أبوبكر صائغ - الهشّْ : عملٌ روائيٌ فوق العادة الأحزانُ وشاح ,, والذاكرة تختزنُ المشهدْ

الهشّْ : حيرةٌ في تفسير العنوانْ!! فما هو المقصودْ ؟!.
في البداية هل المعني المقصود هو "الهشّْ" الذى يعني في تراث ولغة "التغريْ" الجوع الشديد أو المجاعة المتكررة ، أم الهشاشة بمفهومها المتعارف عليه في قاموس اللغة العربية ؟!! ونجدُ المعنى المقصود في تجاويف صفحات الكتاب ,, وللقارئ وجهته وضالته يفسر كيفما شاء ؟!! والغاية والقاسم المشترك هو إمتاع القارئ بعمل روائي متفرِّد في كلِّ شيء : الطرح – التساؤلات – العمق – الصمت - الحزن ,, والشجاعة في تسمية الأسماء بأسمائها ,, فلاخوف ولا وجل ، وهذه رسالة أى كاتب ملتزم بقضايا أمته لأنَّ الكاتب يمثل ضمير أمته ,, ولذلك تُعتبر رواية "الهشّْ" رواية توثق لمرحلة هامة مِنْ مراحلِ الدولةِ الإرتريَّة .
في البداية التحية موصولة للأستاذ / إبراهيم إدريس ولدار " أدالْ" التي أتمنى أن تكون إسماً على مسمى ، لأنَّ " أدالْ" / الجبل في قاموس ثورتنا ووجدان شعبنا يعني الرفض والثورة وشحذ الهمم والتضحية ,, والرصاصة التى إنطلقت من "أدالْ" وصل صداها إلى" أسمرا " بعد ثلاثين عاماً من التضحية والثورة والنضالْ .
كما أتمني أن تكون الدار نافذة يطلُّ منها كل مبدعي إرتريا في الداخل نحو العالمية ، وجيل الثمانينيات والتسعينيات والألفية الجديدة للوصول بالأدب الإرتري والذى يختزن الثقافة الإرترية والتراث المحلي إلى العالميَة.
العمل الروائي الإرترى بشكله الحالى رائده دون منازع هو المناضل الكبير الراحل المقيم / محمد سعيد ناود عبر رواية " رحلة الشتاء - صالح " ,, ثم توالت إصدراته حتى وصل ما طُبع منها الى أكثر من عشرة كتب توزعت بين الأدب والسياسة والتاريخ وغيرها ، وهو إنجازٌ يُحسب لرجل كان مثالاً في النزاهة في الثورة وكاتباً يؤرخ لشعبه وثورته .
أما العمل الروائي الإرترى بشكله وإنجازاته الحالية رائده هو الكاتب والشاعر والإعلامي / أحمد عمر شيخ الذي ظل يقدم للمكتبة الإرتريَّة والعربيَّة أعمالاً شعرية وروايات رغم كلّ ما تعرض له بعد قدومه إلى الوطن من المملكة العربيَّة السعوديَّة ,, حيث تخرَّج بدرجة البكالوريوس مِنْ "جامعة الملك عبدالعزيز- كلية الإقتصاد والإدارة " في " جدَّه " بالسعوديَّة .
وقد حقق أحمد عمر شيخ منذ قدومه لبلده إنجازاتٍ كثيرة ونال جائزة " رايموكْ" وهي أرفع جائزة إرتريَّة تُمنح للمبدعين وذلك أكثر من مرة ,, رغم كلّ العدائيات غير المبررة التى واجهها ,, حيث " صبر وثابر" حتى تجاوز تداعياتها ,, وهاهو يقدم لنا عملاً روائياً كبيراً في مضمونه لأنَّ الكتابة مسؤولية لا يتحمَّل تبعاتها إلا مبدع كبير يؤمن برسالته ,, وقديماً قيل " الشعراء هم رُسُل الأمة وضميرها الحي " وهذا ينطبق على شاعرنا وكاتبنا المبدع / أحمد عمر شيخْ .
جيل الثمانينيات والإستقلال خلَّدوا أنفسهم بأعمال كبيرة إستحقت أن تحجز لنفسها مكانة في المحيط الاقليمي والعالمي في مجال القصَّة القصيرة والرِّواية والشِّعرْ .
فأحمد عمر شيخ رائدهم في هذا المجال ,, وإن كانت هنالك أعمالاً أخرى ذات قيمة حقيقية ,, ففي الرِّواية نجد الأستاذ / أبوبكر حامد كهال ’’ والأستاذ / محمد إسماعيل " هنقلا " الذى قرأت له عملاً بعنوان " حوارية الزمن الردئ " وتلك الرواية تستحق القراءة لأنها تؤرخ لمرحلة مهمة أيضاً من تاريخ الشَّعب الإرتري ، كما بُهرت برِّواية " شاهد قبر" للكاتب الإرتري/ محمد مسوكر ، بالرغم من أنَّ أحداث تلك الرِّواية تدور فى "السُّودان" الشقيق وتحمل هموماً مشتركة ، وهذه الرواية قرأتها في "أسمرا" وقدمتها لعدد من الزملاء منهم الشاعر والروائي / أحمد عمر شيخ ,, ولمْ أخفِ تفاعلي مع تلك الرواية وكتبتُ عنها مقالاً مطولاً لم يُنشر بعد ,, وما زلت احتفظ به وأتمني أنْ يرى النور قريباً لأنَّ مؤلف رواية " شاهد قبر" / محمد مسوكر كاتب مبدع ويستحق أن يُكتب عنه ,, فهو من جلدتنا .
أيضاً قرأت بإعجاب ومتعة لاتوصف أعمال الرِّوائي الشاب / حجي جابر ,, وقرأت واستمتعتُ بالحوارات التى أجريت معه ، كما قرأت المجموعة القصصية التى صدرت للأستاذة الشابة / حنان محمد صالح بعنوان " المرأة ... إنسانة من الدرجة الثانية " وقدمتها لي كهدية في الأمسية الشعريَّة التى أقيمت بقاعة " الجنيور " بـ"أسمرا" تكريماً لها ولزميلتها الشاعرة الشابة / خديجة شاكرْ .
تتواصل متابعاتي لكلّ الأعمال الشعرية والقصصيَة والرِّوائية التي تصدر هنا وهناك لمبدعين إرتريين في كافة المجالات سواء كانت في الجانب التاريخي ذو البعد السياسي أو الجانب الأدبي وحتى كتب المذكرات الشخصية .
حين تقرأ قصائد الأخ والصديق الشاعر / محمد إسماعيل " أنقا " والأخ والصديق / أحمد شريف الشاعر والانسان والفنان صاحب الصوت الشجي شعراً وغناءاً ، وكل من الأستاذين الشاعرين / عبدالله كرام ومحمد الحاج موسى .. الخ من القائمة من المبدعين تشعر بأنَّ هنالك مستقبل واعد للأدب الإرتري المكتوب باللغة العربية ,, وهؤلاء المبدعون لايكفي أن نقرأ لهم ونكتب عنهم بل يجب أن ندعمهم ونشترى كتبهم حتى نساندهم بأقل ما نملك ، كما أتمني من المقتدرين مالياً أن يقدموا دعماً مادياً للشباب ليتمكنوا من طباعة أعمالهم والتى هي رصيد لثقافتنا المكتوبة والشفاهية .
حين قرأت رواية "الهشّْ" أكثرمنْ مرة تفاعلت في دواخلى أشياء كثيرة يأتي في مقدمتها الوطن وكيفية حمايته وصيانة ممتلكاته وفوراً تذكرت المقال الذى كتبته في صحيفة إرتريا الحديثة وتطرقتُ فيه الى الفساد ونتائجه المدمرة على الوطن والمواطن ، فمحاربة الفساد هو أهم المواضيع التى تتطرق لها الرواية ’’ وسوف أتطرق للرواية وفقاً لقراءتي لتفاصيلها الدقيقة وعبر عناوين جانبية في محاولة لتسليط الضوء على الرواية برؤية أخرى .
الأحزان والمآسي والأوجاع والفجيعة وشاح سواد يلفُّ جزءاً هاماً مِنْ تفاصيل الرواية وسوف أتطرق لأهم الأوجه عبر ذكر بعض المشاهد من الرواية .
الحزن لدى عائلة "حجى صالحْ" :
• - " حجي صالح محمود بريراي" الذى انحني ظهره على حدبة عركتها الحياة القاسية ووسمتها خطوب الثورة الإرترية بتعرجاتها الموغلة في المرارة .
وفاة إبنه " عبدالنور " / الإبن الثالث لـ "حجى صالح " إثر مرض سلّ رئوى أنهك الشاب ليرحل في مقتبل العمر تاركاً ألماً جديداً ينخر صدر العائلة المكلومة .
أسرة " حجى صالح " ثلاثة ذكور رحل إثنان منهم الى رحاب الخالق ، ردَّدَ الكهل وعواصف الذكرى دواليب من الشجن تعصف بروحه المنهكة ، و" رايتْ " إبنته الوحيدة .
الحياة التي يغمرها الحزن وسمت حياة بطل الرِّواية " صابر" بالحزن والأسى وهكذا يعبِّر عنها الراوي :
• - الحزن لدى " صابر " :
( إشتعلت غاباتُ حزنٍ عميقة الاخضرار على صفحة وجه " صابر " وهو ينضحُ بالأسي واللوعة .
- " صابر ".
- نعم " ساره "
- ما بكْ ؟؟!!.
- لا أدرى منذ عدت من " قلوج " والكآبة " تكبسُ " على أنفاسي .
- لا تهتم حبيبي هذا حال الدنيا .
- صحيح ... ولكن يأبي الضيق مفارقتي ... إلى آخر الحوار .
- في صورة أخرى نجد في الرواية عبارات ترمز الى حزن دفين في الصدور حيث يقول " صابر ":
- لم يشأ " صابر " أن يقلق زوجه " ساره " وقد ضجت دواخله بأشباح اليأس وأصابه إهتزار صارخْ.
(هل نفذ صبرى ؟!).
ردَّدت أعماقه ... مرتدياً " جاكته" الجلدى الأسود واقفاً تحت إفريز محل في قلب العاصمة.
- نجد أيضاً في الصفحة 18 صورة أخرى للحزن لدى " صابر " .
قال " صابر " مبتسماً متأملاً قسمات إبنه ووخز طفيف يدب الى رئتيه المنخورتين من بقع الـ " نيكوتين " والهموم ".
( إنها السيجارة !!) .
وسوس" صابر " والقلق ينهش دواخله وخلجاته .
- أيضاً في الصفحة 38 صورة للحزن تتمثل في المشهد التاليْ :
- العشاء ؟!.
قالت : "ساره " و"صابر " ينفث دخان سيجارته في فضاء الغرفة الغارق في السواد ...!!.
بدت الأيام ثقيلة على قلبه المفطور بثقل الموت وجبروته وقبضته المدمرة ,, إنشطر قلبه مزقاً و " ساره " تحتضن وليدها يعتمران رداءاً أبيضاً كبياض دمعه الغزير وروحه وهي تغرق في عذاب وانهيارْ .
هكذا بدت الحياة بالنسبة لـ " صابر" روتينياً وحزناً قاتلاً وأملاً لاينفصم بلقاء " ساره " و " يوسف " واللحاق بهما في الملكوت الأعلى .
• - الحزن لدى " حليمه محمد حامد عنجه " زوجة " حجى صالح بريراي " :
قالت : لم يهنأ " عبدالنور " بشبابه !!.
( نشجتْ دواخل "حليمه " حاملة إناء "العصيده" وقدح الماء ’’ وحسرة تفترس قلبها المنهك منذ زمن فقد إبنها البكر " محمود " الذى استشهد في معركة ضد عدو نقص حياة هذا الشعب على مدى عقود مديدة ).
- " ما قدر الله شاء ,, فعل " !!.
هو المعني الذى احتفظت به أغوارها المكلومة بفقد أخيها قبل إبنها .
• - الرواية لم تتجاهل حياة الإنسان الإرترى في الريف وخاصة في "بركَه" حيث إندلعت شرارة الكفاح المسلح وكان الرمز " حجي صالح محمود بريراي ".
• إنهمر الرصاص غزيرأ يلف فضاء " بركَه " و " صالح محود بريراي " يتمنطق سرواله القصير مصوباً بندقيته " أبوعشرة " في كرّ وفرّ يقوم به الثوار لمهاجمة العدو في معسكراته على حين غرة .
أضحت اللحظات تشقُّ فلول الفجر كصفحة نائمة أيقظتها حروف الرصاص الداويْ.
" عجولاي محمد حامد " كان رفيقه وأخو " حليمه " يرقد على ضفاف بركة شهيداً’’ كان " عجولاي " وصوت الرصاص ممزقاً أحشاءه هو المشهد الأخير الذى لمْ ولنْ يغيب عن خاطر " صالح محمود بريراي" .

هموم وشجون / آراء ومواقفْ :
يتطرق الراوي عبر تنقله بإسلوبه السلس من مشهد إلى مشهد ومن حزن الى وصف بديع للطبيعة والطقس والبيوت وهموم حياة الناس البسطاء الذين لم تلههم إغراءات الاستعمار ولم تتعبهم أو توهنهم سنوات النضال للتراجع عن الثورة ناهيك عن التحول ضدَّها لإخماد جذوتها.
نجد ذلك جلياً في مشاهد كثيرة في الرواية وأذكر أهمها :
- فتح " صابر " محفظته الخاوية إلا من بعض قصاصات وبطاقات الهوية والتسريح من الجيش والعمل ، تأمل الهوية وعينيه في الصورة وهما تنضحان بالبراءة .
فتش ولم يجد سوى ورقة نقدية من فئة المئة " نقفة " وهي كل ما تبقي من راتبه الشهري ، ضحك وإعتملت في نفسه نوازع شتي / " كيف مرَّت السنوات والنقود شحيحة ؟!" .
كبر" يوسف" ومضت الأمور وكأن هناك عجلة وترساً ينبغى أن يدور بأية كيفية !! وآثار المعارك المدمرة تلقي بظلالها القاتمة كابوساً يطوق كل شيء.
" كل شيء !! كل شيء للوطنْ ".
تأمل عزيزى القارئ كل مفردة من هذه المفردات التى إنتقاها المؤلف بعناية فائقة حتى يوصل رسالته ، ولايستوعب المضامين وراء هذه الكلمات إلا من عاش تلك الحقبة الزمنية في "إرتريا " وإرتحل من شرقها الى غربها ومن شمالها الى جنوبها لطرد الكوابيس والشياطين وعلى قول المثل " من استحضر الشياطين وحده القادر على طردها ".
- الحبُّ وكلماته المنمقة نجده حاضراً في تلابيب رواية "الهشّْ" وعبر صور ومشاهد وحوارات كثيرة أيضاً ولغاية في نفس يعقوب ولكني اعتقد أنَّ المؤلف كتب تلك المشاهد الغرامية عسى ولعل يخفف على القارئ وجوم الحالة التى قد تعتريه من النقد اللاذع لبعض أوجه الحياة ورتابتها وقسوتها وحزنها السرمديْ .
فقصة " صابر " وساره " هي خير شاهد على ما أقول ، ليسرد لنا المؤلف تلك الحالة كما يلي " تراءتْ له رقرقرات الحب الأولى فبدأ منتشياً على غير عادته في الفترات الأخيرة ، والتى أنهكه فيها التفكير في قسوة المعيشة وشظف الحال ومتطلبات أسرته الصغيرة وراتبه وراتب "ساره" من عملها والذى يكاد بالكاد يكفيهما" .
- من البكاء إلى الحزن على الوطن إلى البكاء على الحبيب والاكتواء بنيران لهيب الشوق هو الحب الذي يحرق الجسد في كلا الحالتين كما في قصة " عبدالصمد" و"نور عبدالله" .
هو الحزن إذن سيد الموقف ، إنزوى" عبدالصمد " ليلته تلك في بقعة جرداء من ذلك الخلاء مفترشاً صخرة نائية : ( واضعاً يده بين كفيه . بكي بكاءاً رجعت صداه الجبال المحيطة بالمدينة ..... ) . ( لو عرفت " نور " لربما غيرت رأيها في الذهاب الى "أسمرا" طالما أن في " تسني " قلباً يعشقها بمثل هذا الوله ).
تنساب الكلمات التى تعبِّر عن مدى عشق "عبدالصمد " لـ " نور عبدالله " لتزيد من حرارة الأشواق بينهما خاصة أنَّ " نورعبدالله " ومن خلال نظراتها عبَّرت أكثر من مرة بأنها تميل إليه عشقاً دفيناً قد لا تبوح به علناً لأنها بنت جيلها كغيرها من الفتيات التى تحدُّ العادات والتقاليد وتلجمُ لسانهن حتى لا يُقال عنهن كذا وكذا ، بعد أن جفت دموع " عبدالصمد " نقرأ الآتيْ :
" إستبدَّ به الحزن ، عزم أن يهرب من بلد هي فيه " فلربما في الهروب دواءْ " فهو لن يستطيع إحتمال أن يجول كما كان في أرجاء " تسني " ولايراها " ,, فكل شبر هنا إرتبط بها " وهو لايعرف " إرتريا " إلا حين رغب أن يأتي من "كسلا" التى لجأ إليها أبواه وأنجباه فيها إلى هذه المدينة لينخرط حينها في الخدمة الوطنية " .
- " من يدرى ربما إلتقيها يوماً ما ؟!!".
"قال : " عبدالصمد " يتأرجح بين الأسي واليأس والرجاء ".
- العولمة الإعلامية والعالم الذى أصبح منزلاً مفتوحاً من كل الجوانب على الفضاء الطلق نراه حاضراً في الرِّواية عبر تصفح ومتابعة ومشاهدة شخوص الرِّواية مثل المواقع الإخبارية الفضائية ومواقع الإنترنت التى تتناول أخبار المنطقة برمتها عموماً والشأن الإرترى على وجه الخصوصْ .
- أحداثٌ كثيرة تفرض نفسها على المشهد العام للرِّواية ولاينكرها إلا مكابر ، لأنها تؤرخ للمرحلة بكلِّ تفاصيلها الدقيقة والمؤلمة والموجعة لحدِّ حبس الأنفاس والوجع الأليم ، وهذه صورة أخرى عانى منها الأبرياء من الشعب وراح ضحيتها من ليس لهم فيها لاناقة ولاجملْ ".
" إنفجرت حافلة ركاب متجهة الى " شامبقو" عند الصباح ، توفي إثر ذلك الحادث عشرون راكباً بينهم أطفال وجرح خمسة عشر أخرين ".
دوت إعماق " صابر " بالفجيعة حيث إتجهت " ساره " لتعود خالتها بعد مرضها الشديد وهي من تبقى لها بعد موت أبويها وإصطحبت " يوسف " معها .
تمني وهو يرتجف خوفاً وترقباً أن لا تكون " ساره " وإبنها في تلك الحافلة !! .
(ولكن ...!!).
"حاول رفاقه مواساته والأيام تفعل فعلها فيه ، لم يتمالك " صابر " أعصابه وفقده الكبير فانهار ,, ماتت " ساره " وذهب " يوسف " وماتت مشاعره وكل شيء يملكه معهما " .
"هكذا أحس " صابر " أنَّ روحه سُلبت منه".
- أيضاً نجد إحدى الصور المفجعة بين طيات صفحات الرِّواية حيث مقتل " ميكئيل " الذى صال وجال في رحاب الدنيا ( هل يُعقل أن ينتحر " ميكئيل " المدجَّج بحبِّ الدنيا والحق والإنسانْ ؟!) .
أسئلة كثيرة تُطرح ولا إجابة عليها !!.
هكذا كانت الأحلام " !! " سنجعل هذا البلد مفخرة القرن الإفريقي ، بل إفريقيا كلها ".
صوت " ميكئيل " كان يجلجل بضحكته في أرجاء الحانة الجنوبية التى قضيا فيها آمال المستقبل وعربدات الأمل وفتونه ، لتعلن عزمها أنْ تأتي وتعيش معه في " أسمرا " تاركة خلفها " أمريكا " وكل فقاعات النيون وجدائل الضوء وبريق الإسمنت .. وأن تنقل فنها لبلدها ، وعدها بأنه سيعلمها ألـ " التغرنَّة " بشكل أفضل لتغني بها له ولأهلها ولوطنها .
وعدها ورحل قبل أنْ تكتمل خطوط فجرها معه والوعود ، غارساً في وجدانها شظايا تدميها ، وروعة أيام لن تقوى على نسيانها .
" أشجار " العركوكباي " تطلُّ عبر قرون من الممالك والأمم وهي تجسِّد ملاحم حروب الوهم والصراعات والهيمنة وبحار الدم في منطقة القرن الإفريقي ، لتضيء الشواهد جيلاً إثر جيل وعبرمختلف العهود والحقبْ" .
هكذا عبَّر الراوى والشواهد كثيرة : القبور والقرى المحروقة والآبار التى جفَّت مياهها والصخور التى إحترقت بنيران القذائف من مختلف الأنواع والمقاسات والاحجام ، الأرض التى احترقت أصبحت غير صالحة للزراعة والرعى ، الحيوانات هاجرت كما يهاجر البشر وانقرضت ، الحياة البيئية تلوثت ، هذا كان الثمن وكل شيء في بلادى يشهد على الجرائم التى إرتكبتها القوات الغازية في كافة الأرجاءْ .
تختلف هموم وشجون جيل الحرية عن الأجيال التى عاصرت الثورة وكانت وقودها ونورها والمحرك الرئيسي لها ، الثورة تضحيات ونكران للذات والانشغال بالهمِّ العام والترفع عن الهموم الشخصية ، وحتماً عهد الثورة يختلف عن عهد الدولة ، فلكلّ جيل قناعاته ورؤيته وإحتياجاته وهمومه وأولوياته .
وضعت هذه الكلمات التى تمثل صوراً لمشاهد في ذاكرتي وأنا أقرأ الحوارات التى جرت بين " نور عبدالله" و" صابر "/ و"نقستي "/ و" ميكئيل" / و "عبدالصمد " /و" عامر " ورحيله من البلدْ .
"سألت " نور عبدالله " " عامر " قائلة :".
- هل هناك شيء يستحق أن نضحِّي بعمرنا من أجله ؟!.
رفع " عامر " عقيرته وقد بدأ الإجهاد عليه : كلُّ الدروب تفضي إلى قلق ودمار في هذا البلد ,, قال هذا وهو يرتشف شايه الصباحي : الحقد يحكم علاقات الإرتريين وهم يشوهون بعضهم البعض ؟!!. ردَّت " نور عبدالله " ألا يستحق هذا الشعب أن نضحي في سبيله؟!.
قال " عامر ": " وهل هذا الشعب يملك إرادته ؟! أو يعرف ما قيمة التضحيات ؟!".
"كما قلتُ لك هم مهمومون بالإساءة إلى بعضهم البعض وبالذات من يدعون النخب !!".
"عبثٌ وتفاهات !! ألا تتابعين ما يُكتب في" الفيس بوكْ " ، ومواقع الإنترنت " هي مرحلة وستمرّ ، فقد خضنا حرباً عنيفة راح فيها الالاف من الشهداء على مدى أجيالْ" .
قالت " نور عبدالله " ورد " عامر" : " لاتقولى شهداء !! قولي ضحايا !!".
لفظ عبارته مضيفاً : "دعينا من وجع الرأس ’’ وحدثيني كيف كانت المحاضرة اليومْ ؟!" .
انتهى في تقديري أهم مقطع من الحوارْ .
قد تكون هذه الحوارات التى جرت بين " نور عبدالله " و "عامر " فيها الصالح والطالح والتشدُّد والتسامح ، لانها تجسِّد هموم الشباب ,, ونحن لسنا بصدد تحديد إتجاهات بوصلة إعتقاداتهم وطرق تفكيرهم وهم أبناء جيلهم وعصرهم ، ولكن هنالك كلمة وردت في الحوار تستحق الردّ لأننا ننتمي لأمة نالت إستقلالها عبر تضحيات جسام كان مهرها الشهادة ، وشهداؤنا هم فلذات أكبادنا نفتخر بهم ونقتفى أثرهم وهم مشاعل تنير لنا الطريق ، وإلتزامنا الأخلاقي والأدبي والوطنى يحتم علينا بأن نقلدهم وسام الشهادة ونحتفي بهم وهذا أضعف الإيمان ,, وهم شهداء في ضميرنا وعقيدتنا وثقافتنا وعاداتنا وتقاليدنا وليسوا ضحايا ... وكفى !! .
• - الروابط الوطنية أو الثنائية في تفاصيل الرواية :
منذ البداية لايغيب المشهد الوطنى عن تفاصيل رواية " الهشّْ " ,, فالوطن هو الوطن بكل تقسيماته العرقية والدينية واللغوية ووشائج الصداقة والمصير المشترك / " صابر و"ساره" / " صابر" والطفل" أمانئيل "/ و " ميكئيل " ورفاقه " / نورعبدالله" و " نقستي " و "عامر " / و"روت "/ " ثريا " و " ألمْ " و "عبدالقادرْ " .

• - الفسادُ ومحاربته والقضاء عليه لبّ الرِّواية :
هكذا يبدأ الراوي الدخول إلى موضوع الفساد : " يجب أنْ تعجِّل الدولة بضرب الفاسدين مهما كان حجمهم " !!.
" قال : ميكيئل " الذى مات منتحراً كما قيل في حادثة غامضة والتى لم يستطع " صابر " إستيعاب حدوثها بأي حال من الأحوالْ !!".
أصابه التشويش وهو يرشف فنجان " الماكياتو " وصورة " ميكئيل تولدى مدهنْ " تخترق خواطره .
( أهكذا تنسابُ رواياتُ الحياة في كآبة وعبث وخيانة ؟! ).
( أشعل في جسده النارْ ؟ !! )
(هكذا قالوا !! ).
كرَّر " ميكئيل " دوماً :
( يجب أن يكون التغيير جذرياً والإصلاح يأتي بالعمل الدؤوب و"النقد والنقد الذاتي " إنه ميراث " الجبهة الشعبية " ).
( يجب ضرب الخونة والفاسدين ’’ فهذه البلاد جاءت عبر قوافل الشهداء ومنذ حرب التحرير إلى حرب السيادة الأخيرة !!) .
قال " ميكئيل " يلجٌ إلى موته الحائرْ .
( الحقُّ يؤخذ بالقوة ...) قال : " ميكئيل " يحتسي كأسه الحسيرة :
- سنتصر عليهم ؟! .
قالَ وأكَد وناضل في ظروف صعبة وحالكة .
" إستغلوا ثقة الناس لينهبوا وطناً مثخناً بالجراح ".
قال " مكئيل ".
وهي لاتدرى عمن يتحدث !!!.
( فقط آمنتْ به وبكل ما يقول ويفعل .!!.).
- سنحاربهم !! ومن هنا !!.
( هو " ميكئيل " الذى قيل عنه أحرق نفسه ؟! ) .
صدحتْ مسامُ " روتْ " :
( لايمكن أن يموت " ميكئيل " منتحراً !!! لايمكن لليأس أن ينخر في روحه !! . بكت بكاءاً حارقاً كحرقة أوقاتها بعد رحيله ، لم يكن كذلك آخر لحظة إلتقته فيها وسافرت بعدها الى " واشنطن ") .
" بدت لها " أسمرا " مكللة بثوب الحزن والفقد والفجيعة " وخاصة بعد أن علمت بموت " ساره " و" يوسف " ومقتل " ميكئيل " وتساء لتْ : كيف سيكون حال " صابر" ؟ !!" .
وعادت إلى الوطن لتواسي نفسها و"صابر" وكل الذين تعرفت عليهم في " أسمرا " .
وقبل الختامْ
أوقفتني عباراتٌ وردت في المقال الذى كتبه الزميل والصديق / صلاح سنيوس بعنوان " بضعُ كلماتٍ في حقِّ المؤلفْ " ’’ " صلاح" الذى أكنُّ له كل الودّ والحبّ ومنذ أنّْ عرفته هو صاحب قلم بارع " سَنينْ وحادْ " يقطع في الحالين كما يُقالْ !! ,, لايهاب في الحق لومة لائمْ !!.
إنَّ الكتابة من "أسمرا" لها وقعها الخاص ونكهتها المميَّزة ، وبأنَّ الخلاف لم يكن خلافاً شخصياً بل في هموم عامة ورؤى وأفكار واختلاف مواقف ، ولذلك كتب وبكلّ شجاعة كلماتٍ " في حقِّ المؤلف / أحمد عمر شيخ " يستحقها ,, وهكذا هي معادن الرجال صفاءاً وقوة وشجاعة ووفاءْ .
وهنا أستعير هذ المقطع من الرِّواية لكي أختم به مقاليْ :
" أدركتْ أنَّها ربما لن تكون بقوة هؤلاء البشر المتماسكين على الرغم من قسوة النكساتِ والصدماتِ التى تلحقُ بهم ,, والتى كرَّستها أجواءُ حروبٍ وصراعاتٍ مدمرةٍ على مدى أجيالْ " .
وأقول فعلاً يظلُّ الشعبُ الإرتري صامداً يكافح مِنْ أجلِ أنْ يهيء لنفسه وللأجيال القادمة حياة كريمة وإعتزازاً بالنفس ’’ وهي رسالة الأجيالْ.

أسمرا – إرتريا

أبوبكر صائغ

* كاتب وصحفي ثقافي مهتم بالتأريخ ورئيس تحرير مجلة " الشبابْ".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى