د. محمود المهدى - الأدب الرقمي: البذور العربية، والأصول الغربية!

يعدُّ القرآنَ الكريمُ أقدمَ نصٍ متكاملٍ بالعربية، ومن قبله بقرنين خطرتْ نصوصٌ شعريةٌ كاملة، تهيأ لكليهما وسائلُ البيانِ الراقي، والتصويرُ البارعُ الذي يُلقي بالقارئ، أوالمتلقي في تَنُّور الحدث حيث تمور بها آيات القرآن، ويذخر بها النصُّ الشعري، فلا ينفصلان عنهما إلا كما تنفصل العين- في غير علة- عن إدراك ما حولها؛فإذا بصوت الكلمة يغني عن أصول الرؤية في مثل قول بشار- وقد انقلبَ السمعُ بصرًا-:
وكأن رجع حديثها قطع الرياض كُسِينَ زهرا
وفي إشارته إلى العلاقة الفنية الجوهرية بين الشعر والتصوير (الرسم) يقول “سيمونيدس” ( ت 465 ق. م ): "الشعر رسم ناطق، والرسم شعر صامت" يقوم على التعبير من خلال الصورة، مع اختلاف الأدوات، فظهرت فيه أشكالٌ هندسيةٌ تمكِّنُ من قراءة النص، عبر تقنيات أسلوبيةٍ بصريةٍ للبديعِ الشكلي، يتحوَّلُ بها تصوُّرُ الكلامِ من ذهني افتراضي تخيلي، يتباين فيه المتلقون حسب اتجاهاتهم وثقافتهم، إلي تصوير واقعي مادي يُعْرَفُ "بالشعر البصري المجسد " وقد ابتدع العربُ هذا اللونَ قبل الأوربيين بمئات السنين جعلهم روّاداً له، من خلال ما طرأ على شكل القصيدة في العصر الأندلسي، حيث اهتم الشعراءُ ببنية المكان النصي، واكتشفوا ما يتضمنه من قيم جمالية توازي جمالية الموسيقا الشعرية، كما ظهر الاهتمام به، حيث الرسم بالشعر/ الدلالة البصرية للنص الشعري، من خلال الخط الذي كُتِبَ به، بجانب المادة والمُدرَكات الحسية.
وفي العصرين المملوكي والعثماني حلَّ فن التوشية أو التشكيل البصري، محل السماع أو التشكيل الصوتي، كأن الأذن أخلت المجال لرؤية العين وفتنتها؛ فكم تحوَّلت مقطوعاتٌ شعريةٌ جرى بها المثلُ في الحب والوجدان الصوفي إلى لوحاتٍ بصريةًٍ لغرض الزخرفة والنقش على المنابر وجدران المساجد والقصور! فَرُسِمَتْ بشكلٍ بديع تشكيلاتٌ هندسيةٌ يزوغ لها البصرُ، لتولِّد منظرًا رائعًا للعين كما هي رائعة للفكر؛ فظهر"الشعر الهندسي" وهو نوع من الشعر يأخذ شكل الدائرة والمثلث والمربع والمخمس، وغيرها من الأشكال الهندسية؛ فإذا مثلنا بالدائرة فهي مركز، وفي هذا المركز حرف من الحروف، ومن هذا الحرف يبتدي البيت وإلى هذا الحرف ينتهي.
وعن طريق علم التجويد والتلاوة أمكن رسم صفات الحروف، بتجويد الشعر وتجسيده من خلال تشكيل المد، بإطالة الخط بالحرف الممدود وزيادته، وتشكيل التفخيم بتضخيم الخط عند كتابة جزءٍ من النص، ليصبح أضخم خطًا من بقية أجزاء النص، وتشكيل الوقف حيث تَوَقُّفُ الخطِّ عند الحرفِ المسكوتِ عليه؛ لتوجيه المتلقي إلى إحداث الوقف في الكلمة التي تشكَّلَ منها الوقف؛ فالرسم بالكلمات يعطي بعدًا للخيال والإبداعِ والمتعة لا تنقطع.
وقد أدت سُهْمةُ ثقافتنا العربية في الأبعاد التجسيمية الإيحائية من خلال ( الكلمة. الصورة) إلى ما يشبه السينما الصامتة حيث كانت مقدمةً لما هي عليه الآن، ولَم يبْقَ إلا الحركةُ حتى تُنْفَخ الروحُُ في الكلمة، وتُنْسب إلى " الأدب الرقمي" عبر الوسيط التكنولوجي، وعلى ذلك فالأدب الرقمي هو "الأدب الذي يجمع في إنتاجه وتلقيه، بين الخصائص التكنولوجية من ناحية، والخصائص الأدبية من ناحية أخرى.
وقد ظهر ( التكنو أدبي) في أمريكا في منتصف ثمانينات القرن الماضي، من خلال ما تراكم في ذاكرة المجتمع الأدبية والثقافية من نظريات أدبية ورؤى نقدية وخبرات تكنولوجية، ثم انتشر في أوربا، ولما كانت عاصفة التقدم التكنولوجي تَهُبُّ دائما من ناحية الغرب، وسرعان ما يصيب ربيعها المشرقَ؛ فقد عُرِفَ في البلاد العربية بداية من الأردن في ٢٠٠١ على يد الكاتب "محمد سناجلة" صاحب أول رواية رقمية عربية.
وهو أدب خرج من رحم التكنولوجيا،
ليجمع بين الحركة و النص، في دقةٍ ومهارةٍ بإيحاءاته التصويرية لإعادة إنتاج النص، بأن تكون ( التكنولوجيا) من بنيته، وتكون تقنية التشعيب النصي ( وضع أكثرَ من تصوُّرٍ لمُجريات الحدث الروائي كلٌّ في رابطٍ خاصٍ به) من خلال أكثر من طريقةٍ يسير فيها السرد بحيث يختلف السردُ في كل طريقةٍ عنه في الطرقِ الأخرى، و بالضغط على أحد الروابط، والتي يراها المتلقي مناسبةً له يُعاد صياغة النص، وإبداعه حسب مورد أفكاره وثقافته واتجاهاته، ومن هنا تتشعب الرؤى والصياغة حول النص، بفعل المتلقي الذي يُعَدُّ بهذا مؤلِّفا مشاركا، وذلك كله لم يبعدعن الإجازة أو المطارحة أو التشجيرفي الشعر العربي، أما الإجازة فهي أن يأتي الشاعرُ بشطرِ بيتٍ، أو بيتٍ تام فينظم شاعرٌ آخرُ في وزنه و معناه ما يكون به تمامه، وكذلك المساجلة الشعرية وهي أن ترد َّعلى شاعر بقصيدة أو بيت واحد ، شريطةَ أن تبدأ بآخر حرفٍ انتهى به الأول، أو ترد عليه بنفس قافيته من المقول أو المنقول، أما التشجير فهو تفريعُ كلمةٍ من معنى كلمةٍ أخرى، وهكذا دواليك في استطراد وتسلسل، وفي كل استجابة يختلف إنتاج النص المُجَاز أو المُطَارَح أو المُشَجَّر.
و لكن ألا يُعَدُ النص الرقمي بهذه الكيفية نصَّا هجينا ؟! فإلام ينسب ؟! أللكاتب أم للمبرمج أم للمخرج، وكلهم يضرب فيه بسهمةٍ، فإن مظَنَّةَ غلبة الفن التصويري على النص الأدبي واقعةٌ، لما له من شدة تأثيرٍ في فهم النص على غير مُراده، من خلال العواملَ المساعدة ( صوتا . موسيقا. صورة . حركة) إذ قد ترتقى بالكلمة، ويكون الحكم لها بما لم يَقُمْ بها؛ أي إن النص الرقمي يكون مُختلفًا كليا عن ( الكلمات) و الأصل أن الكلمات مناط الحكم- فندلس به على المتلقي، ليأخذ أكثر مما استوجب له، وقد تهبطُ العواملُ المساعدةُ به فتبهته وتنال من حقه، وهنا قد يحدثُ لونٌ من التعمية، وفقد الموضوعية عند الحكم على النص.
وربما كان الأدب الرقمي بهذه المؤثرات من أبناء العَلات أو الأخياف للأدب، ويطلب نسبه لَحًّا بأحد فروع الفن الرقمي؛ فهو يحتاجُ أن يكون الكاتبُ على دراية بالإخراج و البرمجة وغيرهما، أو أن يُشَارِكَه نفرٌ من أهلِ هذه الصناعةِ؛ ليصبح لونا من الفن لا نوعًا من الأدب، ولا يُفهَم أننا نُوعِزُ بالدعوةِ إلى تركه، بل نصححُ مسارَ الاتجاه الذي يسير فيه بما يتسق مع ماهو قائم بِنَا الآن؛ فالأولى أن يتمحضَ خالصًا بعرضه- حاليا- في أكاديمية الفنون؛ حيث الاحتفاء أكثر بهذه الوسائل ( الصوت . الموسيقا. الصورة . الحركة) والوقوف عندها طويلًا بمحاذاةِ النص الأدبي، وكذلك بالقاعات الرقمية، والمراكز الثقافية، والمعامل التكنولوجية بالمدارس، إلى أن يُكتَبُ له الذيوع والانتشار، من خلال تَقَبُّلِ الثقافةِ العربيةِ له، وتحسُّنِ الوضعِ الاقتصادي؛ فمن أخطر تحديات "الأدب الرقمي" الآن الفجوة الرقمية التي تفصل بيننا وبين الغرب، وعدم كفاية الشبكات الألكترونية، واعتباره رفاهيةً في ظل ما تُعانيه معظم الدول العربية من التدهور الاقتصادي، فكيف بمن لا يستطيع توفير أدنى وسائل الثقافة ( الكتاب ) أن يدبر أدبا فيه ما فيه من الكلفة ؟! وقد رأينا ما رأينا من مشكلات في تطبيق نظام ( التابلت ) بوزارة التعليم، وهي جهةٌٌ حاكمةٌ، ولها من القوةِ والمنعةِ ما تتخطى بها الصعابَ، لولا أنه فوق تحدياتها؛ ولذلك رأينا عدم تَرَسُّخِه في الذهنية العربية؛ فكانت العاقبةُ إعراضا عنه أو رفضًا له، وهل يعود علينا- نحن العربَ- الآن بعشق القراءة وحبِّ المعرفةِ، وترفيعِ الأفقِ الثقافي وتنيمةِ التفكير ؟! أم سيضيف وسيلةَ إلهاءٍ أخرى إلى ما تمكن من أجيالنا، أم إنه وسيلةٌ من وسائل العولمة، ومحو الهوية وفرض ما يعرف بالهوية العالمية ( هويتهم هم ) ؟! أم ستكون وسائلُ المعرفةِ والثقافةِ في متناول الجميع؟! لاشك أن الأيام كفيلة بالإجابة.
فضلا عن ذلك فالأدب الرقمي يتطلبُ- غالبًا- أن يكون الكاتبُ والناقد على علمٍ بالبرمجة والإخراجِ والتصويرِ، وهذا يؤثر على المستوى الأدبي والفني، ويعملُ على قلبِ كثيرٍ من المفاهيمِ والمُصطلحات المُتَعارف عليها، وكسر العديد من الثوابت المتعلقة بالنص والقارئ، كما يتطلب تغيير ثقافة المجتمع وطرائق التفكير، وتطوير الشبكة الألكترونية حتى تكون أكثرَ سرعةً واقتصادًا لنشر هذا اللونِ من الأدب، وشيوع ثقافة الكتابة الجماعية؛ فيصبح للنص أكثر من مؤلفٍ من خلال أعمالِ الورش، وعلى النقاد أن يراعوا فيه ما يراعى في النقد السينمائي، فينظر في القيمة الفنية لكل عنصر من عناصر الأدب الرقمي على حده عند التقييم ( الكلمات . الصوت . الموسيقا. الصورة . الحركة) وتكون البطولة فيها للكلمة.



المراجع
————————
- إيمان يونس: الأدب الرقمي الواقع والتحديات، مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية، العام ٧، العدد ٥٨
-محمد عبد اللطيف الواري:الشعر البصري وتَوْشيّاته، القدس العربي،7-أكتوبر-2018.
-التلاوي محمد نجيب:القصيدة التشكيلية في الشعر العربي.الهيئة المصرية العامة اللكتاب 1998.
- فهد مرسي محمد البقمي: ظاهرة التشكيل البصري في الشعر بين النظرية والتطبيق، تجربة الناقد محمد الصفراني أنموذجا، مجلة كلية التربية جامعة الباحة، العدد ٣.
- فاضل يونس حسين:جماليات القصيدة الهندسية بين الواقع والطموح
دراسة استقرائية وتطبيقية، مجلة كلية العلوم الإسلامية، جامعة الموصل
المجلد السادس العدد الثاني عشر 1433هـ - 2012م.
- صادق القاضي: بين الفن التشكيلي والشعر، صحیفة اللغة العربیة 2020/23/9.
-والترج.أونج: الشفاهية والكتابية، ت حسن البنا عز الدين، محمد عصفور، الكويت، عالم المعرفة، العدد ١٨٢، ١٩٩٤



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى