة أي شيء سواه. فعالم البشر هو أعقد هذه العوالم في مدرك الإنسان، حسب عبارة ابن خلدون (ص 843). لكن هناك وسيلة طبيعية نستطيع، نحن البشر، أن نستخلص منها إمكانية وجود عوالم غير عالمنا، وتلك الوسيلة هي الرؤيا التي تعني في حقيقتها "مطالعة النفس الناطقة في ذاتها الروحانية لمحة من صور الواقعات" (ص 178). النوم أمر طبيعي، حاصل لكل حي، وما يراه الإنسان النائم أيضاً أمر طبيعي، فهو المنفذ إلى عالم سوى عالم الكائنات. لذا، نستنتج طبيعياً أن: "ما جاز في النوم لا يمتنع في غيره من الأحوال" (ص 183). التجربة هي التي تدعونا إلى الاعتقاد أن الإنسان مكون من ثلاثة عناصر (الجسم والنفس والعقل)، وأن النفوس البشرية غير متكافئة.
هناك نفس العالم، ونعني به هنا من يجيل نظره في عالم الحوادث. وهناك نفس أعلى، نفس الولي الذي يستطيع أن يمكث طويلاً في ذلك العالم غير المرئي الذي لا نلمحه عادة إلا من حين إلى حين ولمدة قصيرة عن طريق الرؤيا. وذلك العالم الذي يطلع عليه الولي هو عالم التكوين. وهناك نفس من نوع ثالث أعلى من السابقة، تمتاز عليها بكونها تستطيع بفطرتها أن تنسلخ بالمرة عن الإنسانية وتمكث في العالم المحجوب عنا مكوثاً أطول وتدركه إدراكاً أتمّ. فتذهب من عالم التكوين إلى عالم العناصر. وتلك النفس هي نفس الأنبياء (ص 170). فعلوم الأنبياء، خلافاً لعلوم الأولياء وأحرى علوم العقلاء من البشر، "علوم شهادة وعيان، لا يلحقها خطأ ولا زلل، بل المطابقة فيها ذاتية". (ص 846). وهذا الانتقال من عالم المرئيات إلى عالم المحجوب والمستور هو الوحي "الذي يعني في اللغة الإسراع" (ص 159).
هذا مجرد احتمال نستخلصه من تجربة الرؤيا. متى قبلناه سلمنا بأن عالم البشر هو جزء فقط من عالم أوسع، نصطلح على تسميته بعالم الأرواح أو عالم الملائكة (844). وبما أنه غير ممتنع عقلاً فلنسمع في شأنه لما يقوله لنا عنه بعض الأولياء، مع شيء من التحفظ لأن ما يخبرون به يمس في الغالب الجزئيات والخاصيات، مما قد يصعب تأويله وربطه بقواعده. ولنسمع فيه بالأصل وبدون تحفظ لما يخبرنا به عنه الأنبياء المرسلون، إذ لا وسيلة لنا غيرهم لمعرفة ما هو خارج مدركاتنا.
بناءاً على هذا نستطيع أن نميز المدارك إلى أنواع ثلاثة: الحسية والعقلية واللدنية. المدارك هنا هي المسالك، طرق العلم، لا المضامين والمعارف. إذا نظرنا إلى هذه الأخيرة ميزنا بين علوم نقلية وأخرى عقلية وثالثة لدنية. العلوم النقلية حسية من جهة المسلك، إذ نتلقاها عن طريق السمع، ولدنية من جهة الأصل والمضمون، بما أنها تأتينا عن طريق الوحي. هذا التداخل بين النظر إلى العلوم من جهة المسلك ومن جهة المضمون هو ما أدّى بابن خلدون في موضع آخر إلى الكلام على أربعة أحوال أو أطوار: الطور الجسماني أولاً، ثم عالم النوم ثانياً، ثم حالة النبوة ثالثاً، ثم حالة الموت رابعاً، أو بعبارة أخرى: حالة اليقظة والوعي، ثم حالة النوم، ثم حالة الوحي، ثم حالة المعاد. ويقول إن الطورين الأولين، أي اليقظة والنوم، شاهدهما وجداني، وحالة النبوة شاهدهما المعجزة، وحالة المعاد، أي ما بعد الموت، شاهدها الوحي والتنزيل (ص 856).
لكل علم أو نوع من العلوم مسلك ومادة وحامل. الأنبياء هم الذين يعلمون، ويخبرون عن، أحوال المعاد، عما ينتظرنا بعد انفصال الروح عن الجسد وانقطاع علاقتنا بعالمنا عن طريق الحواس. ويعلمون ما يخبرون به عن طريق الوحي. مسلكهم للعلم خاص بهم لأن نفسهم مفطورة لتصير "في لمحة ملكاً بالفعل" (ص 170) وتعلم بالوحي "الكائنات المغيبة عن البشر التي لا سبيل إلى معرفتها إلا من الله بوساطتهم" (ص 159).
يأتي بعد الأنبياء الأولياء، وعلوم هؤلاء دون علوم أولئك. يوسعون نطاق الإدراك البشري بالتجريد المتواصل، بكونهم يموتون قبل موتهم، فيتصلون بعالم غير المرئي. طريقهم إلى العلم الخاص بهم هو صدق التوجه وحرص الإقبال والانسلاخ عن حالة البشر. ما يميزهم عن الأنبياء أنهم يصلون بالصناعة إلى ما يصل إليه الأنبياء بالفطرة (ص 171). إلا أن توجهم يفتح لهم آفاقاً لا حدّ لها، فيدلوننا على أن غير المدرك أوسع بكثير من المدرك لدينا. وكما أن الرؤيا شأن طبيعي فوجود الأولياء بيننا طبيعي، بل مغزى اجتهادهم هو الدليل على أن سبيلهم مفتوح لكل إنسان إذا صدق عزمه وحسنت نيته.
ونصل أخيراً إلى مستوى العلماء بالمعنى العادي، أصحاب العلوم التصورية التصديقية، وكلها "خيالي منحصر نطاقه" (ص 170). مسلكهم إلى العلم هو الخيال "القوة التي تمثل الشيء المحسوس في النفس كما هو مجرد عن المواد الخارجة فقط" (ص169)، المقابل لمسلكي الكشف الخاص بالأولياء والوحي الخاص بالأنبياء. العلماء هم الحاملون للعلوم، وبالضبط العلوم البشرية، المخالفة لعلوم الملائكة حيث يتحد العقل والعاقل والمعقول (ص 844). العلوم البشرية هي المتعلقة بعالم البشر، عالم الحوادث والوقائع، والمكتسبة من مسلك بشري.

----------------------------------------------------------
المصدر : مفهوم العقل


عبد الله العروي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى