د. محمود المهدي - عندما يكونُ الاتهامُ أُمْنِيَةٌ!

وُصِمَ البعضُ بأنهم يكتبون- حين يَكتبُون- ببيانٍ عالٍ، وأسلوبٍ راقٍ يستدعون فيه حُوْشِيَّ اللغةِ وغرِيبَهْا، ويُضربُون صفحا عما بين أيدِيهم من مُأْلُوفِ الألفاظِ، ومأنوسِ التراكيبِ، والحال أنها تصلُ بالمعنى نفسِه إلى حيث يرومُ القارئُ وينشدُ السامعُ؛ فلا يرقى لِكُنْهِ مقصودهم غيرُ فئةٍ خاصة- وهم قِلَالٌ- والمَعْنِيَُ في هذا السَّدِيمِ ما دونهم-وهم كُثْرُ- يقصرُ بهم الإدراكُ عن سبرِ غَوْرِ ما كتبوا، وهذا ما يجعلهم في مرمى سهامِ البعضِ؛ مدعين أنهم يَقْصِدُون إلى التَّعْمِيَةِ نَصًا وفَصَّا، وإيصادِ بابِ التَّفَقُّهِ دونهم. اهـ
وأقولُ للفريقين مَن وَصَمَ ومَنْ نَصَحَ: ليتَ سُبَّتَهم- إن كانت- حقيقةٌ؛ فهذا غايةُ مطمحِ الكاتِبِ- أيُّ كاتبٍ- ومسعى يَرَاعَتِهِ! إذ إنه يتتبعُ الألفاظَ في خدور المعاجمِ فيعطيها قبلة الحياة؛ حتى تتلبَس بالمعنى خدمةً للفكرةِ وللنصِ.
والحقيقةُ- عندي- الماثلةُ أمامي، أن اللغةَ مقصودٌ بها فوقَ وظيفَتِهَا التواصلية والنفعية، التَّرَيُّضُ الذهني في إدراك المعاني وفضِّ بكارة الأفكارِ، ومزمزةُ أفواهِ الألفاظِ الغانية المُسْكِرَةِ، وإلا لأغنتنا العاميةُ في التواصلِ وقضاءِ ما نَبْتَغِي، ولرفعتْ عنَّا الحَرَجَ، وما أُقِيمَ لبلاغتها مدارسُ أو منتدياتٌ، وما نُصِبَ لِنُصْرَتِهَا من معاركُ ...!
يقول عبد الحميد الكاتب : "خير الكلام ما كان لفظُهُ فَحْلًا، ومعناه بكرا" والفُحُولَةُ لا تقومُ بأيِّ لفظٍ، ولا تَتَأتَّى من عمومِ الحرفِ، كما لا تنقَادُ لكلِّ مُسْتَعْمِلي اللغةِ؛ فالناسُ متفاوتون في حُظُوظِهِم منها تفاوُتُهم في الأرزاق- وهي من مَشْمُولِ الرزقِ ومفاتيحِهِ- والمعنى الراقي لا يقومُ بحقه إلا لفظٌ شاردٌ، كالغزال تطلبُهُ بِشِقِّ الأنفسِ، فتَسْتَطْيِّبَهُ شِوَاءً، وتَسْتَمْلِحُهُ عِطْرًا؛ حتى يكونَ خريدةً فريدةً بين صنوفِ الألفاظِ، وألوانِ المعاني، وهذا ليس من قبيل غوايةِ اللفظِ، أو إغراءِ المعنى.
فاللغةُ روحٌ تَسْمُقُ في أطوارٍ بدءًا بومضةِ التخيُّلِ، ومرورًا بحيِّزِ التصورِ، ثم تُكْرَمُ وِفادتُهَا في سقيفةِ التأمُّلِ، وإلا فهي أبناء ُ عَلاتٍ أو بناتُ أَخْيَافٍ، وحروف ضُمَّ بعضُهَا إلى البعض، كقطيع النعاج لا يصيبك منها- مارًا بها- إلا مثارُ نقعٍ يحولُ بينك وبين سبرِ أغوارِهَا؛ فتقفُ بك عند حدودِ اللفظ، فلا تُفْتَحُ لك مغاليق ُالنصِّ، وقد أَخْفَقَتْ القُدْرَةُ في الاسْتِحْوَاذ على المعنى واستكناهِهِ.
فلغة التأمل فكر في لغة؛ مما يجدرُ بِنَا استمهالُ اللسانِ والذهنِ عند استنطاق التركيب من كل جوانية ، فيفيضُ علينا معناه ببركةِ جَمْهَرةِ الألفاظِ وضمها إلى بعضها، وما كان الإعياءُ في دروبِ اللغةِ للشَّقْوَةِ بها، بل ليذهبَ عن قَدِّنَا اللغوي الترهلُ في المعنى، والانبعاجُ في اللفظ؛ حين يُضَخُّ في الشرايين رقيقُ المعاني، وجزيلُ الألفاظِ، وعلو الأفكار ِ فينصهرُ ما داخلها من عقبات لغويةٍ، ويَخْرُجُ ما عَلَقَ بها من نِفَايَات لفظيةٍ، فتصبح البيئةُ مُهَيَّأةً لاستنباط الفكرة أو استنباتها؛ فينْقَادُ الحرفُ في يُسْرٍ على اللسانِ، و يجري في هَوَادَةٍ على السنانِ، و قد تلبَّس بِصِنْوِهِ من معنى؛ فتمسي حروفُنَا في سماقة أهل الرياضة البدنية؛ ذلك أنَّ الجهةَ قد تكونُ منفكةً بين المعنى المطروحِ واللفظِ المقصودِ،إذا حملَ المعنى ألفاظٌ تحيدُ عنه وتنفرُ منه، وكأن الغايةَ أو النصَ رَقَعَ على ذراعٍ هشةٍ؛ فلا اللفظ يحملُهُ، ولا المعنى يكفُّ عن جَذْبِهِ إلى الأرض !.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى