محمد ابراهيم الصومالي - عالم الكتابة

الكاتب هو الذي يرى بعين قلبه ما لا يراه العالم.
لا بل هو من يرى بعقله مالا يدركه العالم.
وبما أنه يمتلك رؤية العقل والقلب ، ويعي أن دوره هو تسليط الضوء على ظلمات النفوس ، و يسعى جاهداً لبث نور المعرفة فيها ، فيحرك عقلها، ويضرم نار العطش في قلوبها.
الكتابة سر ؛ ولا بد أنها سر الكاتب، ولكل كاتب بصمته في رسم الكلمات ينتزعها من جمودها، يبث فيها بذور عقله وروحه ويمنحها الحياة.
فالكتابة ليست تنسيق الكلمات وتجميل العبارات، هي أولآ إحياء العقول من موتها، وانعاش النفوس، وانتزاعها من الظلام.
الكتابة أشبه بزاهد ، اختار أن يتنسك في معبد الكلمة، يستمد منها نور الحكمة، نقاوة الروح.
بين الكاتب والكلمة اتحاد عميق، فهي انعكاس لفكرة ومشاعره وآلامه.
هي شخصه المتنقل بين الصفحات وفي قلوب الناس.
وهي أحلام يقظته، يلامسها حقيقة ويحاول اقتحام واقع مرير بها.
ليس كل من رتب كلمات واتقن تجميلها كاتبآ ، وليس كل من تهيأ له أنه بإمكانه أن يملأ صفحات بكلام هش وسطحي ؛ يمتلك الحق بالتعريف عن نفسه بصفة كاتب.
الكاتب الحقيقي يبقى تلميذآ في الكتابة حتى تتغلغل كلماته في النفوس، ويزرع جزءآ من شخصه في كل قارئ.
وهو تلميذ ، لأنه يرتجف دوماً أمام ورقته البيضاء ، كلما هبت عاصفة الفكر، فيطبع عليها الكلمات منتظراً بمسؤولية نقد القارئ، ايجابيآ كان أم سلبيآ.
لايخط الكاتب سطوره ويرحل، بل يبقى قلقاً في كل مرة يعرض فيها فكره ، أو مشاعره، منتظراً حكم القارئ. فهو الحكم الاصدق، مهما كانت درجة ثقافته ، لأنه إن لم يدرك بعقله هواجس الكاتب، فسيحسها بروحه.
ولا بد أن القارئ يميز بين كاتب وآخر ، ويفرق بين ينبوع وآخر ، فإما أن يعود ويشرب من ينبوع عذب ، وإما أن يبحث عن آخر.
لا يدل هذا القلق على عدم ثقة بالنفس ، وإنما هو ثقل المسؤولية واحترام القارئ ، وإلتزام بقدسية الكلمة ، وتوقير لنور الحكمة. فهل يعني هذا أن الكاتب لا يجد لذة شخصية في مايكتب فقط، أم أنه يكتب فقط ليتمتع بإعجاب القارئ...؟
يكتب الكاتب أولآ لنفسه ، فالكتابة تمنحه قدرة على التعبير عن نفسه ، والتفريج عما يخلج من قلبه من آلام وأفراح.
كما أنها تجسد خياله واقعاً ، وتخفف من وطأة واقعه.
تمنحه الكتابة لذة عميقة، إذ يسافر من خلالها إلى عالم يراه وحده في داخله ، يسكن فيه ويتعايش معه. وهي السلاح الوحيد المقاوم لحروب الذات ، كي لا يختنق في همومها ، ويخترق بنارها الموجعة.
ولكن إن وقف الكاتب عند حافة اللذة الشخصية ، سيندثر مع الوقت ويفرغ من داخله.
فمهما كان ممتلكآ من مهارة وقدرة على التعبير عن هواجسه ، فهو بحاجة دائمآ إلى عين ناقدة ، تصوب له نسج الحروف والمعاني ، وتبدي ملاحظاتها فتبني شخصيته وتظهر فيها الأفضل. كما أنه بحاجة إلى من يستفز ملكاته الكتابية، ليمنح العالم أفضل ما عنده.
يتطور الكاتب من خلال العيون الناقدة والمحركة لوجدانه، ولا ينمو بقدراته الشخصية فقط ، وإلا كتب لنفسه فقط وتوقف هنا.
إن الكاتب الذي لا يرضى بالنقد ولا يتقبله برحابة صدر أشبه بإنسان يشرب من مياه راكدة ويوهم نفسه أنها ماء عذب.
الناقد هو الحاجة الملحة للكاتب ، وإن اتي نقده لاذعآ ، قارصآ ولا ينتظر المجاملة والمسايرة، فهما وإن دغدغتها مشاعر الكاتب ، فلا تستهلك في تحفيزه ليكتب بشكل أفضل.
وأما الأفضل، فهو أن يقف العالم أمام ما يترجمه الكاتب من فكر ومشاعر ، ويتحير ، يندهش ويضطرب.
وليس الأفضل ترويج كلام استهلاكي ، ينحدر بالقارئ إلى مستوى الجهل.
نكتب لنحير العالم وندهشه، لنتكلم بلسانه ونخاطب عقله ، ونرفعه من الجهل إلى نور المعرفة. ولا يجوز الخوف من كاتبة قناعاتنا أيا كانت ، فلا يمكننا الكتابة لإرضاء الجميع ، ولا نكتب لإرضاء أحد.
نكتب ليسمع العالم صوته فينا ، ويرى بعيوننا ، ويتحرر بكلماتنا ، فنلمس جراحه ونداويها. ولا يستخفن أحد بمرهم الكلمة ، فإن حلت في موضعها ، دملت جراحآ عميقة ، وايقظت احلامآ كبيرة والهمت نفوسا كثيرة لتحررها.
ولا نكتب لنرضي الأذواق ، فتنعم علينا بإطرائها ومجاملاتها ، وتنتفض وتطلق العنان لأفكارها الراقدة.
نحن لا نعرض كلاما منمقآ للبيع في معارض للحروف المزركشة والمنمقة ، بل نستفز ملكات القارئ الفكرية والروحية ، ونحرك كيانه ليناقشنا وينتقدنا ويخالفنا ويوافقنا. فإن وافقنا دفعنا للاستمرارية، وإن خالفنا ساهم في ازدياد ما نقص منا.
الكتاب أشبه بالوحي ، إن لم يلسع النفوس بصدقه ، انتفت عنه صفة الحكمة ، وأن لم يحول العقول بنوره فقد قيمته الرسولية.
دمتم بكل الحب.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى